4 أفلام فائزة في "البحر الأحمر السينمائي": جسور الفهم والعاطفة

"الأستاذ" و"نورة" و"إن شاء الله ولد" و"بنات ألفة"

أبطال فيلم "بنات ألفة"

4 أفلام فائزة في "البحر الأحمر السينمائي": جسور الفهم والعاطفة

جدّة: في ختام الدورة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي في المملكة العربية السعودية، جاءت الانطباعات في مجملها مرضية لجميع المشاركين في المسابقة وشكلت نوعا من الإجماع العاطفي، خاصة في ما يتعلق بجائزة لجنة التحكيم، التي منحت للفيلم الفلسطيني، "الأستاذ"، بعدما قدمت المخرجة فرح النابلسي خطابا مؤثرا خلال تسلمها جائزة أفضل ممثل، بالنيابة عن الممثل الفلسطيني صالح بكري.

وكان لافتا في عروض المسابقة تقاطع محاور بعض الأفلام ووجود العديد من العناصر المشتركة.

في ما يأتي نستعرض أربعة أفلام شاركت في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، هي "الأستاذ" الفلسطيني، "نورة" السعودي، "إن شاء الله ولد" الأردني، و"بنات ألفة" التونسي.

الأستاذ: احتلال ونمطيات

تتشابك قصتا "الأستاذ" و"نورة" حول شخصية المدرّس كبطل رئيسي، إذ تسلطان الضوء على أزماته الداخلية وتتناولان تحدياته من خلال علاقته بطلبته.

وفي حين تظهر السينما عادة شخصية المدرس بأشكال ترنو من الحكمة، وتقدم تأثير المدرّسين على حياة طلابهم سلبا أو إيجابا، ففي هذين الفيلمين، نجد شخصية المدرس بجلالها، إضافة إلى المشاركة الوجدانية والفهم، باعتباره الشاهد على الأحداث.

في غمرة الانفعال العاطفي المفتعل، بدا أن الجميع يمارس التلقين، بل ظهرت الحالة الأدائية أسيرة استجداء مبتذل للعاطفة

في "الأستاذ"، تتعرّض حياة مدرّس اللغة الإنكليزية الفلسطيني باسم الصالح (صالح بكري) لانهيار كبير بعد وفاة ابنه المراهق ذي الـ 16 عاما في ظروف غامضة داخل السجون الإسرائيلية، مما يؤدّي أيضا إلى انهيار زواجه. ينكفئ الأستاذ في عزلته بين مكتبته المنزلية وطلاب المدرسة، يهتم بشكل خاص بطالبيه الأخوين آدم ويعقوب، ويشهد على لحظات هدم قوات الاحتلال منزلهما دون سابق إنذار، وحرق أشجار الزيتون المجاورة للبيت، إلى انتكاسات متتالية، مما يسفر عن انتكاسات هائلة في حياتهما بعد طردهما وتشردهما، ثم قتل يعقوب على يد مستوطن ومحاولة شقيقه آدم الانتقام بشتى الطرق.

AFP
المخرجة الفلسطينية فرح النابلسي تتسلم جائزة "أفضل ممثل" نيابة عن الممثل صالح بكري عن دوره في فيلمها "الأستاذ"، خلال حفل ختام الدورة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي في جدة في 7 ديسمبر 2023.

تتداخل ثلاثة خطوط موازية في الفيلم: تفاني الأستاذ باسم في دعم المقاومة الفلسطينية وإخفاء جندي أسير في منزله، رحلة البحث عن الجندي الأسير من قبل عائلته الأميركية، غضب آدم المتزايد وسيطرة فكرة الثأر لشقيقه، حيث تشكِّل هذه الخطوط مزيجا متقلبا يهدّد بتدمير الجميع.

من جانب آخر يظهر خط إضافي لشخصية ليزا، المتطوعة الاجتماعية البريطانية في المدرسة، التي تتعاطف مع عائلة آدم ويعقوب وتتطور علاقتها بالأستاذ باسم من علاقة زمالة إلى علاقة عاطفية وبعد أن اكتشفت مهمته السرية كشريك للمقاومة الفلسطينية يواجهها بالقول: "أنا مقيد بالاخفاقات وبالماضي، بينما امرأة مثلك لها حرية الإختيار وأنتِ اخترتني".

كان من الممكن في تقاطعات الخطوط المذكورة أن ينجو الفيلم من حوارات نمطية تفتقر إلى المبارزة التمثيلية المتوقعة، مثل مشاهد عائلة الجندي الأسير المنزلية، ومشاهد استجواب الضابط، أو مشهد المواجهة بين والد الجندي ومختطفه باسم، وهو مشهد يفترض أن ينقل لنا إحساس ترقب مهيب، لكن في غمرة الانفعال العاطفي المفتعل، بدا أن الجميع يمارس التلقين، بل ظهرت الحالة الأدائية أسيرة استجداء مبتذل للعاطفة، وانفعالات منظمة سلوكيا أفسدت رسالة الفيلم.

نورة: حيّز ضيق

على غرار الأفلام الأوروبية الكلاسيكية التي تتمحور حول ثنائية علاقة الفنان التشكيلي بالعارضة، مثل فيلم "الفتاة ذات القرط اللؤلؤي" للمخرج بيتر ويبر، يسير المخرج السعودي توفيق الزايدي في فيلم "نورة" الذي فاز بجائزة أفضل فيلم سعودي، على الخط الدرامي الرومانسي نفسه، بتحفظ يعكس خصوصية الظرف المكاني في قرية نائية يعاني سكانها من الأمية.

تدور أحداث الفيلم في منتصف تسعينات القرن الماضي في قرية صغيرة تابعة لمنطقة العلا، حيث يدرّس رسام واستاذ شاب يدعى نادر (يعقوب الفرحان) القراءة والكتابة لأبناء القرية، عندما تطلب منه الفتاة نورة، الشقيقة الكبرى لأحد الطلاب، والمتأثرة بصور الإعلانات والفتيات العارضات في المجلات الفنية أن يرسمها بشكل سري على فترات مجزأة داخل بقالة صغيرة.

من حول هذه الحبكة التي تبدو بسيطة، صاغ توفيق الزايدي، وهو ابن المدينة المنورة والعالم ببيئتها، هذه المهمة النبيلة، فيتخذ المدرّس في فيلمه دور الرحّالة بين مساحات الجهل والعقل ويمثل جسرا بين العالم الواقعي والعوالم الخيالية، ويفترض أنه يرتقي بالروح إلى آفاق الأحلام والإمكانات.

بين اللحظة التي ترصد فيها الكاميرا دخول المدرّس للقرية، إلى اللحظة التي يغادرها مطرودا، لا تحدث في  فيلم الزايدي سوى مغامرة واحدة تتكرر ضمن الحيز المكاني الذي خصص له، بينما بقي الحيز الدرامي دون تحديث أو تطوير عميق.

 يوثّق "نورة" مرحلة صعبة في تاريخ السعودية المعاصر، مع إشارة إلى أزمات اجتماعية تتعلق بمواجهة التعليم والفنون

يظهر البائع الهندي هنا دورا حيويا ومساهما في تحريك الشخصيات الراكدة مع إيقاعها المتباطئ، حيث لا تصل القصة بين نادر ونورة إلى علاقة عاطفية متجاوزة إطار الأعراف، ولم تذهب إلى صراع يجعل أحد الأبطال في مفترق طرق واضح المعالم، بل بقي في محور الفتاة المراهقة التي تذهب خلسة إلى بقالة صغيرة في منطقة مهجورة، تصنع قصاصات من المجلات على أنغام أغاني التسعينات، ومدرّس يرسم عينيها الظاهرتين من نقاب الوجه، وهذا كل شيء.

اعتمد المخرج في كتابته النص على عنصر البساطة، لتعكس السمات الشخصية لأصحاب القرية، على تفاوت أعمارهم كبارا وصغارا. يرتكز عنصر السذاجة في طور العلاقات المستأنسة بين الجنسين، على مداعبة مشاعر العامة من خلال ثنائية الرجل الحداثي والفتاة القروية، تلك العلاقة التي يفرضها المنطق  بحدود إلزامية، ثم اقترابها نحو العطف والشفقة وصولا إلى علاقة حب غير متكافئة، وقد رأينا تلك النماذج مسبقا في أفلام مثل "دعاء الكروان"، و"الرجل الذي فقد ظله".

إلا أن قراءة هذا العمل تظلّ  ممكنة من زاويتين مختلفتين: الزاوية الأولى هي الغربة الداخلية لشخصية نادر، وإن كان في سياق بنية الفيلم، مما يهدد بجعلها غير واضحة تماما، أما الزاوية الثانية فتوثيق مرحلة صعبة في تاريخ السعودية المعاصر، مع إشارة إلى أزمات اجتماعية تتعلق بمواجهة التعليم والفنون وحق المرأة في الحياة.

"إن شاء الله ولد": النصف المعطّل

بين الأفلام الأخرى التي برزت في المهرجان، نتوقف عند فيلمي "إن شاء الله ولد" الذي حازت بطلته منى حوا جائزة أفضل ممثلة في دور رئيسي، وفيلم "بنات ألفة" الذي فاز بجائزة أفضل عمل وثائقي، والفيلمان مرشحان لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي.

يشترك الفيلمان في أن البطولة النسائية فيهما تعاني من مظلومية كبيرة وتفتقر إلى وجود خيمة أبوية، لا نقول بالمعنى المثالي للأبوة، بل بالمعنى العادي لها، لتظلل العائلة في خلفية المشاهد أو في موازنتها.

في "إن شاء الله ولد" تكمن الذكورة في الأخ وشقيق الزوج وزميل العمل والفتى الجالس في رصيف الحارة  وفي ظل هذا الحصار الخانق يطرح المخرج الشاب أمجد رشيد من خلال تجربته الأولى السؤال: كيف يمكن أن يتطور المجتمع إذا كان نصفه معطلا؟

يحكي الفيلم قصة نوال وهي أم لطفلة وحيدة تعاني من إشكاليات في الحصول على حقوقها من الإرث إثر وفاة زوجها، وتشير الأحداث إلى تحول الأمور لصالحها لو كانت حاملا بولد حسب القوانين الشرعية، بينما كل ما ترغب به الأرملة المكلومة هو البقاء تحت سقف منزلها المتواضع على الرغم من ظهور فئران في المطبخ، إلا أنها مع الوقت تدرك أن رعبها من الفأر أرحم بكثير من رعب العالم القريب منها، الذي يفترض أن يكون سندها الأول.

تعزز الحبكة الدرامية فكرة أن قوانين المجتمع تسيطر على المرأة بغضّ النظر عن الطوائف المختلفة

نجح أمجد رشيد بالتعاون مع الكاتبة دلفين أوغت في أنسنة الشخصيات بدقة واتخذ خطين متوازيين: المرأة المحجبة الملتزمة التي تلجأ الى جميع الحيل لكي تلبي طلب المجتمع وتتمنى الولد، في حين تسعى امرأة مسيحية مرفهة إلى الانفصال على الرغم من رفض القوانين الكنسية ذلك.

تعزز الحبكة الدرامية فكرة أن قوانين المجتمع تسيطر على المرأة بغض النظر عن الطوائف المختلفة، وعلى الرغم من سطوة الصوت الذكوري في الفيلم، فإنه لا يذهب إلى شيطنة شقيق الزوج رفقي (يؤدي دوره هيثم العمري) إلى الحد الأقصى أو التطرف النمطي الذي نشهده في أعمال درامية مماثلة، بل يعرض كل التوترات المسبقة التي أدّت إلى مطالبته بالإرث مع مراعاة كاملة لابنة أخيه

كذلك لم يذهب إلى مسكنة نوال بالكامل على الرغم من تكالب الظروف عليها، بل برهن أن مسارات الحياة قد تجبر المرء على اتخاذ طرق الاحتيال والخداع والكذب من أجل طوق نجاة واحد، وأن للأنسان قناعاته الظاهرة ونزعاته المتأرجحة.

بنات ألفة: قبضة الوحش

على الرغم من نيل هذا الفيلم للمخرجة التونسية كوثر بن هنية جائزة أفضل عمل وثائقي، يظلّ  صعب التصنيف، فهو يتراوح بين الجوانب التسجيلية والروائية. ولا يمكن تغليب جانب على حساب الآخر، إذ ينقلب في بعض المشاهد ليصبح روائيا بحتا ويعود في مشاهد أخرى ليكون إفادات موثقة.

ترسم بن هنية لوحة فنية مؤثرة لحياة عائلة حمروني في أعقاب ثورة 2010-2011 في تونس. وتتقن استخدام مزيج فريد من المقابلات بين الشخصية الواقعية ألفة، وهي سيدة مكافحة وأم لأربع بنات من بينهن الكبيرتان (غفران ورحمة) اللتان انضمتا إلى "داعش"، وبين من تقوم بدور ألفة، الممثلة التونسية هند صبري. تخوض ألفة التجربة مع ابنتيها تيسير وإيمان بلا تابوهات، على الرغم من أن استرسال الشخصيات في التفاصيل يجدد الجروح القديمة، ويكسر حاجز الصمت في تجربتين مزدوجتين: تجربة الراوي في كواليس تحضير الفيلم، وتجربة التمثيل في مشاهد درامية تعكس حياة الشخصيات السابقة لمكاشفة أراوحهم الإنسانية الهشة.

 تمارس ألفة من خلال طاقتها الذكورية أشد أنواع العقاب القاسي، هادمة جميع جسور الفهم والاحتواء العاطفي

تعترف ألفة في أكثر من مشهد بأنها كانت تقبض على ملمح الأنوثة قبضة الوحش. هكذا كانت تحمي صغيراتها من العالم الخارجي الذي ترى أنه يطمع بهن. تمارس ألفة من خلال طاقتها الذكورية أشد أنواع العقاب القاسي، هادمة جميع جسور الفهم والاحتواء العاطفي، فيتغلب الخوف والقلق على الحب، والغضب والضجر والعنف تطفو على السطح.

ماذا بعد الاعترافات؟

يتجنب الفيلم الأساليب التقليدية لمقاربة الأحداث الواقعية، ونرى هند صبري في محاولة لالتقاط لغة جسد ألفة وطريقتها في الحديث، ونجدها تلومها في توقيت آخر على أسلوبها القاسي في تربية بناتها.

تأتي المشاهد تحضيرية ودرامية منفذة وتتضمن شهادات حية في آن واحد، ونتساءل: هل تتسبب العشوائية والتذبذب في فقدان الفيلم جاذبيته بعد الساعة الأولى؟ إلى حدّ كبير، نعم، إذ بدأ الإيقاع يهبط بعد الساعة الثانية عند انغماس ابنتيها ايمان وتيسير في مراحل لبس النقاب والتعمق في حياة القبر. يظهر الفيلم مشاهد مكررة لمناجاة الأختين الغائبتين، وعلى الرغم من ذلك، يُنقذ الفيلم في الدقائق الأخيرة لمعرفة ما تبقى من خبايا ألفة ومأساتها التي تتلوها بطريقة لا تخلو من خفة الظل والشفافية، مما يقدّم زاوية مهمة حول البيئة والنشأة وتأثير الظروف السياسية على مصائر الأفراد.

font change

مقالات ذات صلة