الريف والمدينة وما بينهما ضمن "البحر الأحمر السينمائي"

"الثلوج الأخيرة" و"الأحد" من إيران وأزبكستان

من فيلم "الأحد"

الريف والمدينة وما بينهما ضمن "البحر الأحمر السينمائي"

جدة: انطلق برنامج مهرجان البحر الأحمر السينمائي في اليومين الثاني والثالث من دورته الثالثة، بالعروض الأولية لأفلام من منطقة الشرق الأوسط، شملت أعمالا مميزة نذكر منها الفيلم الإيراني "الثلوج الأخيرة" ضمن برنامج اختيارات عالمية، وفيلم من أوزبكستان بعنوان "الأحد" ضمن المسابقة الرسمية.

وعلى الرغم من اختلاف خطوط الحكاية والخلفيات بين الفيلمين، فقد تجلّت سمات مشتركة بينهما في أشكال الحب المتعدّدة والغير مرئية على شاشة العرض. فالفيلمان ينبعان من بيئتهما الجغرافية الريفية، إذ يقدّم كل منهما تصويرا لطبيعة الحياة وكيفية التعاطي مع العلاقات الإنسانية والمشاعر تحت وطأة المناطق النائية والطقس القاسي. فأين يكمن الحب بين طيات الفيلمين؟

الثلوج الأخيرة

في فيلمه الروائي الثاني والذي أنجز بعد تسعة أعوام من عمله الأول "بلا حدود"، اختار المخرج الإيراني أمير حسين أصغري العناصر المرتبطة بالخشونة والقسوة بصريا، مستغنيا عن التأثيرات الخاصة، لينسج هذه الواقعية الصلبة على خلفية شاعرية مضمرة.

بطل الفيلم طبيب بيطري يدعى يوسف (يؤدّيدوره الممثل أمين حياي)في منطقة جبلية بريف إيران، وهو شخصية انعزالية هادئة، يعيش مغمورا في الطبيعة البيضاء وثلوج فصل الشتاء.

تتبين في المشاهد الأولى معاناة يوسف وهو يقوم بمداواة نفسه من حروق جسيمة في جسده، بعد محاولته إنقاذ أبقار من حريق مأساوي، ونتيجة لذلك تخلت عنه زوجته وتركته يعاني وحده الآلام والتشوّهات الجسدية، يُنصح يوسف بترك القرية، لكنه يختار البقاء ومعالجة جرحه العاطفي برعاية الأبقار والأغنام.

اختار أمير حسين أصغري العناصر المرتبطة بالخشونة والقسوة بصريا، مستغنيا عن التأثيرات الخاصة، لينسج هذه الواقعية الصلبة على خلفية شاعرية مضمرة

يظهر الطبيب في لقطات حانية وهو يرعى الماشية، لكنه يحمل ضغينة تجاه الذئاب، بسبب اعتقاد صديقه خليل (ماجد صالحي) بأنها هاجمت ابنته المختفية. تتطور القصة حيث تكشف الأسرار وتتداخل مع تهديدات بالزواج القسري. ومع تقدم الأحداث، تتسارع الأمور عندما يقود خليل حشدا غاضبا لمطالبة الجهات المسؤولة بقتل الذئاب، وتدخل هنا الناشطة البيئية رانا المدني (لادن مستوفي)في صراع مقابل حقوق الحيوان وحماية الذئاب من القتل، بينما يراقب يوسف كل تلك التوترات ويمضي بصمت مطبق، كأنه مرغم على العيش وسط هذه التناقضات.

في التصنيف الدعائي للفيلم نجد عبارتين "عنف وقتل"، كما أن الملصق الفني الخاص به يوحي بمعركة بقاء في طبيعة قاسية. وعلى الرغم من صعوبة ترويض الذئاب، إذ لا ينصاع الذئب لأوامر البشر بل الأخيرون هم من يتبعون الذئب، فإن الذئاب ترمز إلى شيء آخر. وسواء كان الفيلم يتحدث عن الذئاب أو عن الأبقار أو عن الثلوج، فكلها رموز ومعان حاول المخرج أن يبقيها في الخلفية ويُركز على خطوط القصة الرئيسية.

لقد كان بإمكان أمير حسين أن يركز على سبيل المثال على قصة ابنة الصديق خليل، التي اختفت أو غُيبت بطريقة ما خوفا من الزواج القسري، لكنه اختار معالجة هذه الجزئية تحديدا، على أنها جزء في خلفية القصة الرئيسية، ألا وهي قصة الحب.

الفيلم الإيراني "الثلوج الأخيرة"

وعندما نتأمل تشابك الأحداث، تتبدّى لنا أن أشكال متعددة من الحب دون البوح به أو إظهاره بالسردية التقليدية. فتتجسد صورته في الابنة المراهقة والمختفية خورشيد مع الفتى إيمان، وفي الحب بين الزوج وزوجته اللذين يتشاجران على الدوام بسبب اختفاء ابنتهما، وهناك الحب الذي يربط المرأة الناشطة البيئية بالذئاب وبكل ما يتعلق بالطبيعة، والحب الذي يجمع الطبيب البيطري والأبقار، ثم الحب الذي نما بإشارات معقّدة بين الناشطة والطبيب بعد مواجهات حادّة تتحوّل تدريجيا إلى جلسات فضفضة ودية.

وفي إحدى تلك الجلسات، تتوجّه رانا بحديثها بحذر ليوسف بعد أن لان قلبها: "نحن متشابهان.. أنت تحب الأبقار، وأنا أحب الذئاب، لقد أحببت بقرة ذات مرة، والله أعلم متى ستحب أنت الذئب".

كلما اقتربنا من نهاية السرد، تقترب موسيقى مسعود دوستالتصويرية متجاوزة الإطار بتفكيك رمزيات الحب، تسبقها مراحل تتخللها، يشوبها الخوف على كل أبطال هذه القصة. فإما أن تتجاوز خوفك وتلحق بالذئاب، التي هي مصدر الخوف الرئيسي لكي توصلك إلى إدراك هذا الحب، وإما الخسارة المتجسّدة في انحسار المشاعر.

الأحد

هنا مرة أخرى، نجد أنفسنا أمام علاقة تهيمن عليها الحياة النائية، إنما بصورة خالية من العنف، مع القليل من نسائم الحب.يروي فيلم"الأحد" من إخراج شوكير خوليكوف وتأليفه،قصة زوجين مسنين من أوزبكستان، يحافظان على أسلوب حياتهما التقليدي في منزل ريفي متهالك بعيدا عن المدينة، يشاركان في جزّ صوف الأغنام وصناعة السجاد وحلب الماعز، وزراعة البطيخ. تفرض العجوز قاعدة تقضي بأنه لا يُسمح لأحد قريب أو غريب بمغادرة المنزل دون تقديم الطعام له، وتمضي الليل في رعاية زوجها الذي يظهر تذمره الدائم ولا نرى في ملامحه تعابير مختلفة سوى العبوس، في حين تتماهى الزوجة مع هذه الجدية بمجاراته والسير برضا وفق أهوائه.

يتصاعد غضب الزوج إلى أقصى حد عندما يقوم ابناه البالغان، الذي يعيش أحدهما قريبا والآخر يعيش في الخارج، بتجديد كماليات المنزل بكماليات أخرى جديدة لا تتناسب مع عاداتهما. يخطط الابنان لهدم منزل العائلة وإعادة بنائه، متجاوزين اعتراض والدهما. وتستمر هذه المعضلة لتبين الهوة بين الأجيال والإحساس الغريب بالوحشة، مع عرض مستجد لذكر أيام الأسبوع قبل الانتقال إلى اليوم التالي.

ربما يتعين علينا السؤال عند مشاهدة الفيلم حتى منتصفه: ما جدوى العرض المتكرر لأيام الأسبوع كفواصل بين المشاهد؟

في المقام الأول، نحن أمام فيلم سينمائي بالمعنى البصري للكلمة، استخدم المخرج الشاب بهدوء وعذوبة الربط بين عالمين: العالم الحديث الذي نرى هوامشه في شخصية الابن البكر، وهو يجلب المعدات الحديثة بقيمتها المتواضعة بالتدريج إلى منزل والديه، ويضعها بشكل خاطف تحت مسؤولية الأم، وعالم الوالدين البدائي، إنما الحميمي.

يروي "الأحد" قصة زوجين مسنين من أوزبكستان، يحافظان على أسلوب حياتهما التقليدي في منزل ريفي متهالك بعيدا عن المدينة

في توليفة كهذه والتي غالبا ما يكون الحوار فيها شحيحا للغاية لصالح الصورة، لابد من ذكر الأيام بأسمائها، إذ لا يتقدم شيء في عمق هذا الروتين الأسري، سوى الأيام وتبدل الفصول. ومن جانب آخر، وفّر المخرج المنطوق في السينوغرافيا في عمق تكوينات المشهد، مثل التصوير الشاعري الذي طغى على مشاهد عديدة تتعلق بأعمال المنزل ومنها التكوينات اللونية في تحضير الصوف وغزله، مع إيقاع تدفق بطيء يعكس تغيرات فصول السنة، وقد صوّرت بالكامل داخل المنزل، مع لمحات من المناظر الطبيعية حوله وما يتبع هذا الصمت من ردود الأفعال الساخرة أحيانا مما ينتج عنه مواقف طريفة، مثل مشاهد مهمة الزوجة في تغيير أقنية التلفزيون عبر جهاز التحكم، ومشاهد الحيرة في التعاطي مع الأجهزة الذكية.

وعلى الرغم من أن خوليكوف يصور لنا معاملة الزوجة العطوفة تجاه زوجها، إلا أنه يصورها أيضا في حالة دائمة من القلق والخوف من تقلبات مزاجه عند كل تحديث يخالف قوانين روتينهم. يعكس مخرج الفيلم بفطنة ووعي حاد طبيعة الحياة النائية وتأثيرها على نفسية الأفراد، حيث يظهر السرد التعبيري بسكون طوال الفيلم دون إشارات أو تلميحات للمتفرج، في حين يأتي الضجيج مما هو آت من المدينة.

يشكل " الأحد" سردية مثلثة الأبعاد: من ناحية أولى، هو فيلم عن المؤانسة بمعناها الحميمي والواسع في الشيخوخة بتضمين المودة والأمان والرعاية والروتين المقدس، وفي الوقت نفسه العناد وسوء المزاج والأمراض.

فيلم "الأحد" من أوزبكستان

ومن ناحية ثانية، هو فيلم عن تداعيات الشرخ الكبير بين المدينة والريف، وتفاوت الأجيال، وسوء الفهم، كل ذلك يظهر من خلال عدسة متخففة من الحشو الخطابي أو النظرة الاستعلائية. وفي النهاية، هو محاولة للنظر إلى البناء المسبق في الفيلم من منظور قصيدة محكية، تستشعر أبياتها عبر شريط الصوت في الطبيعة، والخبز المحمر في التنور، وغزل الصوف الملون، وقنوات التلفزيون، وصوت صمت الزوجين الطويل.

الجدير بالذكر أن فيلم "الأحد" لخوليكوف هو الروائي الطويل الأول له بعد عدة أفلام قصيرة، وقد نال أخيرا جائزة أفضل فيلم في الدورة الخامسة والعشرين في مهرجان شانغهاي السينمائي للمواهب الآسيوية.

font change

مقالات ذات صلة