حماسة إسرائيل للتطبيع تخفي انقسامات أعمق وأوهاما حول التسوية

هل تقبل بإيجاد طريق للعودة إلى عملية السلام؟

أ.ف.ب
أ.ف.ب
حفل توقيع "اتفاقات أبراهام" في البيت الأبيض في واشنطن في 15 سبتمبر 2020

حماسة إسرائيل للتطبيع تخفي انقسامات أعمق وأوهاما حول التسوية

نادرا ما تُظهر استطلاعات الرأي في إسرائيل أغلبية كبيرة داعمة لأي برنامج أو حركة سياسية، ولكن قبل أسابيع قليلة من اتخاذ دولة الإمارات العربية المتحدة خطوة غير مسبوقة في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل قفزت نسبة الإسرائيليين الذين يؤيدون فكرة التطبيع إلى قمة غير معهودة ببلوغها 80 في المئة.

وجاء الاتفاق في وقت كان فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يقدم مشروع قانون جديد لضم الضفة الغربية المحتلة، ما أثار وقتها توترات كبيرة. غير أن المشروع الخطير الذي دعمه رئيس الوزراء الإسرائيلي هُجر لصالح ما بات يُعرف بـ "اتفاقات أبراهام". وأظهر استطلاع للرأي أن أغلبية واسعة أيدت التخلي عن مشروع القانون المثير للانقسام إن كان التخلي عنه يعني تمهيد الطريق أمام تطبيع العلاقات مع أبو ظبي.

لقد بين ذلك أن الإسرائيليين تبنوا التطبيع حقا وأبرز رغبتهم العميقة في الاندماج في المنطقة. ومع ذلك، فإن الدوافع وراء هذا الدعم الواسع لـ "اتفاقات أبراهام" تختلف من جهة سياسية في الطيف السياسي إلى أخرى. فالدعم الذي حظيت به اتفاقات 2020 غير مسبوق لأنه لم يكن على إسرائيل أن تقدم تنازلات تُذكر.

أما الجدل حول الضم فهو إلى حد كبير من صناعة نتنياهو لأغراض انتخابية يرمي من ورائها إلى خلق فجوة واسعة بين حلفائه اليمينيين ومعسكر يسار الوسط، وإلى زيادة دعم اليمين المتطرف له. وعلى العموم، فإن التخلي عن مشروع لم يتحقق ليس كتقديم تنازلات أعمق وأكثر ديمومة - وهو نوع من التنازلات سيغدو من الواجب تقديمه في أي اتفاق مستقبلي.

يؤيد معظم الإسرائيليين منحى الانفتاح على المنطقة، ولكن الانقسامات تعاود ظهورها مجددا

وقد أظهرت السنوات اللاحقة أن السؤال الحقيقي وراء التطبيع، أي ما التسوية التي ستكون إسرائيل مستعدة لإبرامها في أي اتفاق مستقبلي، لا يزال سؤالا تثير خلافات حادة بين الإسرائيليين. وبالتأكيد، يؤيد معظم الإسرائيليين منحى الانفتاح على المنطقة، ولكن الانقسامات تعاود ظهورها مجددا ما إن يرُبط هذا المنحى بـ "ثمن" - تنازلات للفلسطينيين.

لم يكن هذا السؤال أكثر أهمية مما هو عليه الآن، بعد الهجمات الأسوأ التي تعرضت لها إسرائيل والرد الإسرائيلي الهائل في غزة.

فمن الواضح أن شطرا من الطيف السياسي الإسرائيلي تبنى الاتفاقات لأنها ستفيد (في رأيهم) في دفن القضية الفلسطينية أكثر. ومن أبرز هؤلاء رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي أكد غير مرة أن عملية التطبيع لن تتطلب أبدا أي إحياء لعملية السلام مع الفلسطينيين. وقبل بضعة أسابيع فقط من هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي إنه لا ينبغي أن يكون للفلسطينيين أي "فيتو" على التطبيع في المستقبل. وفي عدة مناسبات كان نتنياهو أكثر وضوحا، إذ يفصح عما قد يكون اعتقادا حقيقيا لديه بأن التطبيع مع العالم العربي سيعمل أيضا على تجاوز الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مما يقلل الحاجة إلى أي نوع من الحل الدبلوماسي.

يعتقد نتنياهو أن التطبيع مع العالم العربي سيعمل أيضا على تجاوز الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مما يقلل الحاجة إلى أي نوع من الحل الدبلوماسي

وقبل أسابيع فقط من هجمات أكتوبر، كان نتنياهو مستعدا لتقديم أي تنازل مقابل انتزاع اتفاق مع السعودية. وبحسب ما ورد فإن الاتفاق الذي تفاوضت عليه إدارة بايدن في ذلك الوقت كان يتضمن ختم موافقة أميركية فعلية ودعما ماديا لمشروع البرنامج النووي السعودي. وقد أثارت هذه الفكرة حيرة جزء من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي تتخوف من خطر انتشار مزيد من الأسلحة النووية في المنطقة، وإن في دول صديقة. ومع ذلك كان نتنياهو على استعداد للنظر في مثل هذه الصفقة والموافقة عليها. ولكن عندما يتعلق الأمر بتنازلات محتملة للفلسطينيين، يرفض رئيس الوزراء الإسرائيلي ذلك.

أ.ف.ب
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالقرب من مستوطنة هار حوما الإسرائيلية (في الخلفية) في 20 فبراير 2020

وبطبيعة الحال يعود شطر من موقفه هذا إلى رغبته في إرضاء حلفائه من اليمين المتطرف، بن غفير وسموتريش. فقد رفض هذا الثنائي اليميني المتطرف رفضا قاطعا أي جهد لتحسين حياة الفلسطينيين أو تقوية السلطة الفلسطينية، وهي الثقل الفلسطيني الوحيد المعادل لـ "حماس". فاليمين المتطرف في إسرائيل هو التيار السياسي الأقل تحمسا لفكرة التطبيع.

وقد كان سموتريش نفسه داعما رئيسا لجهود ضم الضفة الغربية، التي أحبطتها "اتفاقات أبراهام". ومع تزايد الضجة حول صفقة محتملة مع المملكة العربية السعودية، في أيلول/سبتمبر من العام الماضي، هدد بن غفير بالانسحاب من التحالف الذي يقوده نتنياهو. وحذر قائلا: "إذا كانت هناك تنازلات للفلسطينيين، فلن نبقى في الحكومة". أما سموتريتش فكان أكثر ذكاء، حيث قال إنه سيوافق على صيغة "السلام مقابل السلام"، أي أن تعقد إسرائيل سلاما مع السعودية مقابل أن تعقد سلاما مع إسرائيل (رغم أن الدولتين ليستا في حالة حرب رسميا). والفكرة الضمنية في صيغة "السلام مقابل السلام" هي أن أي اتفاقا لتطبيع العلاقات ينبغي أن يكون كافيا بحد ذاته، ولا يتطلب السلام الآخر - السلام الذي لا يريده اليمين المتطرف بالتأكيد: أي السلام مع الفلسطينيين.

هدد بن غفير بالانسحاب من التحالف الذي يقوده نتنياهو إذا قدم أي تنازلات للفلسطينيين

ولكن إلقاء اللوم على حلفاء نتنياهو من اليمين المتطرف في إحجامه عن زحزحة موقفه من الفلسطينيين يمنحه تصريحا لا يستحقه. فمعارضة نتنياهو أبعد غورا، وتعود إلى صميم أيديولوجيته، التي ولدت هي ذاتها من فكرة أصلية لأحد أبرز مؤسسيي اليمين الإسرائيلي، زئيف جابوتنسكي.

ففي إحدى مقالاته الرئيسية، كتب جابوتنسكي (الذي لم يكن سكرتيره سوى والد نتنياهو) أن العرب لن يأتوا إلى طاولة المفاوضات وقبول وجود إسرائيل إلا إذا نشرت إسرائيل حولها "جدارا حديديا"، ولم تلن لهم أبدا.

ما الذي يريده الإسرائيليون أنفسهم؟

لا شك في أن اتفاقات إبراهام كانت في ذهن نتنياهو تجسيدًا لــهذه النبوءة (كما فسرها هو)، أي إذا صمدت إسرائيل في موقفها فإن دول المنطقة ستضطر في النهاية إلى القبول بوجودها. وهذا ما يفسر لِمَ ظل نتنياهو غير راغب ولا في مجرد النظر في أفكار كهذه، حتى بعد 7 أكتوبر ووسط إشارات واضحة على أن السعودية (والولايات المتحدة) ستطلب خطوة مهمة نحو السلام. وهذا ليس لأنه ببساطة مدين بالفضل لحلفائه من اليمين المتطرف، بل لأن ذلك سيكون ضد قناعته التي تكمن وراء دعمه للتطبيع.

وعلى نحو ملموس أكثر، لو كان اعتراض نتنياهو متعلقا ببساطة باعتراض شركائه في الائتلاف الحكومي، لكان بمقدوره أن يسعى لتغيير ائتلافه. وفي ذلك الوقت (قبل 7 أكتوبر) قال مسؤولون من حزب المعارضة الرئيس بزعامة يائير لبيد إن حزبهم سيدعم على الأرجح اتفاقا (يعني اتفاقا يقدم تنازلات للفلسطينيين) إذا ما عُرض على الكنيست. وهذا من شأنه أن يضع نتنياهو في مأزق بالتأكيد، لأن لبيد لم يكن ينوي دخول الحكومة ليحل محل حليفه اليميني المتطرف.

أظهرت أحزاب الوسط الإسرائيلية مرونة أكبر، وتفهما بأن التطبيع سيكون بالتقدم نحو السلام ونحو الدولة الفلسطينية

ولكن الطبيعة التاريخية لاتفاق مع أهم دولة، كان يمكن لها أن تبرر هذه القفزة في المجهول، هذا لو كنا نتحدث عن أي سياسي آخر في إسرائيل غير نتنياهو. كما أظهر هذا أيضا أن في إسرائيل أحزابا كحزب لبيد تتفهم وترغب في ربط الصراع العربي الإسرائيلي (وحله عبر التطبيع)، بالتقدم في الملف الفلسطيني.

وقد أظهرت أحزاب الوسط الإسرائيلية مرونة أكبر، وتفهما بأن التطبيع سيكون بالتقدم نحو السلام ونحو الدولة الفلسطينية.

ومع ذلك، ربما تكمن المشكلة الرئيسة في أن الجمهور الإسرائيلي لا يدرك مدى ارتباط المسألتين في الوقت الحاضر. فقد أزالت اتفاقات أبراهام التهديد بالضم، ولكن القليل من الإسرائيليين يتذكرونها على هذا النحو. فسنوات من الادعاءات التي قادها نتنياهو بأن عملية التطبيع لا علاقة لها بالصراع مع الفلسطينيين، تركت أيضا انطباعا دائما لن يكون من السهل تبديله.

الجمهور الإسرائيلي منسي في كل هذا النقاش، ولكن النقطة الحاسمة هي: هل سيقبل الإسرائيليون أنفسهم ضرورة التوصل إلى التسوية وإيجاد طريق للعودة إلى عملية السلام، جزئيا من أجل المضي قدما في علاقات أفضل مع المنطقة.

font change


مقالات ذات صلة