كيف أخطأت إسرائيل في قراءة "حماس"

تجسيدا لمثل "أسوأ من الأعمى الذي لا يريد أن يرى"

براين ستوفر
براين ستوفر

كيف أخطأت إسرائيل في قراءة "حماس"

القدس- في أعقاب الإخفاقات الاستخباراتية الأكثر تدميرا في تاريخ إسرائيل، أنشأت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) في عام 1974 وحدة جديدة مكرسة لضمان عدم تكرار الخطأ نفسه؛ فقبل عام واحد من ذلك التاريخ وحسب، كانت إسرائيل قد أخطأت في قراءة نوايا الرئيس المصري أنور السادات بإعلان حرب مفاجئة على إسرائيل خلال عطلة يوم الغفران اليهودية. وأخذت القوات المصرية إسرائيل بغتة وهي غير مدركة وغير مستعدة للحرب.

واستنادا إلى توصيات لجنة التحقيق، أنشأت "أمان" وحدة كاملة تُدعى "مَخليكيت ها بكارا" أو "دائرة المراقبة". ويُطلق على الدائرة في كثير من الأحيان لقب "محامي الشيطان"، أو "إيفحا مِسْتَبرا"، وهو قول آرامي يعني "ثبُت العكس". ويتمثل دورها في التحقق من التقييمات التي تُقدمها فروع مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي الأخرى ومعارضتها على نحو فعال؛ فحتى لو أن الرأي العام أجمع على أمر ما، فإن وحدة "إيفحا مِسْتَبرا" تقول العكس، وتُجادل ضد هذا الأمر بنشاط. وكان يُنظر إليها على أنها وسيلة لتجنب الانزلاق إلى فخ "تأثير الجماعة"، ومع مرور الوقت، تطور هذا الأسلوب إلى ممارسة استخباراتية قياسية تعرف بـ"اختبار الفريق الأحمر"، تُستخدم لتفادي الفشل الاستخباراتي الكبير.

أنتجت هذه الوحدة بعض العقول العظيمة في أجهزة الأمن الإسرائيلية، مثل: يعقوب عميدرور، أو عاموس جلعاد. ويتمتع القسم نفسه بإمكان الوصول إلى مجموعة المعلومات الاستخبارية نفسها ونقاط البيانات التي يتمتع بها "المنافس" الرئيس له، وهو فرع الأبحاث في "أمان". ولكن على مدى العقود الماضية، كانت قيمتها تتراجع، وتوقف كبار مسؤولي الاستخبارات فعليا عن الإصغاء إلى تقييمها. ونادرا ما ثبت أن التقييم الذي أصدرته كان صحيحا. وكانت نجاحات هذه الوحدة قليلة جدا في تقديم تقييمات قيمة.

صبيحة 7 أكتوبر/تشرين الأول الذي بدأ هادئا، تمكن أكثر من ألف من كوماندوز "حماس" من وحدة النخبة من العبور إلى إسرائيل، وهاجموا المجتمعات الحدودية والقواعد العسكرية، ودفعوا المنطقة إلى الهاوية

وهذا الفشل الملحوظ ليس بالأمر المُفاجئ؛ فالاضطرار إلى مناقضة أحد أفضل أجهزة الاستخبارات في العالم باستمرار ليس مسارا وظيفيا مرغوبا فيه، ولا بد لوحدة "محامي الشيطان"، بحكم تعريفها، إلا أن تكون مخطئة في معظم الأوقات. وهكذا توقف القوم عن الإصغاء إليها؛ وفشلت إحدى الأدوات التي كانت تهدف إلى منع تكرار مفاجأة حرب "يوم الغفران".
وبعد مرور خمسين عاما، وحتى في اليوم نفسه تقريبا، كررت إسرائيل هذا الفشل تماما.
وبالطبع فإن هذا ليس سوى عنصر صغير ضمن الفشل المنهجي الأوسع مدى الذي سمح بوقوع مذبحة "حماس" يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. ويُضاف هذا الفشل إلى قائمة السفن المفترض أنها غير قابلة للغرق ثمّ غرقت في نهاية الأمر، والبلدان غير القابلة للهجوم عليها والتي تعرضت للهجوم في نهاية الأمر، والسدود غير القابلة للانهيار والتي انهارت في نهاية الأمر. ولعل الحقيقة أنه ليس ثمة نظام محصن ضد الفشل. فالأنظمة التي تُعتبر غير قابلة للانهيار تميل إلى أن تكون هي الأنظمة التي تفشل فشلا ذريعا.
وهكذا، صبيحة 7 أكتوبر/تشرين الأول الذي بدأ هادئا، تمكن أكثر من ألف من كوماندوز "حماس" من وحدة النخبة من العبور إلى إسرائيل، وهاجموا المجتمعات الحدودية والقواعد العسكرية، ودفعوا المنطقة إلى الهاوية.

مفهوم ناقص


وفي الليلة السابقة للهجوم، كان المسؤولون الإسرائيليون قد ناقشوا في حقيقة الأمر مؤشرات تشير إلى حدوث شيء "غريب" في غزة. لقد أرسلوا فريقا تكتيكيا من القوات الخاصة إلى المنطقة الحدودية، معتقدين أن هذا سيكون كافيا. غير أنهم لم يفهموا ما كان على وشك الحدوث. وفي الواقع، كانوا قد قرروا مناقشة هذه المسألة على نطاق أوسع اليوم التالي، سوى أنه بحلول ذلك الوقت كان قد فات الأوان فعلا. وظهر فشلهم بأخذ الوثائق الموجودة لديهم منذ سنة على محمل الجد.

اتجاه الدورة لا يقل أهمية عنها، من المعلومات إلى التقييم، ثم من التقييم إلى القرار. وعندما يحدث فشل استخباراتي نظامي، فإن السير يكون في "الطريق" الخاطئ

كان المسؤولون الإسرائيليون يعملون وفق "مفهوم" أو تقييم أوسع لردع "حماس" دون التحريض على جولة أخرى من الصراع في غزة، فضلا عن الحرب. وكان التقييم الاستخباراتي السائد أن حرب غزة التي حدثت عام 2021، والتي بدأتها "حماس" بإطلاق الصواريخ على القدس، أضرت بقدرات الحركة في غزة. لقد كانت "حماس" تركز على الضفة الغربية أكثر من أي شيء آخر. وهنا مجددا، نرى أوجه التشابه المذهل مع حرب "يوم الغفران"؛ ففي عام 1973، في اليوم الذي هاجمت فيه مصر وسوريا إسرائيل، كان مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي يعمل أيضا بناء على تقييم أو "مفهوم" أوسع مفاده أن الرئيس المصري الجديد كان نسبيا أكثر اعتدالا من سلفه، وأن مصر لم تكن تتطلع إلى الدخول في صراع.
لا يمكن أن تكون نقاط التشابه هذه صدفة. أود أن أزعم أن الفشل الاستخباراتي الذي دفع إسرائيل إلى إساءة فهم مصر في حقيقة الأمر هو في جوهره الأمر نفسه الذي جعلها تعتقد أن "حماس" لا تسعى إلى الحرب.
 وفي حين أن الكثيرين سوف ينظرون إلى التفاصيل الجوهرية لتكتيكات الاستخبارات وبروتوكولات جمع المعلومات لتقديم تفسير للفشل، فإنني سأنظر في اتجاه مختلف. فمن خلال خبرتي، أرى أن الفشل النظامي هو نتاج النظام نفسه، وليس نتاج أحد عناصره وحسب؛ إذ لا يمكن لوحدة واحدة تدار على نحو سيئ، أو لأداة واحدة تعاني الخلل، أو لقرار واحد رديء أن يفسر فشل نظام بأكمله.
لشرح ما أعنيه، نحتاج إلى العودة لأساسيات الاستخبارات، وهو شيء يتعلمه الناس في الفصول الدراسية أو عندما يدخلون هذا العالم أول مرة. تمر عملية إنشاء "الاستخبارات" من خلال "دورة الاستخبارات". وتتمثل الخطوة الأولى في التوجيه، حين يوجه صناع القرار جهاز الاستخبارات لمراقبة تهديد ما أو الإجابة عن سؤال. وتتمثل الخطوة الثانية في التجميع، أي جمع المعلومات أو البيانات سواء كان ذلك من خلال الذكاء البشري، أو من خلال الاعتراض اللاسلكي أو الإلكتروني، أو صور الأقمار الاصطناعية أو جمع المصادر المفتوحة وما إلى ذلك. وتمر هذه المعلومات الأولية بمرحلة معالجة ثم مرحلة تحليل. ويقوم قسم التحليل بتجميع المعلومات معا للبدء في تكوين الصورة، والإجابة عن الأسئلة. ويُمرَّر هذا التقييم الجديد عبر عملية "نشر" إلى أعلى المستويات في مجتمع الاستخبارات وصناع القرار السياسي. ثم يقوم صانعو القرار هؤلاء بتوجيه الخدمة مجددا، ونعود إلى الحلقة التي وصفْتها توا.
وعلى أهمية هذه العملية، فإن اتجاه الدورة لا يقل أهمية عنها، من المعلومات إلى التقييم، ثم من التقييم إلى القرار. وعندما يحدث فشل استخباراتي نظامي، فإن السير يكون في "الطريق" الخاطئ. فعندما تنظر إلى الطريقة التي تُثبت فيها القرائن صحة تقييمك، عوضا عن النظر إلى القرائن لتكوين تحليل موضوعي مستقل عنك، فإن تقييمك يتحول إلى عقيدة. وعندها يأخذ تفسيرك للمعلومات والبيانات خطا بيانيا منحرفا، وتميل إلى تجاهل النقاط التي تتعارض مع تقييمك، أو قد تجعلك ترى الأمور بمنظور مختلف.
وهذا ما حدث على الأرجح قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، فلا بد أن إسرائيل رأت علامات تشير إلى أن "حماس" كانت تستعد لشن هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولكنها أساءت تفسيرها. فتلك العلامات كانت مرئية للجميع. وفي حقيقة الأمر، حذرت مصر، وقبل أيام من الهجوم، من أن "شيئا كبيرا" سيحدث. ولم يكن تحذيرهم مستندا إلى معلومات مختلفة عن تلك التي في حوزة إسرائيل، سوى أن الأخيرة فسرتها على نحو مختلف.

تم تدريب طياري "حماس" على الطائرات الشراعية وصُوروا وهم يقومون بذلك. وقبيل الهجوم، كثفت "حماس" وحركة "الجهاد الإسلامي" الفلسطينيتين تجارب إطلاق الصواريخ

وقد أجرت "حماس" تدريبات تحاكي الاستيلاء على كيبوتس، وتدريبات تحاكي خروقات الحدود. بالإضافة إلى ذلك، قبل شهر واحد فقط من حادثة 7 أكتوبر/تشرين الأول، قاموا بتصوير ونشر لقطات لمسلحيهم وهم يتدربون على اقتحام الحاويات لمحاكاة عمليات اقتحام المباني. وفي عام 2022، أجرت مجموعات متعددة في غزة، بما في ذلك "حماس"، تدريبا صوروه ونشروه على الملأ، إذ استولوا فيه على قاعدة عسكرية إسرائيلية، وتدربوا على أسر الرهائن. وقبل ذلك بعام، وبعد تدريب آخر، علق أيمن نوفل، أحد كبار قادة "حماس"، بأن السياج الإسرائيلي عالي التقنية الممتد على طول حدود قطاع غزة لن يحمي إسرائيل. وقد قُتل نوفل على يد إسرائيلي في أعقاب هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وقد دُرب طيارو "حماس" على الطائرات الشراعية وصُوروا وهم يقومون بذلك. وقبيل الهجوم، كثفت "حماس" وحركة "الجهاد الإسلامي" الفلسطينيتين تجارب إطلاق الصواريخ. لقد كانت العلامات ماثلة هناك. لقد شاهدت إسرائيل ذلك بأم عينها، لكنها فسرته على نحو مختلف. لقد شعرت الاستخبارات الإسرائيلية بأن "حماس" رُدعت، وأن هذه العلامات كانت مجرد "تبجحٍ" لحمل إسرائيل على الاهتمام بغزة، وإجبارها على تقديم المزيد من التنازلات لـ"حماس". وفي نهاية المطاف، هذا هو الأمر الذي فعلته "حماس" حتى الآن في غزة. لكن هذه الجملة التي كتَبْتُها توا تحتوي على الخطأ نفسه الذي ذكرته أعلاه: لقد استخدمت التقييم (ردعت "حماس") لنفي المعلومات الواقعية ("حماس" تستعد للحرب). يعد هذا خطأ استخباريا كلاسيكيا، إلا أنه من الصعب جدا ملاحظته وتصحيحه في مواقف الحياة الواقعية. إنها إخفاقات في أعلى وأسفل القيادة الأمنية والسياسية الإسرائيلية.
وهذا ما يمكن أن أسميه الفشل في "الوسط" في القيادة الأمنية والسياسية في إسرائيل. وقد تراكمت على أساس ذلك إخفاقات في أعلى القيادة وفي أسفلها.

احتياطات دفاعية 


وفي أدنى مستوى من التدابير الأمنية تكمن الاحتياطات الدفاعية، والتي عادة ما يتم تفعيلها عندما يثبت عدم فعالية التحذيرات المتقدمة والإجراءات الوقائية. كان لدى إسرائيل نظام فعال للغاية للحماية من الفشل؛ السياج الحدودي مع غزة، وهو إنجاز تكنولوجي مبهر بلغت تكلفته مليار دولار. مكونه المركزي هو سياج مجهز بأجهزة استشعار يقوم على الفور بإخطار مقر قيادة جيش الدفاع الإسرائيلي عند أي اتصال جسدي، مما يؤدي إلى استجابة فورية وسريعة. وتتم حماية هذا السياج أيضا بواسطة مدافع رشاشة وأبراج مراقبة يتم تشغيلها عن بُعد، مع مراقبة مستمرة تتم بواسطة شبكة من الكاميرات. وخصصت وحدة متخصصة تعرف باسم "تاتسبيتانيوت" أو المراقبات، لمراقبة هذه الكاميرات. تتحمل هؤلاء المجندات المتفانيات نوبات عمل مرهقة لا يصرفن خلالها انتباههن أبدا عن بث الكاميرا. وكل مراقبة مسؤولة عن قسم محدد ومحفوظ بدقة من المنطقة التي تراقبها.

الفشل في القاع، هو الفشل المرتبط بتصور فاشل مفاده أن نظام الأمان لا يمكن اختراقه. وقد أعطى هذا التصور إسرائيل المزيد من الثقة الخاطئة في تقييمها بأن "حماس تم تقييدها"

كيف يمكن لمثل هذا النظام أن يفشل إذن؟ ومع ذلك فقد فشل... هنا مرة أخرى، أدى افتراض أن نظام الأمان غير قابل للاختراق إلى تقييم قاتل مفاده أنه بما أن "حماس" لم تتمكن من اجتياز نظام الأمان، فإنها بالتالي لن تحاول. كان هذا الافتراض مميتا، حيث أعمى الجيش الإسرائيلي عن الإشارات المحتملة التي تشير في الواقع إلى أن "حماس" كانت تحاول إيجاد طرق لاختراقه. إن أي عملية استخباراتية سليمة ما كانت لتستبعد احتمال قيام "حماس" بمحاولة عبور الجدار، بل إنها في واقع الأمر ستبحث عن إشارات تدل على أنها تحاول فعليا القيام بذلك. وسيحاول أن يتخيل كيف سيحاول عدو مثل "حماس" تجاوز هذه العقبة.

ديانا استيفانيا روبيو


فماذا فعلت "حماس"؟ حتى الآن، الصورة ليست واضحة بما يكفي لتكون نهائية، ولكن بعد شهرين لدينا المزيد من الأدلة حول ما حدث. سُئلت عدة مرات عن نوع الأسلحة المتطورة الجديدة التي استخدمتها "حماس" والتي سمحت لها باختراق الحدود، وكانت الإجابة على هذه الأسئلة لا شيء.
ولم تكن أي من الأدوات التي استخدمتها "حماس" جديدة حقا. ولم يفاجئ أي منها إسرائيل حقا. واستخدمت "حماس" قوة كوماندوز النخبة لعبور الحدود والتوغل داخل إسرائيل. وهذه الفرقة ليست جديدة، فقد عرفت عنها إسرائيل منذ حوالي عقد من الزمن. ويبدو أيضا أن "حماس" استخدمت طائرات دون طيار لاستهداف أبراج الكهرباء على طول الحدود، وبالتالي عطلت على الفور جزءا من أنظمة الدفاع الإسرائيلية التي يتم تشغيلها عن بُعد. تلك الطائرات دون طيار ليست جديدة. وبينما فعلت ذلك، أطلقت "حماس" آلاف الصواريخ، مما أدى إلى إعاقة القوات التي كان من المقرر إرسالها إلى الحدود. أما أولئك الذين وصلوا إلى الحدود فقد وجدوا أنفسهم في مواجهة المئات من مقاتلي النخبة.
وجمعت "حماس" معلومات استخباراتية دقيقة عن حجم وطبيعة قوة الرد التي ستصل إلى أي خروقات (وكانت هناك العشرات من الخروقات المنسقة). وفي وقت لاحق، هاجمت "حماس" قوة الرد نفسها، بما في ذلك مقر فرقة غزة والكثير من الوحدات العسكرية الأصغر. وبحلول الوقت الذي تمكنت فيه القوات الجوية الإسرائيلية من الرد، كان الأوان قد فات، حيث كانت "حماس" قد اخترقت المجتمعات المدنية الحدودية، واحتجزت رهائن إسرائيليين ونقلت بعضهم إلى غزة. وأصبحت الغارات الجوية التي كان من الممكن أن تقضي على كوماندوز "حماس" مستحيلة الآن.
وهذا هو الفشل في القاع، وهو الفشل المرتبط بتصور فاشل مفاده أن نظام الأمان لا يمكن اختراقه.
وقد أعطى هذا التصور إسرائيل المزيد من الثقة الخاطئة في تقييمها بأن "حماس تم تقييدها".

الفشل في رأس الهرم


ثم يأتي ربما أكبر حالات الفشل: الفشل في رأس الهرم.
قمة دورة المعلومات الاستخبارية هي المستوى السياسي، أي المستوى الذي يحدد "الاتجاه"؛ فهو يدير الذكاء، ويوجهه نحو الأسئلة أو مجالات الاهتمام. وهذا أمر بالغ الأهمية، وله تداعيات خطيرة ما لم تكن هذه الدولة الولايات المتحدة، ولديها مصادر استخباراتية لا حصر لها تقريبا، فعليك أن تحدد أولوياتك. وفي الواقع، حتى الولايات المتحدة يجب أن تفعل ذلك. أدوات ومصادر الحشد محدودة. وكذلك هو وقت جمع المحللين، وعدد الجنود والوحدات العسكرية التي يمكن نشرها. تواجه إسرائيل عددا من التهديدات الأكثر إلحاحا إلى هذا الحد أو ذاك. الاختيار هو التخلي.

عندما وقعت الواقعة، خمّن ماذا قال نتنياهو؟ قال إذا نظرت بدقة بما فيه الكفاية، فسوف ترى أن إيران تقف خلف ذلك. وهذا الخطاب ليس ضارا، بل مميت

وبالنظر إلى تصريحات نتنياهو وخطابه، يمكن للمرء أن يرى نمطا واضحا. لقد قام رئيس الوزراء الإسرائيلي باتخاذ سياسة مهنية من خلال تهميش الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والتقليل منه. لقد رأى دائما أن التهديدات الأخرى، وخاصة إيران ووكلاءها، هي القضية الرئيسة. قد يكون هناك عنصر سياسي في الأمر، أن الحديث عن إيران دفعه إلى مجال الجغرافيا السياسية العالمية، حيث تواجه وجها لوجه مع أمثال بايدن أو بوتين، وأظهر مخططات مضحكة لقنبلة نووية في الأمم المتحدة. لقد سمح له بتصوير نفسه على أنه الزعيم الإسرائيلي الوحيد القادر على الإبحار في المياه الإقليمية والعالمية المضطربة. بغض النظر عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كانت هذه ملاحظة جانبية. وحتى عندما وقعت الواقعة، خمّن ماذا قال نتنياهو؟ قال إذا نظرت بدقة بما فيه الكفاية، فسوف ترى أن إيران تقف خلف ذلك. وهذا الخطاب ليس ضارا، بل مميت.
لا يعني ذلك أن إيران لا تشكل تهديدا لإسرائيل، بالطبع. لكنه تهديد لا ينبغي أن يطغى على تهديد أكثر حميمية. وهذا العمى المتعمد له تأثير مباشر على مجتمع الاستخبارات، لأنه يشجع على إعادة نشر أدوات جمع المعلومات الاستخبارية بعيدا عن التهديد، وإعادة انتشار القوات بعيدا عن حدود واحدة. إنه يشجع على الاصرار على التحيز، وحلقة ردود الفعل الخاطئة؛ إذا افترضت أنه لا يوجد شيء لتسمعه، وشرعت في سد أذنيك والتركيز على بصرك، فسوف تكون مخطئا جدا حين تعتقد أنك على حق لمجرد أنك لا تسمع أي شيء.
أو ربما بشكل أكثر إيجازا، كما يقول المثل: "أسوأ من الأعمى الذي لا يريد أن يرى".

font change

مقالات ذات صلة