يوميات الهجرة من جحيم حرب السودان: بكاء على تخوم النشيد

عن الشتات الذي أطلقته لحظة طيش دموي

AFP
AFP
لاجئون من جنوب السودان يتجمعون بانتظار تسجيلهم من قبل السلطات عند معبر جودا الحدودي، بالقرب من الرنك، في 14 فبراير 2024

يوميات الهجرة من جحيم حرب السودان: بكاء على تخوم النشيد

وقفت المرأتان على شرفة الفندق، رذاذ المطر خفيف يضرب جسديهما، والسماء في الأفق البعيد تتبدّى متكاثفة الغيوم تنذر بهطول غزير للأمطار. ظلتا صامتتين تحدقان في سفح الفندق، فهما تطلان من دوره الخامس، الشارع فائر بالناس والضجيج والازدحام. أصوات الموسيقى الأفريقية تطغى في عنفوان على الأشياء، والأجساد في الشارع تبدو متمايلة راقصة حتى وهي تعبر عجلى. فجأة بكت إحداهما، بنشيج خفيض، وارتجاج فالت لجسدها النحيل. انتبهت الأخرى لبكائها المباغت وبدت مندهشة. التفتت إليها الباكية وقالت: كيف أعيش مع هؤلاء الناس؟

أشارت بيدها إلى الشارع الضاج بالحركة والموسيقى والأجساد الراقصة، والعبور المذهل لـ"البودا بودا"، أو الدراجات النارية، المستخدمة هنا وسيلة للمواصلات.

تلك كانت ليلتها الأولى في كمبالا، هي وزوجها وطفلاهما الصغيران، تلك كانت غربتها الأولى في بلد أفريقي لم تكن تدري عنه شيئا، وتلك كانت رحلتها الأولى في عالم الآخر الذي – بلا شك – كانت تراه بعيدا، مخفيا، مدسوسا في الأساطير والأوهام، ولا يمت إليها هي بالذات بأي صلة. وتلك كانت مدينة كمبالا، قبلة السودانيين الفارين من حرب الجنرالين القاتلة.

النشيد الوطني

في الماضي البعيد، المتداخل ما بين الطفولة وبداية الشباب، كنت أتعامل مع النشيد الوطني لبلادي بشيء من القدسية والتبجيل، متماهيا بقدرٍ ما مع الصورة المستلفة من مشاهدات مباريات كرة القدم، والوقت الصباحي الإلزامي لتحية العلم ورفع العقيرة غناء وترديدا لمقاطع النشيد. تلك الحالة من الانفصال اللحظي والاستغراق التام التي يبديها لاعبو كرة القدم أثناء تأدية الأناشيد الوطنية، ما قبل المباراة، زرعت بشكل ما في داخلي وداخل كثيرين إحساسا فخورا بهذا النشيد وكلماته ولحنه، وربطه بطريقة أو بأخرى بالانتصار وبسمو البلد ورفعته، أما نشيد المدارس الصباحي الإلزامي، فكان بالنسبة إلي وكأنه رشفة صباحية منعشة لـ"معنى الوطن".

خلقت "حكومة الإنقاذ" داخل كل طفل وحشا بلا مخالب ينادي بالموت والقتل واستباحة "الكفار" و"المارقين"

في الرياضة لم تكن فرقنا وأنديتنا تحقق شيئا يذكر، الكثير من الانتصارات ضاعت هباء نتيجة الأخطاء القاتلة، والكثير من الهزائم تتالت نتيجة الضعف البائن في أساليبنا التدريبية والتخطيطية وشكل رعاية الدولة المبني على الإهمال واللاجدوى. في المدارس حدث شيء غريب وعجيب، وأحمد الله على أنه تحقق بعد تخرجي منها، على الرغم من ارتباطي العاطفي الوشيج برشفة الصباح الوطنية.

بدلت "حكومة الإنقاذ" (الإسلاميون) في طقوس الصباح المدرسية، وأدخلت نمطا من الأناشيد الجهادية الحماسية، تضاف إلى الزي المدرسي المبرقع - العسكري، وخلقت داخل كل طفل وحشا بلا مخالب ينادي بالموت والقتل واستباحة "الكفار" و"المارقين" في كل بقعة من بقاع الأرض. ضاع النشيد الوطني، بين التهليل والتكبير ومناجاة أمّ الشهيد المختزن لمستقبل الأيام.

في هذه المرحلة - ربما - من عمري، اكتشفت سخف الانتصارات الكروية اللامتحققة، والارتباك الوطني العظيم الذي أصاب أطفال المدارس، في هذا الوقت العجيب من عمر البلاد، بدأت أتفطن لمعاني كلمات نشيدنا الوطني، المرموز منها والمباشر، الرشيق والجاف، والذي يدعو إلى الضحك حقا.

AFP
لاجئات سودانيات ينتظرن الحصول على المساعدات في مركز عبور للاجئين في الرنك، في 15 فبراير 2024

نعم، ضحكنا كثيرا ونحن نتساءل مع المقطع القائل "نشتري المجد بأغلى ثمن"، إذ كيف يُشترى المجد؟ كيف تحوله إلى سلعة تباع في الأسواق؟ غالبا لمن يدفع أكثر! كما – تفلسفنا وقتها – بأن النشيد بمحتواه الشعري المحدود مجازا ومعنى، أقصر من أن يعبر عن تعقيدات بلد مثل السودان بكل تنوعه واختلافه، وصرت شخصيا أتعامل معه – النشيد – بخفة كبيرة ودون أي جدية، إلى أن جاء يوم النشيد الوطني الأوغندي في كمبالا.

في كمبالا

لم تمكث تلك المرأة التي بكت على شرفة الفندق يوما آخر في كمبالا. كنا نترافق معا في الفندق، حضرنا للتو من السودان هاربين من الحرب وفظائعها، عبرنا أكثر من ولاية سودانية في رحلة شاقة استغرقت أياما، اجتزنا دولة إثيوبيا إلى أن هبطنا أرض كمبالا لاجئين. التقيت المرأة وزوجها وطفليهما عند معبر "المتمة" على الحدود السودانية الإثيوبية. لفتتني على الفور وضعية هذه الأسرة السودانية "النموذجية"، وأعني بـ"النموذجية" تلك الأسر التي توصف بالتاريخية، أو سمّها النخبوية، ذات الوشائج المتشابهة من حيث صورة الجسد، وطريقة الكلام (اللهجة - اللكنة) والتموقع الاستحواذي داخل فضاء الدولة السودانية ما بعد الاستعمار. أبناء "الأفندية" والأسر المتصاهرة في ما بينها ذات الرؤية الفوقية للآخر السوداني الذي يأتي دائما في الذهن من هناك في البعيد الطرفي والمتوحش والمستبعد.

اقرأ أيضا: "المجلة" تنشر مبادرة لوقف حرب السودان... هدنة 60 يوما وحكومة إنتقالية وجيش موحد في 10 سنوات

أحسست بالشفقة وأنا أرى الحيرة والخوف والتردد مرتسمة جميعها على وجه الأم وصغيريها المتأففين من حال المعبر المزري. الأب ظل صامتا طوال الوقت وهو ينقل الحقائب من هنا إلى هناك ويكمل إجراءات العبور وحيدا دون الاستعانة بأي شخص.

فكرت: هؤلاء الناس، مكانهم المعبر الآخر عند "وادي حلفا" عبورا إلى القاهرة، لا بد أن للأسرة إرثا وميراثا هناك، عقارات، وروحا تاريخية منفلتة عبر الأزمنة تتجول بين حارات وأزقة مدينة الألف مئذنة، القاهرة، ومن هناك الانفتاح على العالم الممتد شمالا أو سمّه غربا.

ما الأناشيد الوطنية، إلا صورة أخرى من ألاعيب الحداثة وما بعدها، وأوهام الدولة الوطنية المتكونة ما بعد الاستعمار

لأوقات متقطعة ما بين ليلة المتمة الحبشية، وليلة فندق كمبالا الماطرة، تجاذبت أطراف الحديث مع الأب ذي القسمات الوسيمة والطول الفارع، ومثلما توقعت، فإن ضياع الأوراق الرسمية وجوازي الطفلين في لحظة الهروب المفزعة من أحياء الخرطوم الملتهبة بسبب وقوعها في قلب المعركة جوار المطار والقيادة العامة للجيش، هو ما أبدل الرحلة من مصر "أم الدنيا" إلى أوغندا "أم النيل". تبادلنا في آخر الليل أرقام الهواتف وافترقنا، ولم أره بعدها.

النشيد الدامع

كنت أظن أنني تخلصت تماما من متلازمة "نشيد العلم"، أو النشيد الوطني. قتلت العاطفة الساذجة وفككت أكذوبة الوطنية المتدثرة في الألوان واللحن والكلمات المغناة مع الموسيقى. فما الأناشيد الوطنية، إلا صورة أخرى من ألاعيب الحداثة وما بعدها، وأوهام الدولة الوطنية المتكونة ما بعد الاستعمار، ثم أن الأناشيد نفسها، في حالها الحداثي، أو ما بعد الاستعمار، ما هي إلا حالة استدعاء مخاتل لمرموزات وصور الطفولة البشرية الغابرة، ضع النشيد في مقابل الوشم، أو الطوطم أو آلهة البرق. إنها ليست سوى وهم للتفرقة بادعاء التميّز والاختلاف، ومدخل أكيد للتعصب والحرب والاقتتال. لكن ما الذي حدث حين استمعت إلى النشيد الوطني في ساحة المدرسة الأوغندية؟

AFP
لاجئون من جنوب السودان فروا من الحرب ينتظرون ركوب شاحنة للذهاب إلى مركز للاجئين، بالقرب من الرنك، في 14 فبراير 2024

وصلتني عبر "واتساب" رسالة قصيرة من المدرسة التي يدرس فيها أبنائي، تدعوني إلى الاجتماع الأول للآباء الجدد. منذ وقت مبكر تهندمت وذهبت إلى المدرسة، فأنا مستضاف في بلد غريب، لاجئ وفار من الحرب وسط أناس لا يرون فيّ سوى الإنسان، فوجب عليّ احترامهم وتقديمي كـسوداني بأفضل ما يكون. فوجئت أولا بأن الأمر أكثر من اجتماع عادي في قاعة مغلقة بين أولياء الأمور وإدارة المدرسة، كان احتفالا كبيرا في ساحة المدرسة، بين الأشجار وبهاء المنظر الخريفي والحضور اللافت للأمهات الأوغنديات الجادات الأنيقات، والمرأة هنا كون بذاته، وتلك قصة أخرى. تكلمت أستاذة ما، رحّبت بالضيوف المحليين، ومن هم مثلي من السودانيين والأجانب الآخرين، ثم دعتنا جميعا إلى الوقوف لدقائق لأن الوقت حان لأداء نشيد الوطن.

لا أدري ما الذي حدث بين وقفتي المجاملة، والتردد الأولي لموسيقى وكلمات النشيد. أدرت بصري سريعا وأبصرت الجميع يضمون أكفهم إلى قلوبهم، استمعت في صفاء إلى الكلمات المنغمة دون إدراك لمعناها، وإن وصلني فحواها المؤثر، ثم بلا ترتيب وجدتني أتداعى مستدعيا نشيدي الوطني المنسي، "نحن جند الله جند الوطن"، تضج كلماته في رأسي مختلطة بالموسيقى المصاحبة للنشيد المغنى واقعا أمامي، تندمج الصورة والأنغام والأصوات والأكف القابضة على مكمن القلب، ليتدفق كل ذلك سيلا من الأدمع الحارقة تصلي عيني ببكاء الحنين إلى الوطن البعيد المحترق بنيران الحرب.

  السودانيون ليسوا سوى أفارقة أضاعوا نشيدهم الوطني في لحظة طيش دموي

في أقل من خمس دقائق كنت أرى بلدي متجسدا أمامي، بأشجاره وناسه ووديانه وحيواناته وحروبه التي لا تبقي ولا تذر. بكيت على أستاره وتهاويت منهارا على مقعدي.

عمان أفريقيا

بعد ثلاثة أشهر أو أربعة منذ افتراقنا، راسلني فجأة زوج المرأة الباكية على شرفة الفندق. أرسل لي صورا لطفليه الصغيرين، وهما يبدوان سعيدين، ولزوجته باسمة ومتوشّحة بخمار أزرق لافت. قال لي إنه خرج من أفريقيا بعد جولة أوصلته حتى كينيا مرورا برواندا، وإنه الآن مستقر في سلطنة عمان، وقد حصل على عمل أخيرا. فرحت جدا وأنا أقرأ أخباره الجديدة، وقلت لنفسي وأنا أحدّق بوجه زوجته الباسم: ربما أخيرا تجد انسجاما هناك، وربما أيضا ستكتشف عما قريب أن عمان ليست سوى جزء من أفريقيا، بل إن عمان هي أفريقيا نفسها في تاريخها ونشوئها وامتدادها، وحتما ستكتشف أن السودان، ليس سوى دولة تقع في القلب من أفريقيا، وأن السودانيين ليسوا سوى أفارقة أضاعوا نشيدهم الوطني في لحظة طيش دموي ففرقتهم الدنيا أيدي سبأ. 

font change

مقالات ذات صلة