أنسي الحاج وبسام حجار في مهب الاستعادات القاتلة

رائد قصيدة النثر ومعلّم الكثافة والتقشّف

Gazett.de_Axel Rangel Garcia
Gazett.de_Axel Rangel Garcia
أنسي الحاج وبسام حجار

أنسي الحاج وبسام حجار في مهب الاستعادات القاتلة

يستعاد الشاعر اللبناني أنسي الحاج (1937-2014) بعد عشر سنوات من الغياب بشكل يتناقض مع فحوى مشروعه وبالضد من العناصر الكبرى التي قام عليها واجتهد في الدفاع عنها وإحلالها في الفضاء الثقافي العام.

مقدمة ديوان "لن" التي اعتبرت البيان المؤسس لقصيدة النثر لا تزال خارج القراءة على الرغم من وضوحها وإيجازها، ويتم التعامل معها على أنها فتحت درب التحرر من اللغة ومن الشعرية ومن كل القواعد لصالح كتابة تعادي مادتها وتحاول بناء موقعها من خارجها وتنظر إلى الحاج كأنه كان صانع أمثال وحكم وحمّال أيديولوجيات وأقوال شائعة وثرثرات وباني ركاكات لغوية وأسلوبية،فهل كان مشروع أنسي خارج اللغة ومعاديا لها، أم كان بحثا عن توظيف جديد لإمكاناتها يدفعها إلى حدودها القصوى؟

قصيدة النثر كما نظر إليها، كانت خروجا من خدر الوزن بدلالته على عالم لم يعد قائما واستجابته لحاجات ثقافية وتعبيرية ذوت واندثرت لصالح الانفتاح على اللحظة القائمة والتقاطها وتدوينها.

بسام حجار (1955-2009) بدوره اكتُشف فجأة بعد سنوات من رحيله، ويُستحضر بشكل يغاير ما كان يصبو إليه من نحت للمعاني وحفرها بمفردات وأدوات بالغة التقشف والضيق من خلال أسلوب يتحرك في دوائر محددة.

أنسي الحاج: شعرية النثر وكهربة اللغة

الانعطافة الكبرى التي جاء بها أنسي الحاج لم تكن محاولة بث عناصر شعرية في النثر، بل إتاحة فرصة لم تكن متوفرة في اللغة العربية لكتابة قصيدة شعرية بالنثر. لم يكن يطرح احتمال احتواء النثر على شعرية ما، بل كان يصر على أنه يستطيع احتضان تجربة شعرية بالكامل. تلك التجربة، بما أنها تمثل انفصالا عما استقر في الوعي وفي استراتيجيات القراءة والتفكير حول الشعر، لا بد لها أن تنشئ الجديد الخالص بحكم طبيعتها.

الانعطافة الكبرى التي جاء بها الحاج لم تكن محاولة بث عناصر شعرية في النثر، بل إتاحة فرصة لم تكن متوفرة عربيا لكتابة قصيدة شعرية بالنثر

 كسرُ انتظام النثر وبناه التقريرية والبرهانية والإخبارية والإيضاحية، وجرُّها إلى عالم الشعر المعتم والغامض والمكثف والموجز والإيحائي، كان محاولة لإغراء اللغة العربية بمغادرة مناطق الراحة التي سجنت في معتقلاتها لقرون، والانطلاق إلى رحابة التجريب المفتوح.

لم يكن الركض اللاهث في اتجاه التجديد، كما تحاول الكثير من الاستعادات أن تنسبه إلى منجز الشاعر،  نسفا للغة، بقدر ما كان بحثا عن شكل مختلف من التآلفات والتناقضات والاحتمالات الممكنة. لا شعر خارج اللغة. لقد رفع الحاج بشراسة هذا الشعار كمغزى نهائي لخطابه وبيانه، ودافع عنه طوال حياته، فأن تكون في الشعر وفق وجهة نظره، يعني أن تشتغل في اللغة وعندها وتحت سقفها العالي.

البناء السرطاني للقصيدة

بنى أنسي عمارة الهجين ودافع عن الأصل المتعدد والمفتوح لقصيدة النثر التي تنطوي على هشاشة وضعف. إنها السرطان وتحيا في بنية سرطانية تعادي العافية والثقة والنهايات، وتجد نفسها مشدودة على الدوام إلى الهاوية. في مجموعته الشعرية التأسيسية، "لن"، يلقي بالعنوان المفردة في الفضاء عاريا بلا حماية، فلا يبدو القول واثقا بل شريدا حائرا، فهو لا يستأنف قولا سابقا ولا يدّعي تأسيسا حاسما بل يدخل في بنية التيه ويتحد معها.

لا تدين قصيدة النثر التي دافع عنها الحاج بوجودها إلى مجرد نقل تجربة غربية إلى المجال العربي وإسقاطها عليه. فالتنظير الشائع حول ارتباط شيوعها في العالم العربي بكتاب الناقدة الفرنسية سوزان  برنار يجافي الحقيقة والواقع، فذلك الكتاب كان أكاديميا ويرصد مسار تلك التجربة في الغرب والتي يعود تاريخها لأكثر من قرنين.

أنسي الحاج

تاليا، فإن قصيدة النثر في سياقاتها الغربية صارت جزءا من التاريخ الثقافي، وخلقت تراكمات ضخمة  وتيارات ومداس وأساليب وتوجهات وأمزجة، بشكل يمكن معه ملاحظة فقدان انتمائها إلى الجديد والطارئ، فقد باتت أقرب إلى الكلاسيكي والثابت والمكرس والمقبول. كما أن البنى التأسيسية التي انطلقت منها جاءت استجابة مباشرة لنزعات تعبيرية تقنية أكثر من أي أمر آخر.

كان الشعر الغربي قد أنجز تمرداته وانقلاباته من داخل المؤسسة الكلاسيكية على مستوى الشكل، لكنه قدم بالنثر مناهج أسلوبية يمكنها دفع التراكمات القائمة التي كان قد سبق اختبارها إلى تقديم نفسها بشكل أكثر رحابة وتحررا.

ما جاء به أنسي لا ينطلق من تلك المرجعيات ولا ينتمي إليها لناحية المقاربة التأسيسية، فخلافا لقصيدة النثر التي تدرسها برنار في مساربها الغربية، والتي باتت جزءا من السلطات الثقافية الفاعلة والمؤثرة والصلبة، دافع أنسي الحاج عن قصيدة نثر تقيم على الدوام في المرض والهشاشة وتحيا لحظة الزوال الوشيك طوال عمرها، ولا يمكنها أن تنتمي إلى السلطات ولا أن تتفاهم معها، كما لا تستطيع أن تقسو وتتصلب بل تبقى أسيرة الأثيري والمتبدد.

لا تبني قصيدة النثر تيارات ومدارس بل تفتح مسارب زلقة وخطرة ومسكونة بالأشباح والأخطار والوهن، وفي كل ذلك تبتكر لغتها من داخل المخزون اللغوي القائم وتفجره بتوسيع مداه وليس بإلغائه. فالصلة التي يقترحها أنسي مع اللغة والتراث تأويلية اشتقاقية سياقية، بمعنى أن الدلالات الممكنة للمفردات والتراكيب، التي أثقلت بمجال محدد من المعاني والتوظيفات، يمكنها حمل الجديد الخالص إذا ما أجبرت على الانتظام داخل البنية السرطانية المغايرة لتاريخ الكتابة الشعرية العربية، التي لطالما حرصت على التطابق مع سلطات تنطق بلسان العافية والصحة والصلابة.

في إحدى قصائد "لن"، يقول أنسي الحاج: "الأحرف تتلاحق. عوض ذلك يجب أن تتداخل. الصمت يشبه حروفا يسكن يركب بعضها بعضا بالتصاق تحت غارة. ليست الحروف قطارات. عوض أن تصمت متْ. تحتيّا. تحت الحلق وراء قشرتك".

دافع أنسي الحاج عن قصيدة نثر تقيم على الدوام في المرض والهشاشة وتحيا لحظة الزوال الوشيك 

في التلاحق ينمو المتوقع والمعرّف ويذوب الاحتمال، بينما يفجر التداخل احتمالات المفاجئ والمقلق والمجهول. الصمت هو ذلك الضجيج الداخلي لعملية الصراع الحاد الذي تستوجبه ولادة قصيدة النثر التي لا تنطلق من المعرفة ولكن من الجهل الكامل بالعالم وبمصيرها وأحوالها، فهي لا تكتب بحروف تحملها قطارات تمشي على سكك الوضوح. والخيارات المفروضة على شاعرها تفترض إقامة في الحدود القصوى، حيث إما الكلام أو الموت في ما قبله والغرق في العالم السفلي للقشور.

في هذا المقطع تتجلى عناوين مشروع أنسي الحاج في التنظير وفي الأسلوب الذي يعمل على تفتيت البنيان الكلاسيكي للقصيدة وجرها إلى حالة اللهاث لتكون قادرة على التقاط البارق والطارئ والمتسارع. كان يسعى إلى كتابة تلاحق الواقع وتخترقه وتقرأه.

لم يكن شاعر "لن" يحمل طموح الأبوة والريادة بل كان يدعو الشعراء إلى توليد شعرهم من داخل ألعاب اللغة المفتوحة التي من شأنها أن تجعل كل واحد منهم حالة خاصة بعيدة عن الشبه والتقليد.

كان يدل على الطريق وحسب ولا يحدد معالمه النهائية، وذلك الطريق يبنى باللغة. خطة البناء وشكله متروكان لصنّاعهما، لكن المأساة التي تفصح عنها استعادتهما في ذكراه، تكمن في تلك المحاولات التي تطرد اللغة إلى الخلفية والهامش، وتحاول بناء عالم القصيدة من خارجها وتحميلها ما لا تطيق من الركاكات والثرثرات.

ذلك الشاعر الذي كانه أنسي الحاج، والذي سكن في الملعون والمدنس ورفض كل شيء، لم يقدس سوى اللغة، فكيف يمكن أن يستدعى بتدنيس مقدسه الوحيد؟ وهل يمكن توصيف ما يراد له أن يكون تبجيلا وتقديرا إلا بوصفه شكلا من أشكال الاغتيال؟

بسام حجار: رحابة الضيّق

يعلن بسام حجار في حوار معه نشر عام 2009: "أراني الآن غير قادر على فهم التعبير إلا بصفته تعبيرا نثريا محضا. إنني أبحث عن شكل نثري خالص وقد يكون سرديا لقول ما اتضح لي أنني لم أوفق في قوله بعد، وقد يكون هذا الشكل هو الصمت. الصمت المطبق". ويقول في الحوار نفسه: "أعتقد أن 12 مفردة كافية لتسمية العالم وأشيائه".

يلعب حجار دور الحفار، بينما كان الحاج يلعب دور البنّاء، وفي الحفر إقامة في المكان نفسه والاستمرار في تعميقه إلى ما لا نهاية. أدوات الحفر محددة ولا يمكن تغييرها لأن ذلك ينذر بالانقلاب على غايتها. ويمثّل الانهماك بمفهوم التعبير النثري المساهمة التي جاء بها حجار إلى مجال قصيدة النثر حيث تبنى على المعاينة والقراءة والسبر فلا تكون سوى محاولة للتفسير. مادة الشعر موجودة على الدوام وعلى الشاعر البحث عن مفرداتها التي تجعلها محسوسة وقابلة للمعاينة.

حين يكون المعجم المحدود قادرا على مقاربة العالم وأشيائه، فلأن العالم يتكثف ويتمركز في ما ينتجه من ألم. فكل ما سوى ذلك يتجه إلى هذا المعنى وينطق به. العناية بمفردات الألم والعزلة وأشيائها تمكنها من بث طاقة مفتوحة من الرحابة إذا ما اشتُغل عليها بمنطق الحفارين، ففي كل مرة تلامس موضوعها تختلف في الشدة والأثر والوقع، وتضيء ملامح الوجود بشكل أوضح.

يمثّل الانهماك بمفهوم التعبير النثري المساهمة التي جاء بها بسام حجار إلى مجال قصيدة النثر

يسيطر همّ التفسير على  حجار، ويلاحق أسلوبه الكتابي معنى التعبير كما في تعبير المنام الذي يعني شرحه وتفسيره وكذلك مشتقات العبور والعبرة التي توصل إلى العبارة. ينحاز إلى نثريتها كمجال فهم وتمثل، لذا لا يحضر الخيال في كتابته بل المادي المتراكم والمحسوس المنصهر في تجارب قصوى وحادة.

تجربة حجار تقوم على الالتصاق بموضوع واحد والتجديد الدائم لأدوات التعبير الضيقة، ليس عبر رميها وإحلال أدوات جديدة مكانها تستجيب للنزوع نفسه، لكن في تجديد طاقتها وإدخالها في نمط علاقات متجدد يقول الأمر نفسه على الدوام بطبقات مختلفة لا تغادر مجال الشحيح والجاف والمتصحر.

معلّم الكثافة

وبذلك كان بسام حجار معلّم الكثافة والاختصار، ويظلم بقراءة مشروعه انطلاقا من أنه أنه كان شاعرا رومنطيقيا وعاطفيا في نزوعه، وكذلك حين تُوظّف بنية التقشف التي وسمت تجربته في صناعة أشكال تتخفف من مادة الشعر نفسها ومن العناية بتدبير المعاني والأحوال.

ينظر إليه على أنه شاعر الداخل والباطن في حين أن كل شعره، على العكس من ذلك، لا يخبر عن ألمه وأحزانه بوصفهما ملكه بل يتعامل معهما كنظام علاقات مع عالم ليس سوى ألم خالص. المعاناة والإحاطة بأجواء المقبرة وأدوات الموت وطقوسه ومراسيمه تحضر في هيئة مفردات الوجود.

Gazett.de
بسام حجار

 كان الأسلوب الذي يلاحق هذا الوجود نوعا من محاكاة تذهب مباشرة في اتجاه التقاط الأثر وتدوينه، فالموت كحدث ختامي ومقفل يستجر الصمت والوجوم، ولطالما هجست قصيدة بسام بأن تحمل ذلك الصمت والوجوم في مراميها ومفرداتها وتراكيبها، مما دفع بها إلى الإقامة في موقع الضيق الذي يكرر بلا توقف لحظة الاصطدام بفاجعة لا تحتمل.

هل من الضروري القول إن ذلك الضيق المقصود كان وسيلة بسام الخاصة لتوليد المعاني وشكله الخاص في نحت المفردات. استعادته القاتلة تنظر إلى مفهوم التقشف اللغوي وتستعيده على أنه وسيلة للتخفف من البناء والاستخفاف بالمعاني، أو ترى أن الرصّ العشوائي للعبارات التي تحيل على معجم الضيق أو الموت، من شأنه أن يخلق عالما شعريا موازيا لشغل حجار أو يمكنه نسب نفسه إليه والادعاء بأنه امتداده وأثره.

كان بسام حجار قد انتبه إلى الفارق بين الشعرنة القصدية والبحث عن معادل لغوي يسمح بتفسير أحوال الواقع. الشعرنة تفترض دائما نقص التجربة وهشاشتها، فتتحول اللعبة اللغوية وعملية بناء القصيدة إلى تصعيد أو أدلجة للواقع بغية منحه الصلابة والمعنى، بينما يشتغل حجار خلافا لذلك تماما، فهو يؤمن بأن الواقع يختزن كل الشعر ومهمة الشاعر التقاطه وتفسيره بالمادة اللغوية المناسبة.

كان بسام حجار معلّم الكثافة والاختصار، ويظلم  بقراءة مشروعه انطلاقا من أنه أنه كان شاعرا رومنطيقيا وعاطفيا

من هنا كانت كل أعماله تدريبا شاقا على الكتابة للآخرين وعن الآخرين، فالموت دائما حدث خارجي، ولكنه يخترق الروح ولا يمكن معاينته والاصطدام به إلا عبر الآخر، وربما تيسّرت للشاعر تجربة خاصة في هذا الصدد حيث فارق الحياة إثر أزمة صحية لعدة ثوان، فصار قادرا على أن يعاين نفسه كآخر أو أن يحمل موته ويحتضنه، إذا ما شئنا الاقتراب من مفراداته وتراكيبه.

في قصيدة "لم يقل لي أحد ما معنى الأسى" من مجموعة "تفسير الرخام" يقول حجار:

"وللأم تفاسير كثيرة

من بينها

حكاية للطفلين قبل النوم

والألم والكرسي المدولب

والصحيفة

وغيبوبة الحواس

وطبعا-

من بينها-

الموت".

تفاصيل الأم وسيرتها وتفاصيلها تتحرك دائريا لتعود إلى الموت وتفسره ويفسرها. المحسوس يصبح ظلا للمادي وناطقا باسمه، فالألم بعالمه الذي يفتح الباب على غيبوبة الحواس والموت يتجسد في الكرسي المدولب وفي الصحيفة ويتخذ شكلا ويصبح قابلا للمعاينة والحضور.

الاستعادات التي تقارب بسام حجار حاليا، تعتنق شعرنة معادية للواقع وخبراته، وتعمل على إغراق التجارب بحشد من المفردات والانفعالات الزائفة، بحيث تتبدد وتستعصي على التفسير وتذوب، تاركة بقعا كبيرة من الثرثرة والحشو الفائض، الذي لا يمتلك وظيفة خارج شرعنة عالم الاستعادات القاتلة لشعراء غابوا والسيطرة على مساحة القول الشعري السائد.

font change

مقالات ذات صلة