الحاجة إلى محمود درويش

الحاجة إلى محمود درويش

ستنتهي الحرب غدا، وسيعيد المقاتلون ما تبقى من ذخيرتهم وقنابلهم إلى المخازن، ثم سيستنشقون هواء مختلفا بعد أشهر أو أعوام من الاقتتال والترقب للنصر أو الهزيمة.

لكن هؤلاء، وأولئك الذين يترقبون عودتهم من المعارك، سيشعرون، ربّما، أن هناك ما كان ينقصهم في الحرب التي انتهت، وتسابق على منابرها السياسيون والخطباء والهتافون، إنّه محمود درويش، نعم هو من كان ينقصهم وينقصنا نحن الذين تابعنا عن بعد كلّ طلقة وانفجار وموت. وتساءلنا كثيرا: أين أنت يا محمود؟ ماذا لو كنتَ بيننا يا محمود؟

هل كنّا ننتظر قصيدة أم مقالة مزلزلة من صوت فلسطين وشاهدها الحي، كعادته حين يضيء حال عتمتنا ومحاولاتنا لأن نكون، "النصر أو النصر"، النصر والحياة مهما بلغ الخذلان مداه.

نحتاج شهادته، صرخته، مرثاته؛ نحتاجه وهو يعلن "باقون"، أو يصرخ "أما لآخر هذا الليل من آخر؟".

قصيدته المضيئة لهذا الجرح النازف، وهو الذي لم يصمت يوما إذا ما رأى شعبه يحاصر ويُقتل. نقول شعبه، وهو شعبه بالطبع وبالفعل، كأنّه خرج من قصيدة له أو تولّد منها، مع أنّ هذا الشعب كان وبقي قبل القصيدة وبعدها.

لهذا فإن الحاجة إليه، تعني الحاجة لإعادة قراءة ذاكرة فلسطين الجمالية

نعرف أن الشاعر العظيم غادر حياتنا وأن صوته صار موزعا مع كلّ  فلسطيني يقاوم الموت، مع كل أولئك الذين يردّدون شعاره "نكون أو نكون".

فمحمود هو ذاكرة فلسطين وخريطتها الجمالية، مدنها وقراها، يأسها وأملها، حزنها وقيامتها. وهو كما قال عنه مرّة ياسر عرفات الدليل على أن "الثورة الفلسطينية ليست بندقية فقط وإلاّ لكانت قاطعة طريق".

لهذا فإن الحاجة إليه، تعني الحاجة لإعادة قراءة ذاكرة فلسطين الجمالية، شعراء المقاومة الذين فتحوا طريقا جديدا للكلمة العربية، كما قال صلاح عبدالصبور؛ قراءة غسان كنفاني واميل حبيبي وفدوى طوقان وسميح القاسم وتوفيق زياد ومعين بسيسو وإدوارد سعيد وإسماعيل شموط. الحاجة إلى سماع شهادات من هم أحياء بيننا، الحاجة إلى فلسطين وهي تقلب المعادلة: لا حياة ولا سلام بلا حرّية.

مع كلّ  حرب سنستعيد مقولته: "لا تندم على حرب أنضجتك كما يُنْضجُ آبٌ أكوازُ الرّمان على منحدرات الجبال المنهوبة، فلا جهنم أخرى في انتظارك. ما كان لك صار عليك".وقد وجدناه يشير مبكرا إلى مشكلة غزة مع الاحتلال في مقالته "صمت من أجل غزّة"، المعاد نشرها في كتاب "يوميات الحزن العادي" (1973)، حيث "القيمة الوحيدة للإنسان المحتل هي مدى قدرته على مقاومة الاحتلال"، وفي مقالة أخرى في مجلة "اليوم السابع" (1988) يسائل فيه الضمير اليهودي عما يفعله الاحتلال الإسرائيلي باسمهم ولكي لا "تصبح أفران الغاز (النازية) ذريعة لحرق أطفال غزة". وكان في مقال سابق ("الأهرام" المصرية، 1971) أعاد سيد محمود نشره في كتابه عن درويش في مصر، قد قال إن غزة "نموذج عمل، وإعلان إرادة". وإنها "صارت رمزا لطاقات العرب ولافتة للمستقبل". وفي قول كأنّه يصف حالها الآن يرى "إن غزّة تُحرِّر نفسها وتاريخها كلّ ساعة، وتصون قيمها بالاقتراب الشديد... بالالتصاق... بالالتحام بالموت".

في مقالاته التي توزعت بين عدة كتب "في وصف حالتنا"، نجده يشهد على مختلف التحولات الفلسطينية منذ أن كان في الداخل الفلسطيني، حيث نزع عنهم بعض العرب هويتهم، فبدلا من وصفهم بالفلسطينيين أطلقوا عليهم صفة "عرب إسرائيل"، وفي الحروب اللاحقة التي شهدها، نجده يقرأ انتصارات الآخر من زاوية مختلفة. فإذا كان الآخر يرى أنه انتصر في معارك الخامس من يونيو/ حزيران، فإن درويش استعاد رأيا يقول "إن ثمة نوعا من الانتصارات ينتهي بالمنتصر إلى القبر"، وهو "نصر بلا مجد". وبقراءة متفحصة رأى بهجة احتفالاتهم ناقصة، فمع صور الجنود المصريين الذين ماتوا عطشا في الصحراء ورقصات الحاخامات فرحا أمام حائط المبكى كانوا يحوّلون "الخوف المصطنع من العرب إلى خوف حقيقي. وهم حين يسعون إلى نصر جديد، فإنهم يسعون في آخر الأمر إلى هزيمة جديدة، لأن بذور هزيمتهم قد نمت في ذروة انتصاراتهم". 

ستبقى قصيدته حيّة بيننا، نعود إليها كلّما احتجنا إليه شفاء من جراحاتنا وموتنا

مع هذا، كتب درويش عن الخسارة والإحباط، والموت الذي عانده بالحب والشغف بالحياة. فالقصيدة كانت وطنه، أو الدليل إلى وطنه، وصار اسمه يقترن بهذا الوطن الذي كان اسمه فلسطين وسيصير اسمه فلسطين.

هذا الاسم الذي انشغل به كلّ حياته وسيبقى معه ومعنا بعد مماته، حتى إن ما قاله عن غسان كنفاني ينطبق عليه أيضا: "لو وضعوك في الجنة أو جهنم، لأشغلت سكّانها بقضية فلسطين".

كان محمود كثير الملاحظة في القصيدة سواء في تأريخيتها أو في أفقها الجمالي الذي أوجد له مكانة بين شعراء العالم. فهو لم يصل إلى ذائقة القارئ العربي، أو العالمي، لأنّه كان صوت فلسطين فحسب بل لأنّه كان خلاصة القصيدة العربية وجمالياتها في كلّ العصور.

وستبقى قصيدته حيّة بيننا، نعود إليها كلّما احتجنا إليه شفاء من جراحاتنا وموتنا، "وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل".

font change

مقالات ذات صلة