"ورثة الصمت" لعبير إسبر... مأساة عائلة وبلاد

رواية ترثي سوريا وما حلّ بها

Twitter
Twitter
عبير اسبر

"ورثة الصمت" لعبير إسبر... مأساة عائلة وبلاد

تنهمك الروائية السورية عبير داغر إسبر في روايتها الجديدة، "ورثة الصمت"، بترتيب السيرة المتشعبة، الحافلة بالخيبات، لعائلة سورية، وتقتفي آثار خطواتها من وداعة قرية مقلس في وادي النصارى بريف حمص، وصولا إلى صقيع مونتريال الكندية، متلصصة على صراعاتها ومنقبة في أرشيفها السري، عبر أزمنة متداخلة تمتد لنحو نصف قرن، لتفتح القوس واسعا حيال أسئلة الهوية والانتماء وثنائية الوطن والمنفى.

الرواية الصادرة عن "دار نوفل/ هاشيت انطوان" (بيروت 2024) هي سفر عائلي ضخم يستحضر حيوات ومصائر وأمكنة وشخصيات يغلب عليها الطابع التراجيدي، وكأنها من أساطير إغريقية أو مسرحية شكسبيرية، فالرواية تبدأ بحادثة انتحار لينسحب أثرها النفسي والعاطفي والوجداني على مختلف صفحات هذا العمل الروائي، المترع بنبرة الأسى وألم الفقد، ولوعة الاغتراب.

حزن خفي

لكل شخصية في "ورثة الصمت" أحلامها وطموحاتها ورغباتها، لكن ما يجمع بينها ذلك الحزن الخفي والقلق الدائم و"الجبروت الهش"، إن جاز الوصف، فهي في مجملها شخصيات حائرة تتمرد بمقدار، وتستسلم بمقدار، لكنها غالبا ما تجد نفسها وسط خيارات تعصف بسكينتها الزائفة.

لكل شخصية في "ورثة الصمت" أحلامها وطموحاتها ورغباتها، لكن ما يجمع بينها ذلك الحزن الخفي والقلق الدائم

الراوي هو سامي قدسي، الذي يحاول ترتيب سيرة العائلة ويكشف أسرارها وخفاياها، وهو يعيش حاليا في مونتريال، رجلا كهلا خبر الحياة بكل صخبها وتحولاتها، وعاش الحسرات والخيبات، فقد غادر سوريا باكرا، بعد دراسة الهندسة، وبعدما طلب للتجنيد العسكري، على الرغم من انه وحيد أمه فيكتوريا، التي رحلت عن الدنيا باكرا، ليعيش مع شقيقته نانا في كنف جدته لأمه ماريا. استقر فترة في نيس الفرنسية ليتزوج وينجب طفلته جانو من زوجته أناييس التي تتوفى، فيواصل الهجرة إلى كندا حيث يعيش وحيدا في عزلته. وهو في ضعفه ذاك، يتلقى خبرا مؤلما، متسقا مع سيرة العائلة التراجيدية، عن محاولة انتحار ابنته جانو، الصبية العشرينية التي يفترض بها أن تعانق بهجة الحياة بكل ما أوتيت من جمال ورقة، لكنها اختارت طريقا مناقضا، كما فعلت، من قبل، عمتها نانا. وهي حتى، وإن فشلت في محاولة الانتحار،  فذلك لا يعني البتة أن الهدوء والصفاء سيكونان سهلي المنال، فمحاولة الانتحار الفاشلة تنطبع كوشم في أعماق الروح، وها هي تخضع لجلسات علاج نفسي لعله يرمم شروخ عمرها الغض.

بلاغة لغوية

ما يسرده سامي عن عائلته وأفرادها، وخصوصا النساء، ليس سردا تقليديا يكتفي بقص الحكاية فحسب، بل هو سرد ينطوي على الكثير من المعارف والثقافات التي تحضر في ثنايا السرد، ذلك أن الروائية صاحبة "سقوط حر" لا تترك شخصيتها الروائية إلى عفويتها وتلقائيتها كي تعبر عن عائلتها بلغة بسيطة، بل تتدخل لتضفي على السرد مذاقا معرفيا وجماليا خاصا، عبر التوريات والاستعارات والتشابيه والصور التي تحاكي اللغة الشعرية حينا، وتستنجد بالفلسفة والأسطورة أحيانا، وفي جميع الأحايين تسجل بلاغة لغوية تحلق بالعمل نحو جماليات أبعد من مجرد سرد سيرة عائلة. والكاتبة، في هذا المعنى، تتجنب السرد الروائي التقليدي، لتعتني إلى جانب الحكاية (المضمون)، بالأسلوب وطريقة السرد التي تكشف هنا عن روائية تعرف كيف تختار الجمل الرقيقة والتعابير المؤثرة والمفردات الشجية التي تتلاءم مع مناخات الرواية.

تلجأ صاحبة "منازل الغياب"، مع بداية كل فصل، إلى وضع مقاطع قصيرة مقتبسة من قصيدة أو رواية أو أمثولة شعبية أو كلمات أغنية محلية او نص ديني أو أسطوري، وهذه المقاطع تمثل اختزالا لما سيأتي بعدها من تفاصيل ووقائع وتجارب تخوضها هذه الشخصية أو تلك.     

نانا

وعلى الرغم من أن الشخصيات تتزاحم على صفحات هذه الرواية، لكن يمكن اعتبار شخصية نانا، شقيقة الراوي سامي، المشغوفة بالرسم، أكثرها درامية وحيوية وتأثيرا، فهي المسيحية التي تمردت على واقعها وتزوجت مسلما، مع ما يعني هذا التصرف من جرأة في مجتمع قلما يتسامح مع حدث من هذا النوع، ولم تكتف نانا بسماع نداء قلبها ثائرة على كل التقاليد، بل بدت "كأنمّا عاشت حياتها كلّها لتتمرّن على الخيبة"، وأرادت أن تنهي حياتها بحسب ما تشتهي: "انتحرت نانا لتعلن  للكون أن لها الكلمة الأخيرة، وأن الموت كالحياة حدث تافه أيضا"، وهي الجملة الاستهلالية في الرواية.

الكاتبة، في هذا المعنى، تتجنب السرد الروائي التقليدي، لتعتني إلى جانب الحكاية، بالأسلوب وطريقة السرد

غادرت نانا مدينتها حمص المحاصرة في العام 2014، وعندئذ علمت تاريخ هزيمتها النهائية، فالفتاة التي "لطالما سخرت من الأوطان، ومن العقل الجمعيّ، ومن رنين الأغاني في البال، ومن روائح البخور والبنّ المحمّص... ومن المعنى الفجّ لتلك الكلمة الممسوخة الوطن"... سافرت دون قلق، ودون اعتبارٍ لذلك الوحش الذي يُدعى غربة. استقرت في الصقيع الكندي، لكنه "كان صقيعا قاتلا" دفعها الى الانتحار بسهولة بعد شعور بالذنب والندم والفجيعة لتركها حمص التي نجت فيها من البراميل المتفجرة والقنابل والمدافع، لكنها لم تقو على النجاة من كلام ابنها حسن القاسي. كان ذلك كافيا كي تقدم على انتحارها الصاخب في منفاها الكندي، فيما الابن حسن الذي ضجر، بدوره، من صقيع كندا، عاش قلق الهوية وحيرة الانتماء أكثر من غيره، فعاد إلى حمص لمواساة الضحايا، فأصبح هو الضحية.

مطانيوس، وعلى الرغم من حضوره العابر في الحياة وعلى صفحات الرواية، يعتبر من الشخصيات الرئيسة في "ورثة الصمت"، بما حملت من تراجيديا، ففضلا عن اسمه الآرامي ذي الإيقاع المقدس، كان الشاب عاشقا، وشاعرا، وانتهى شهيدا.كان ضابطا في الجيش الفرنسيّ يتحدّث الإنكليزيّة والفرنسيّة ويكتب شعره بلغة القلب والأجداد، وظلّ وسيما ونبيلا كالفرسان إلى أن خرجت فرنسا واستقلّت سوريا،  فالتحق بجيشها الوطنيّ ومات شابّا كما يجدر بالشعراء، وكي يُتمّ قداسته، كان أن استُشهد على أرض فلسطين، في العام الأكثر خزيا في تاريخ البلاد، 1948.

هذه العناصر مجتمعة جعلت من مطانيوس أحد قديسي هذه العائلة "المنحوسة"، كما ينقل الراوي سامي عن جدته ماريا، ليكون مصير العائلة شبيها بمصير بلادها سوريا.

سوريا

من البديهي ان تكون سوريا وما عصف بها من أحداث في العقد الأخير حاضرة في صفحات الرواية، فالمأساة السورية وجدت طريقها إلى الفنون، بأشكال مختلفة، ورواية "ورثة الصمت" تقارب، من جانبها، هذه المأساة من دون شعارات أو عناوين كبرى، بل تصغي إلى صوت الضحية بأقل قدر من الأدلجة والتسييس، وخصوصا أن العائلة التي تتناول الرواية سيرتها تنتمي إلى مدينة حمص التي عرفت بـ"عاصمة الثورة" والتي شهدت تظاهرات سلمية ضخمة، وليس معروفا عن أهلها تلك النزعة الدينية المتطرفة. مدينة حمص هي صورة مصغرة عن سوريا، إذ تضم نسبا من مختلف الطوائف المسيحية إلى جانب الأقلية العلوية وغالبية سنية، كما أن ريفها الذي يمتد حتى مدينة تدمر الأثرية في البادية يضم عددا كبيرا من العشائر السورية البدوية، فضلا عن أن عددا من كبار الشخصيات السياسية خلال القرن العشرين ينتمون إليها، بينهم رؤساء جمهورية مثل شكري القوتلي ونور الدين الأتاسي، كما ينحدر منها السجين السياسي الأشهر في سوريا والزعيم اليساري، رياض الترك، الذي توفي مطلع السنة الجارية، وينتمي إليها أيضا أحد الزعماء المعروفين لجماعة الإخوان المسلمين مصطفى السباعي.

تقارب "ورثة الصمت" مأساة سوريا من دون شعارات أو عناوين كبرى، بل تصغي إلى صوت الضحية بأقل قدر من الأدلجة والتسييس

تحضر هذه المدينة في سطور الرواية لا كحيز جغرافي فحسب، بل كفسحة عابقة بالعاطفة وبالذكريات البعيدة، على نحو تستحيل معه حمص فضاء أسطوريا، وستتكرر عبر الصفحات أسماء احياء حمص التي لطالما ذكرت في نشرات الاخبار مثل باب الدريب والبيّاضة وبابا عمرو وباب السباع والخالديّة وباب هود وغيرها من الأحياء التي تعرضت للقصف وشرد أهلها الذين تشتتوا في بقاع الارض المختلفة، وانتظروا أمام أبواب السفارات وتاهوا على أرصفة الموانئ والمطارات بحثا عن أرض آمنة، تماما كمعظم السوريين وكأفراد عائلة قدسي التي اعتقدت انها ستجد في المنفى الكندي خلاصا، لكن الاعتقاد كان مجرد وهم، "فأيّ  خلاصٍ  في منافٍ تبدو أقرب إلى عطبٍ داخليٍّ منها إلى هجرةٍ جغرافيّة؟".

ترثي الرواية سوريا وما حل بها، فقد مات أبـنـاؤهـا، "ماتوا بعد أن فض ّ السفاحون بكارة أحلامهم، ماتوا بعدما انتهكت المدينة بالسلاح وبالفجيعة، بالقتل وبالتعذيب... فأتى كـل خاسر، أتـوا كإخوة اتفقوا على قتل بعضهم بعضا، لعلهم ينسون الحلم الـذي سقط، الحلم الـذي أمسكوه مـرة، وتلقفوه مثل كرة كريستالية من يد الى يد، بحرص طفل على نجمة، فسقط وانكسر" (260).

font change

مقالات ذات صلة