تونس... أي ارتدادات لصدور الأحكام في قضية اغتيال شكري بلعيد؟

بدء إصدار الأحكام في اغتيالات العقد الماضي

تونس... أي ارتدادات لصدور الأحكام في قضية اغتيال شكري بلعيد؟

وأخيرا أصدر القضاء التونسي أول الأحكام في قضية اغتيال المعارض اليساري البارز شكري بلعيد. شملت الأحكام التي صدرت بعد مرور 11 سنة عن تنفيذ أول اغتيال سياسي في تاريخ تونس الحديث، 23 متهما من "مجموعة التنفيذ". وتراوحت الأحكام بين الإعدام في حق 4 مدانين والمؤبد في حق اثنين آخرين وتبرئة 5 والسجن بين سنتين و120 سنة للبقية.

وانطلقت بمجرد النطق بالأحكام محاولات توظيف سياسي، تقودها في الأساس حركة "النهضة" التي يتهم زعيمها راشد الغنوشي من قبل هيئة الدفاع عن شكري بلعيد، بإصدار أمر تصفية أشرس معارضي حزبه خلال تلك الفترة.

ولم يرافق صدور هذه الأحكام تشكيك من أية جهة كانت. وهذا أمر لافت ويكاد يكون استثناء في تاريخ المحاكمات في القضايا ذات الصبغة السياسية والإرهابية بتونس.

أ ف ب
المعارض التونسي الراحل شكري بلعيد أثناء مقابلة إذاعية في 20 نوفمبر 2012

من جهة أخرى قد تفهم هذه الأحكام على أنها إسدال لستار نهائي على مسار متعثر وطويل لقضية الاغتيال، خصوصا بعد مسارعة حركة "النهضة" إلى توصيف الأحكام بـ"إعلان تبرئة" لها من دم بلعيد بل وذهبت إلى حد المطالبة برد الاعتبار لمن طالتهم الاتهامات وعلى رأسهم الغنوشي.

رد "رفاق بلعيد" على بيان "النهضة" بالدعوة إلى مراجعة سير القضية منذ أطوارها الأولى وكيف عرفت تجزئة أو "تفكيكا" للملفات للتأكيد على أن الأحكام تتعلق بجزء من الملف وليس بالقضية برمتها. إجراء تفكيك (معمول به في القضايا الكبرى) كان قد خلف منذ بداية الأعمال التحقيقية استنكار هيئة الدفاع عن بلعيد التي أدانته واعتبرت أنه يهدف إلى طمس الحقيقة.

وترتبط قضية شكري بلعيد بعدة قضايا لا تزال محل نظر القضاء. وسيمكّن استكمال البت فيها من تحديد السردية القضائية الكاملة لعملية اغتيال شكري بلعيد، وهي سردية لن يكون لها أي قبول إن غابت عنها إجابات عن الأسئلة الثلاثة: من خطط؟ ومن موّل؟ ومن نفذ؟

المحامي رضا الرداوي، عضو هيئة الدفاع عن شكري بلعيد، قال منذ أشهر قليلة من مدينة جنيف السويسرية، إن ملف القضية يحمل خصوصية لا مثيل لها في تاريخ القضاء التونسي، وفسر ذلك بالقول: "تمت بعثرة المعطيات المتعلقة بعمليات الاغتيال ووضعها في ملفات جانبية وهامشية حتى لا يتم اكتشاف الحقيقة وكان على هيئة الدفاع البحث عن هذه الملفات ضمن ما يسمى المحاماة الاستقصائية".

ومن بين القضايا المتعلقة بالاغتيال والتي فتحت فيها تحقيقات وانطلقت فيها الأبحاث بعد ضغط من هيئة الدفاع، تبرز قضية الجهاز السري أو الخاص لحركة "النهضة". والقضية المعروفة إعلاميا بقضية "الغرفة السوداء" بوزارة الداخلية، وأيضا قضية رجل الأعمال فتحي دمق، وقضية التسفير إلى بؤر التوتر (من بين الموقوفين فيها نائب رئيس "النهضة" علي العريض) وقضيتا "مخازن الأسلحة" في محافظة مدنين جنوبي البلاد، والمنيهلة وسط العاصمة، بالإضافة إلى عشرات القضايا الإرهابية الخطيرة التي استُهدف فيها أمنيون وعسكريون.

من جهته اعتبر رياض الفاهم رئيس اللجنة السياسية لحزب "الوطنيين الديمقراطيين الموحد"، وهو الحزب الذي أسسه الراحل شكري بلعيد، أن صدور الأحكام ضد "مجموعة التنفيذ" يمثل بداية للكشف عن الحقيقة التي قال إنها "رهينة البت في بقية الملفات القضائية ذات العلاقة بالقضية الأصلية بعدما وقع تفكيكها". ويضيف الفاهم: "بتعليمات من نور الدين البحيري (قيادي بحركة "النهضة" ووزير العدل عند اغتيال شكري بلعيد) وبتنفيذ من حاكم التحقيق الأول المتعهد بملف الاغتيال"، والذي اتهمه المتحدث بارتكاب "كل الفظاعات" (قاضي التحقيق موقوف حاليا).

كما دعا الفاهم في تصريح لإذاعة "ديوان" المحلية، حركة "النهضة" إلى الحفاظ عن موقفها الإيجابي نفسه وثقتها في القضاء والالتزام بعدم التشكيك عند صدور الأحكام في بقية القضايا المرتبطة بملف الاغتيال. وذكّر الفاهم بتصريح لوزير الداخلية علي العريض (من القيادات التاريخية لـ"النهضة") كان قد أدلى به إثر عملية الاغتيال، رجح فيه أن تكون خلفياتها خلافا بين بلعيد، وهو محام، وأحد موكليه. وقد تم إثر هذا التصريح تكييف القضية كقضية جنائية.

من بين القضايا المتعلقة بالاغتيال والتي فتحت فيها تحقيقات وانطلقت فيها الأبحاث بعد ضغط من هيئة الدفاع، تبرز قضية الجهاز السري أو الخاص لحركة "النهضة"

وكانت "النهضة" قد أيدت بقوة الأحكام القضائية  المتعلقة بـ23 متهما. وأكدت في بيان صدر عنها بعد ساعات قليلة من الإعلان عن الأحكام، أن "ما توصلت إليه الأجهزة الأمنية بكل تخصصاتها وما انتهت إليه الدوائر القضائية من تفاصيل تعد بشكل يقيني أدلة براءة لحركة النهضة وأدلة قطعية على الأجندة المشبوهة لما يسمى هيئة الدفاع المتمثلة في استهداف طرف سياسي ظلما وعدوانا وكذبا وبهتانا".

أ ف ب
عبد المجيد بلعيد شقيق المعارض التونسي الراحل شكري بلعيد مشاركا في تجمع في جادة بورقيبة في 27 مارس بعد صدور الاحكام في قضية الاغتيال

كما اعتبرت "النهضة" في بيانها أن "صدور هذه الأحكام ينبغي أن ينهي المتاجرة بدم الشهيد ويعيد الاعتبار لمن طالته الاتهامات السياسية الباطلة والقاتلة وخاصة رئيس الحركة راشد الغنوشي". ودعت إلى "فتح صفحة المصالحات الكبرى والإعراض عن أصوات الفتنة والإقصاء وإنهاء العبث والخداع بمصالح البلاد العليا عبر التضليل والتلاعب بالحقيقة". 

مجموعة التنفيذ

حكمت الدائرة الجنائية الخامسة المختصة بقضايا الإرهاب في المحكمة الابتدائية بتونس أقسى الأحكام وفق قانون الإرهاب التونسي، ضد 19 من "مجموعة التنفيذ" بعد تبرئة 5 متهمين. 
تتكون "مجموعة التنفيذ" من أخطر العناصر الإرهابية على الإطلاق داخل تونس وخارجها ممن راكمت الخبرات القتالية والتقت بالقيادات الإرهابية العالمية فكريا وميدانيا، من " سجن أبو غريب" مرورا بتنظيم "القاعدة" في أفغانستان والقتال في العراق وسوريا واليمن ومالي وصولا إلى الإشراف على مراكز تدريب الإرهابيين في درنة بليبيا.  
فمن وثائق القضية، يمكن الوقوف بوضوح على روابط تنظيمية وتمويلية بين المدانين وعدة تنظيمات إرهابية على غرار كتيبة "الملثمون" التي يشرف على إدارتها من صحراء مالي الإرهابي الجزائري مختار بالمختار المكنى بـ"الأعور". كما كشفت اعترافات المدانين مثلا عن تمويل من تنظيم "القاعدة" باليمن عن طريق الإرهابي طه الأطرش (حسب دراسة بحثية لمنتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مبنية على الوثائق القضائية) .
وتضم قضية اغتيال شكري بلعيد آلاف الوثائق والتسجيلات والتحقيقات والاستنطاقات، ويقول المحامون إن كل جلسة لا تكاد تخلو من المفاجآت، بما في ذلك آخر جلسات الاستنطاق المنعقدة خلال شهر فبراير/شباط المنقضي والتي طلب خلالها رياض الورتاني (مدان بـ20 سنة سجنا) من القاضي تمكينه من الاستنطاق في مكتب، وهو إجراء مسموح به ويسمى "الاستنطاق بالتحرير المكتبي"، ولا يعد اعتماد هذا الإجراء سابقة في قضايا إرهابية، فقد تم العمل به في عدة مناسبات بطلب من المتهمين الذين يبررونه بتلقيهم تهديدات بالتصفية، على غرار محمد العوادي (محكوم بالإعدام) الذي كان قد أكد عام 2017 أنه تعرض لمحاولة تسميم وأنه مهدد بالقتل.
وكشف رياض الورتاني عن شخصية محورية في ملف القضية هو نور الدين قندوس، الموقوف في قضية تسفير الشباب للقتال في سوريا. وكان من قيادات حركة "النهضة"، وحكم عليه في عهد بن علي بـ30 سنة سجنا. والتحق بعد مغادرته السجن عام 2007 بتنظيمات إرهابية. وعرف بعد الثورة بالإشراف على زيارات قام بها عدد من "شيوخ الفتنة" ممن فتحت لهم المساجد والمنابر للتشجيع على "الجهاد في سوريا".

من وثائق القضية، يمكن الوقوف بوضوح على روابط تنظيمية وتمويلية بين المدانين وعدة تنظيمات إرهابية

وهذه هي ثاني مرة يذكر فيها اسم نور الدين قندوس، خلال استنطاق لأحد المتهمين من "مجموعة التنفيذ" بعد اعترافات لمتهم ثان أيضا في شهر سبتمبر/أيلول 2022. وقندوز، يمثل حسب هيئة الدفاع عن شكري بلعيد، الخيط الرابط بين حركة "النهضة" وتنظيم "أنصار الشريعة" الإرهابي. وكانت الهيئة قد كشفت عن اعترافات قضائية لقندوز قال فيها إنه لعب دور الوسيط بين "أنصار الشريعة" عام 2012 بطلب من رئيس "النهضة" راشد الغنوشي لفض اعتصام للتنظيم في جامعة منوبة (واحدة من أكبر الجامعات في تونس) وكان الاعتصام يهدف لرفع قرار منع المنتقبات من دخول الجامعة.

قضايا ثقيلة

وجاء نقل الإعلان عن الأحكام الصادرة في قضية اغتيال شكري بلعيد على شاشة التلفزيون الرسمي التونسي فجر يوم الثلاثاء  26 مارس/آذار 2024 بعد ساعات من الانتظار والترقب. فقد نشر التلفزيون بلاغا عبر صفحته الرسمية على موقع "فيسبوك" أعلن فيه عن نقل مباشر للحظة النطق بالأحكام في تمام الساعة التاسعة من مساء يوم الثلاثاء، إلا أن تواصل المفاوضات بين هيئة المحكمة (تضم 5 قضاة) من الساعة العاشرة ليلا حتى الساعة الرابعة فجرا، كان وراء تأخيرالإعلان. وتسبب التأخير في حدوث بلبلة ردت عليها السلطة بإقالة وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس في اليوم نفسه.
ويُعدّ نقل الأحكام القضائية على شاشة التلفزة الرسمية أمرا نادرا جدا، ومن هنا تبرز أهمية القضية من عدة جوانب: أولا باعتبارها تتعلق بأول اغتيال سياسي في تاريخ تونس الحديث والاغتيال كان بمثابة زلزال ضرب البلاد. وثانيا بالنظر إلى تاريخية الحدث الذي يأتي بعد أكثر من عقد حافل بالمشاحنات والتوترات والاعتصامات والاحتجاجات بخصوص مسار القضية التي تمثل بلا شك واحدة من أعقد القضايا التي نظرت فيها المحاكم التونسية على مر تاريخها.

أ ف ب
زعيم حركة "النهضة" التونسية راشد الغنوشي يلقي خطابا في مدينة صفاقس في 5 يونيو 2022 في احتفال بالذكرى 41 لتأسيس الحركة

وثالثا- وهذا الأهم- تبرز أهمية الحدث بالنظر إلى أن صدور الأحكام يعتبر مؤشرا  على بدء تحرر جهاز القضاء  التونسي الذي يتصدر قائمة مؤسسات الدولة التي لا تحظى بثقة التونسيين والذي كان لسنوات متهما بالتستر على الجناة الحقيقيين من خلال التلاعب بالإجراءات وإعدام وثائق وشهادات هامة بهدف قبر الحقيقة.
لذلك شكل التعهد بالكشف عن حقيقة اغتيال شكري بلعيد (وأيضا محمد البراهمي النائب المؤسس القومي) ومحاسبة القتلة واحدة من الوعود الانتخابية للمرشحين في الاستحقاقين الرئاسيين لعامي 2014 و2019، بمن فيهم الرئيس التونسي قيس سعيد الذي أحدثت قراراته يوم 25 يوليو/تموز 2021 (أخرج من خلالها حركة "النهضة" من الحكم) تغييرات جوهرية في مسار القضية وأهمها توفر الإرادة السياسية للدفع نحو الكشف عن الحقيقة. 
وكان الرئيس التونسي قد اتهم خلال استقباله والد وشقيق شكري بلعيد يوم 6 فبراير 2022 (بمناسبة الذكرى السنوية لاغتيال بلعيد الذي اغتيل يوم 6 فبراير 2013)، اتهم قاضيا لم يسمه بإخفاء وثائق تتصل بالقضية.
القاضي أصبح بعد ذلك معلوما لدى الجميع: وكيل الجمهورية الأسبق للمحكمة الابتدائية بتونس، يدعى البشير العكرمي، وقد عزل من منصبه في يونيو/حزيران 2022 مع عشرات القضاة "الفاسدين"  بمرسوم رئاسي، ثم تم إيقافه في فبراير 2023 بتهم إرهابية خطيرة.

صدور الأحكام يعتبر مؤشرا على بدء تحرر جهاز القضاء التونسي الذي يتصدر قائمة مؤسسات الدولة التي لا تحظى بثقة التونسيين والذي كان لسنوات متهما بالتستر على الجناة الحقيقيين

والعكرمي محسوب على حركة "النهضة" وحافظ خلال فترة حكمها على نفوذ شبه مطلق في الجهاز القضائي، حسب تقرير صادر عن تفقدية وزارة العدل. وهو في السلم الوظيفي للقضاة، ثاني شخصية قضائية في البلاد بعد الرئيس الأول لمحكمة التعقيب.
وكانت تحت إدارة وإشراف البشير العكرمي المباشرة أثقل الملفات  القضائية على غرار كبرى القضايا الإرهابية وقضيتي اغتيال شكري بلعيد، ومحمد البراهمي. وأصبح يسمى "قاضي الإرهاب" واعتصمت في مكتبه- في سابقة في تاريخ القضاء- مجموعة من المحامين وأطلقوا حملة "حفظ أو إحالة" للضغط بسبب تعطيل فتح الملفات.
وتتهم هيئة الدفاع عن شكري بلعيد (ومحمد البراهمي أيضا)  العكرمي بتعطيل النظر في عدة قضايا مثل قضايا الجهاز السري والغرفة السوداء وقضية رجل الأعمال فتحي دمق، بسبب قربه من حركة "النهضة"، وأصبح العكرمي منذ إيقافه ثم نقله إلى مستشفى الأمراض العقلية وتعكر وضعه الصحي، يحظى بدعم وخاصة بدعوات لعدم التشفي ومطالب بتوفير محاكمة عادلة له.
يمثل صدور الأحكام في قضية شكري بلعيد بداية لتحريك عدة ملفات ثقيلة، وستشهد الأيام القليلة القادمة، بدء المحاكمة في قضية رجل الأعمال فتحي دمق والتي انطلقت في شهر ديسمبر/كانون الأول 2012 (قبل شهرين من عملية الاغتيال) من خلال نشر موقع "نواة" المحلي فيديو يظهر فيه دمق برفقة قياديين من مكتب جهوي لحركة "النهضة" في إحدى ضواحي العاصمة، يتحدث فيه عن تفاصيل عملية الاغتيال مثلما وقعت بالضبط بعد ذلك (الدراجة النارية والمسدس) بالإضافة إلى تداول قائمة كاملة لشخصيات سياسية وإعلامية وقضائية وأمنية كان يخطط لتصفيتها تباعا.
ومن غير المستبعد أن تشهد البلاد، قبل موعد الانتخابات الرئاسية المقرر تنظيمها خريف العام الجاري، التسريع في حسم  كبرى القضايا التي بقيت تراوح مكانها طيلة سنوات والتي ستكون للبت فيها ارتدادات في المشهد السياسي خاصة بالنسبة لحركة "النهضة" التي تقبع أكثرية قياداتها التاريخية، وعلى رأسهم زعيمها راشد الغنوشي، في السجن على خلفية قضايا جلها ذات صبغة إرهابية.

font change

مقالات ذات صلة