لغز هروب "خماسي الدم" من سجن في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيد يصفها بـ "عملية تهريب" متعمدة

AFP
AFP
عناصر من الشرطة التونسية أمام وزارة الداخلية في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة تونس

لغز هروب "خماسي الدم" من سجن في تونس

دخلت تونس في حالة استنفار أمني منذ يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما هرب خمسة سجناء مصنفين كـ"إرهابيين خطرين جدا" من سجن المرناقية، شديد الحراسة، والذي يقع في منطقة نائية في أطراف العاصمة.

ولحق الهروب حادثة أخرى مثيرة للجدل، بعد أيام قليلة، وهي عملية سطو مسلح على مصرف بالقرب من مركز أمني، رجحت السلطات أن إرهابيين اثنين من بين الفارين قاما بتنفيذه.

ويقول مراقبون إن الحادثتين عكستا قصورا في عمل وزارة الداخلية التي تمثل تاريخيا مركزا للسلطة، وتحولت منذ 2011 إلى "بؤرة توتر" تلاحقها شبهات الاختراق والتوظيف السياسي والفساد.

وأعلنت وزارة الداخلية الثلاثاء تمكنها من العثور على الهاربين الخمسة، إذ ألقت الأجهزة الأمنية القبض على أربعة منهم في جبل قرب بوقرنين في حين أمسكت الخامس قبل يومين بمنطقة حي التضامن في تونس العاصمة.

لكن هروب معتقلين مدانين بالإرهاب من السجن حادثة غير مسبوقة في تونس. ومن الجدير بالذكر أن الخمسة أشخاص صدرت بشأنهم أحكام بالإعدام والسجن المؤبد، بعد إدانتهم بالتورط في جرائم دموية هزت البلاد، منها قتل عسكريين وأمنيين، واغتيال كل من السياسيين البارزين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، والتخطيط لتفجير مقرات سيادية، وتنفيذ عمليات انتحارية.

اقرأ أيضا: وزير الخارجية التونسي لـ"المجلة": هذه خطوطنا الحمراء... وأسباب فشل الاسلام السياسي

ويوم الجمعة 3 نوفمبر/تشرين الثاني أعلنت الإدارة العامة للحرس أن "نتيجة المتابعات الفنية لملابسات عملية السطو المسلح على فرع بنكي بجهة بومهل (الضاحية الشمالية للعاصمة) تُرجح أن اثنين من مُنفذيها (5 أشخاص) من الفارين من سجن المرناقية".

وجدير بالذكر أن أحد الفارين الخمسة وهو المدعو رائد التواتي روع أهالي ثلاثة محافظات طيلة سنوات بمداهمة وسرقة منازلهم لتوفير المؤونة في فترات تحصنه بالجبال.

وألمح رئيس الجمهورية قيس سعيد إلى وجود بصمة خارجية بتواطؤ داخلي، في الترتيب والتخطيط الذي قال إنه تواصل أشهرا عديدة، بهدف "إرباك الدولة". تجدر الإشارة هنا إلى أن رواية الرئاسة هي ثاني رواية رسمية حول العملية. وكانت الرواية الأولى في هيئة بيان صادر عن وزارة الداخلية أعلنت فيه عن فرار خمسة إرهابيين وأرفقته بصور لهم، داعية المواطنين إلى الإبلاغ عنهم.

عملية التهريب التي وقعت ليست فرارا.. كل القرائن والدلائل تشير إلى أن العملية تم التدبير لها منذ أشهر

الرئيس التونسي قيس سعيد

وقال الرئيس لوزير الداخلية كمال الفقي في أول تعليق عن الحادثة: "عملية التهريب التي وقعت ليست فرارا.. كل القرائن والدلائل تشير إلى أن العملية تم التدبير لها منذ أشهر... ما حصل ليس مقبولا وهناك تقصير من قبل الأجهزة أو من الأشخاص، ويجب ملاحقتهم ومحاكمتهم. ومن يعتقد أنه سيربك الدولة بتواطؤه مع الحركات الصهيونية وبتواطؤه مع أطراف في الداخل نقول له إنه لا يمكن إرباك الدولة".

وقال مسؤولون أمنيون لـ"المجلة" إن "عملية التهريب كانت محكمة ومسنودة من داخل وخارج سجن المرناقية"، وإن تفاصيل ستؤكدها التحقيقات تضع بقوة فرضية تورط جهات خارجية في التمويل والتخطيط إضافة إلى تواطؤ وتقصير شكلا هزة داخل الوزارة.

وتأتي حادثة الهروب بعد سلسلة أحداث أثارت الرأي العام، ومنها اختفاء مصطفى خذر المتهم في قضية اغتيال محمد البراهمي، وفي قضية "الجهاز السري لحركة النهضة"، ويبدو أنه مُكن من مغادرة البلاد إثر عقوبة بالسجن 8 سنوات قضاها في سجن المرناقية. وكانت هيئة الدفاع عن شكري بلعيد ومحمد البراهمي قد كشفت أن خذر متهم بإخفاء وإعدام وثائق عن تخطيطات إرهابية وبالتجسس على عسكريين وعلى سفارة الولايات المتحدة الأميركية بتونس. وأصدر مؤخرا قاضي التحقيق في دائرة مكافحة الإرهاب مذكرة توقيف ضد مصطفى خذر في قضية تآمر على أمن الدولة.

AFP
السياسي والمحامي التونسي شكري بلعيد في وقفة احتجاجية عام 2010، قبل سنوات من اغتياله

خماسي الدم

تُمثل حادثة 31 أكتوبر/تشرين الأول ضربة موجعة لوزارة الداخلية أو "لكمة" حسب عبارة المتحدث باسم الحرس الوطني حسام الدين الجبابلي في تصريح لإذاعة محلية. 

وينتمي الأشخاص الخمسة المدانون بالإرهاب إلى تنظيم داعش، وكتيبة عقبة بن نافع الموالية لتنظيم القاعدة. وخاض التنظيمان المتطرفان مواجهات مسلحة في مناطق نزاع بالمنطقة، وأطلق رضا الرداوي، عضو هيئة الدفاع عن بلعيد والبراهمي، عليهما اسم "تحالف إرهاب المدن". 

ألمح رئيس الجمهورية قيس سعيد إلى وجود بصمة خارجية بتواطؤ داخلي، في الترتيب والتخطيط الذي قال إنه تواصل أشهرا عديدة، بهدف إرباك الدولة

ولا تكاد أسماء الإرهابيين الخمسة تغيب عن التخطيط أو تنفيذ الأحداث الدموية التي عرفتها البلاد بين 2013 و2019. وكان الخماسي يخضع لحراسة مشددة داخل السجن على مدار 24 ساعة. ومن نقاط الاستفهام التي خلفتها حادثة الهروب أسباب تجميعهم في زنزانتين؛ اثنان منهما في زنزانة، وثلاثة في زنزانة أخرى، بشكل يخالف الإجراءات المعمول بها بالنسبة للسجناء المصنفين خطرين جدا.

أخطر الخماسي على الإطلاق هو: رائد التواتي، الذي صدر في شهر مارس/آذار 2023 في حقه حكم بالإعدام في قضية اغتيال عسكري بجبال الشعانبي (وسط البلاد) و50 عاما سجنا بتهمة محاولة قتل ثلاثة عسكريين آخرين. ويعرف التواتي لدى الأجهزة الأمنية كخبير في زراعة الألغام.

شارك التواتي في مجزرة "هنشير التلة"، التي خلفت 15 قتيلا من ضباط الجيش عام 2014 وتم ذبحهم والتنكيل بجثثهم. وصدر في شأنه حكم بالإعدام في هذه القضية.

والتواتي من مخططي ومنفذي "عملية الطويرف" (محافظة الكاف شمال تونس) والتي تمثلت في اختطاف رقيب بالحرس وقطع رأسه وهو من منفذي عمليات استهدفت دوريات أمنية وخلفت مقتل قرابة 10 أمنيين كما قام بذبح مدنيين اثنين وعسكري.

الرئيس قيس سعيد

وأكد مصدر مسؤول لـ"المجلة" أن إيقاف التواتي، الذي نعته بـ"سفاح العسكريين"، أدى إلى العثور على "خريطة زرع ألغام في مناطق جبلية عدة"، ومن "إحباط مخططات إرهابية، منها تفجير مقرات سيادية بمناطق حدودية". وتمت الإطاحة بالتواتي إثر عملية نوعية استباقية للحرس الوطني يوم 2 مايو/أيار 2019.

أما أحمد المالكي المكنّي بـ"الصومالي" فقد تمت الإطاحة به إثر مواجهات مسلحة. و"الصومالي" متهم في قضيتي اغتيال بلعيد والبراهمي. وأدى إيقافه إلى إجهاض مخطط "تفخيخ" مركز أمن واستهداف سجن المرناقية بعملية انتحارية بسيارة مفخخة، والسيطرة على حي التضامن (أكبر أحياء العاصمة) وحي دوار هيشر (حي شعبي بالعاصمة) وعزلهما بزرع ألغام في محيطيهما.

وأكثر ما يتم تناقله عن "الصومالي" هو جملة قالها للقاضي أثناء محاكمته في شهر أغسطس/آب 2023 "في صورة خروجي من السجن سأقتل وأقتل وأقتل".

الإرهابي الثالث هو عامر البلعزي أو "رجل المهمات السرية". يمثل البلعزي لغزا في حد ذاته؛ فهو عنصر ربط بين أكثر من جهة، كان يُصنف كـ"عميل مخابرات"، وحتى كعنصر اختراق للتمويه على تقاطعات تجمعه بتنظيم داعش الإرهابي وبمجموعات من أخطر المطلوبين أمنيا.

قام البلعزي بطمس جزء كبير من أسرار "الاغتيالين". من ذلك: إتلاف "المسدسين" اللذين تم استعمالهما في عمليتي الاغتيال برميهما في البحر، وفقا للتحقيقات الرسمية. 

وحسب شهادة الرئيس السابق لمحكمة التحقيق (أهم منصب قضائي في تونس)، والتي وردت في تقرير للتفقدية العامة لوزارة العدل، فقد تم تسجيل اختفاء محاضر البحث المتعلقة بعامر البلعزي ومن معه (متهمون في قضيتي الاغتيال).

وتؤكد الشهادة أن المحاضر تتضمن اعترافات الموقوفين (منهم البلعزي)، قبل أن تتم سرقة حاسوبين في حيازة السلطات القضائية، وتراجع البلعزي ومن معه عن اعترافاتهم الأولى، إذ اتهمهوا السلطات بانتزاع اعترافات منه تحت وطأة التعذيب.

أكد مصدر مسؤول لـ"المجلة" أن إيقاف التواتي، الذي نعته بـ"سفاح العسكريين"، أدى إلى العثور على "خريطة زرع ألغام في مناطق جبلية عدة"، وإحباط مخططات إرهابية

نادر الغانمي، هو الإرهابي الرابع في المجموعة وهو "داعشي عائد من سوريا". ويعد الغانمي أحد  المسلحين المتطرفين الذين تم تجنيدهم وتسفيرهم إلى سوريا، وفقا للتحقيقات الرسمية، وأُدين بقتل فرد أمن سنة 2016. وتقول مصادر أمنية  لـ"المجلة" أنه يشكو من نوبات هستيريا متواصلة" كان آخرها في جلسة فبراير/شباط 2023 عندما حاول لدى استجوابه الاعتداء على رئيس المحكمة ومستشاريه وسبق له الاعتداء بسكين على قاض وصدرت في شأنه بسبب هذه الواقعة حكم بالسجن 27 عاما.

الأخير في قائمة الخماسي هو علاء غزواني. المعطيات شحيحة بخصوصه وهو حسب مصدر أمني كان من مقاتلي داعش في ليبيا ثم سوريا، وعاد إلى تونس وتمت الإطاحة به ضمن خلية تضم 20 إرهابيا.

لغز الهروب

ربط رئيس الجمهورية قيس سعيد عملية هروب الإرهابيين بملف التدقيق في الانتدابات والتعيينات في وزارة الداخلية. ودعت الحكومة مؤخرا إلى التسريع بالتدقيق في عمليات التوظيف، التي تمت خلال السنوات العشرة الماضية. 

ويبدو أن الداخلية ستكون مقبلة على حملة "تطهير" وإقالات واسعة، وفقا لمراقبين. وشهدت الوزارة منذ 2011 عمليات مماثلة بعناوين مختلفة كان منطلقها تفكيك ما سمي "البوليس السياسي لبن علي"، وانتهت بحل جهاز أمن الدولة وعزل عشرات القيادات، وهو ما أدى إلى انفلات أمني خطير.

ومع صعود "النهضة" للحكم، عاشت الوزارة مرحلة جهاز "الأمن الموازي"، كما يصفها معارضوها، وبعد فوز حزب نداء تونس بانتخابات 2014 بدأت محاولات لمراجعة التعيينات لم تلبث أن أنهتها صفقة بين الحزبين لتقاسم النفوذ.  

وأصبحت الداخلية منذ ذلك التاريخ حلبة منافسة وتصفية حسابات بين الأمنيين في سباق "إرضاء الأقوى في الحكم"، بحسب مراقبين، فيما وجه حقوقيون اتهامات لبعض القيادات بالتربح والفساد المالي واستهداف المعارضين.

ويسلط القصور الأمني الضوء على ما وصف في الإعلام التونسي بـ "إهمال وعدم كفاءة" بعض أفراد الشرطة. وذكر الحبيب الصيد، رئيس الحكومة الأسبق في كتابه "حديث الذاكرة"، تفاصيل عن خفايا عمليتين إرهابيتين: الأولى عملية "متحف باردو" وتحدث فيها عن غضب دولة اليابان بعد أن تبين أن أعوان الأمن المكلفين بتأمين حافلة السياح كانوا في المقهى عند وقوع الهجوم الإرهابي.

والثانية تتناول عملية استهداف نزل بمحافظة سوسة (ساحل البلاد)، إذ أكد الصيد أن فرد أمن سقط في مسبح الفندق وأن أمنيا آخر فشل في استعمال سلاحه ولم يتمكن من إطلاق النار.

font change

مقالات ذات صلة