الرواية الفلسفية

الرواية الفلسفية

يلاحظ في السنوات الأخيرة سيطرة الطابع الواقعي على الرواية، حتى بتنا نشتاق إلى الخيال، وأعني به الارتفاع عن واقع الأرض ولو قليلا، فالخيال أجمل بممكناته وخياراته الإبداعية والجمالية والأهم الفلسفية، بما تمتلكه الفلسفة من حدس وتخمينات.

فالرواية الخيالية الفلسفية تُحدث مفاجآتها في القارئ، وهي تواجه التفكير الواقعي لديه، لكن هذه الروايات باتت نادرة، فلا اختراق للمخيلة بفاعلية متوهجة، ولا مكان لطرح الأسئلة العميقة كالسابق. فالأسئلة في الرواية آلية معرفية أحدثها ابن طفيل قبل نحو تسعة قرون في كتابه "حيّ بن يقظان"، بلغته المجازية حول الوصول إلى الكمال من خلال شخصية الإنسان الحيّ الفطري في جزيرة بعيدة لم تصل إليها علوم الإنسان وآدابه، وهي الرواية الأولى في العالم الصوفي الإسلامي العربي، برؤاها الفلسفية التي أصبحت مصدرا للخيال للعديد من الروائيين والمفكرين، فكانت بداية مدهشة بحدسها الجوال والمنعزل والصاخب. فمن يقرأ هذه الرواية يجد نفسه مستسلما لنداء السؤال الرحب: من أنا؟ من نحن؟ وبقية الأسئلة المتيمة بحب الإنصات، ثم التفكير في زوايا مَرَّ الزمن عليها سريعا.

منذ "حي بن يقظان" ونحن نصادق الأسئلة الفلسفية


ولأن الخيال في حد ذاته غِنى وابداع، فقلة من الروائيين في العصر الحديث حاور القارئ الواقعي بشكل غير مباشر، كما فعل الفرنسي الجزائري ألبير كامو في روايته "الغريب" قبل 80 عاما، فعل ذلك منذ الجملة الأولى وبخيال يجلب الصدمة:

اليوم ماتت والدتي، ربما الأمس، لا أعلم...

جعل القارئ يستشعر اغترابه غير المرئي في مجتمعه، بطرحه الأسئلة الوجودية وإمكانية البقاء، أو الهروب، أو حتى القفز في مسار غير مقبول مجتمعيا، حيث اندفع كامو بجنون وعبث حتى صفحاته الأخيرة، ولعله استمد خياله من صديقه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر وروايته "الغثيان"، والتي تُعد من عتبات الرواية الفلسفية الحديثة، وهي فلسفة سردية على شكل مذكرات، وبيانات عن الذات والوحدة والحرية والوجود، فمن بداية الرواية يشعر القارئ بالغثيان من خلال البطل، تجاه العالم والوجود، بحدس فلسفي نراه غائبا اليوم.

ولو عدنا قليلا إلى الوراء، لوجدنا آثار الحدس الفلسفي الفكري هذا مع التشيكي كافكا، من خلال روايته الفلسفية "المسخ"، على الرغم من أنه كتبها بخيال شعري، جرد نفسه فيه في عزلته الواقعية، دون أن يتمكن من الموت، فالعالم لا ينتهي، ولا وجود للنهاية، وفي المقابل لا وجود لحياة حقيقية، فكانت استحالة إنهاء الرواية باستحالة الموت، ليجعل القارئ وبحدسه ومن حيث واقعه الشديد، يقابل فكرة النسيان المهيمن على الذاكرة، فلا ذاكرة بلا نسيان.

 الأمثلة كثيرة عن الروايات الفلسفية وحدسها المستنير خيالا لفهم مرارة الواقع


ويبقى السؤال المستمر: من أين أتى هذا العالم؟ فمنذ "حي بن يقظان" في القرن الثاني عشر الميلادي، ونحن نصادق الأسئلة الفلسفية، لنكتشف كيف جعلنا التفكير الفلسفي، أيا تكن اتجاهاته، نفهم الكون بشكل أفضل، وإن اختلف الانسان حول طريقة هذا الفهم، فكل ومستوى اطلاعه وحدسه.

والأمثلة كثيرة عن الروايات الفلسفية وحدسها المستنير خيالا لفهم مرارة الواقع، مثل رواية "رسالة من تحت الأرض"، وهي سيرة ذاتية لدوستويفسكي، وهي من الروايات الأمثل عن الوجودية، فالروائي هنا فيلسوف بخيال مبدع، يرى نفسه أدنى من الحشرة، يجعل القارئ يتساءل عن غرض الانسان على الأرض، وأخلاقه وقدرته المعرفية، ويطرح التساؤلات حول عصرنا وحضارتنا وحروبنا المأساوية، وفي النهاية يقول للخياليين قبل أن ينهاروا: "أيها السادة أقسم لكم أن الإفراط في الفهم مرض".

كما لا يجدر بنا إغفال الرواية التقليدية المعروفة بواقعيتها "مدام بوفاري"، للفرنسي فلوبير الذي رفع الستار أمام القارئ، ودخل الصندوق السحري للمسرح البرجوازي، ورفض التأمل وكأنه خطيئة ضد النقاء الموضوعي وواقعية العمل، لكن منذ هذه الرواية التي طرحت أسئلة القارئ حول الواقع بقوة، أصبح ما يقال عن الرواية يندرج ضمن السؤال اللا نهائي: من هو الآخر؟ دون أن يكون هناك طابع خيالي، كما كانت روايات مارسيل بروست وتوماس مان وروبرت موزيل، فهؤلاء تتشابك أعمالهم بين التأمل والسرد، لنطلق على أعمالهم روايات فلسفية، أو روايات بحدس فلسفي، وكم هي نادرة ونفيسة اليوم أمام موجة الروايات الواقعية.   

font change