مظاهرات الجامعات الأميركية... وفوكو في إيران

مظاهرات الجامعات الأميركية... وفوكو في إيران

قبل إبداء الإعجاب بمظاهرات طلاب الجامعات الأميركية ودعاواهم إلى وقف إطلاق النار في غزة وامتناع جامعاتهم عن التعامل مع اسرائيل، لا بد من إشارة سريعة إلى ما تتركه المقاربات السريعة والمتسرعة من انطباعات عن أحداث وأشخاص ومراحل.

المقارنة الرائجة هذه الأيام بين التحركات الطلابية في جامعات الولايات المتحدة والتي شملت بعض أهم المراكز الأكاديمية، ومظاهرات الاحتجاج ضد حرب فيتنام في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، مغرية من دون شك. بيد أنها تفتقر إلى الدقة وإلى السياق. وتعجز، تاليا، عن توقع ذي مغزى لنتيجة الحراك الطلابي الحالي. ليس فقط لأن متظاهري الستينات جاءوا من صميم المجتمع الأميركي حاملين معهم انتماءاتهم العرقية والاجتماعية، فيما يغلب المهاجرون الجدد على المتظاهرين في الجامعات اليوم، وليس لأن قلة فقط من شباب الستينات أيدوا "الفيتكونغ" فيما صبت الأكثرية ضغطها على ضرورة وقف قتل المدنيين والانسحاب من فيتنام، مقابل مواقف تقترب من التأييد الصريح لـ"حماس" وسط غموض رؤية ما يتعلق بمستقبل فلسطين والفلسطينيين، باستثناء شعارات "الحرية" و"الاستقلال" و"وقف الإبادة".

الفارق الكبير يكمن في ما كانت تمثله حرب فيتنام بالنسبة إلى الداخل الأميركي، من موت لعشرات الآلاف من الشبان في صراع تفصل الولايات المتحدة عنه قارات ومحيطات وما يتركه ذلك من آثار على كامل البنية السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية في أميركا وبين صراع تخوضه قوتان أجنبيتان قد لا تعنيان الكثير بالنسبة إلى المواطن الأميركي في سنة الانتخابات وفي ظل الاستقطاب الشديد بين القوتين السياسيتين الكبيرتين، الحزب الديمقراطي ومنافسه الجمهوري.

"ثورة مايو/أيار 1968" التي شهدتها جامعات فرنسا أسفرت عن استقالة شارل ديغول لكنها لم تغير النظام السياسي الفرنسي

الاعتصامات في ساحات الجامعات وحدائقها التي أطلقتها شهادة رئيسة جامعة كولومبيا أمام لجنة في الكونغرس، وإدانة الرئيسة لبعض ما تبناه طلاب وأساتذة من الجامعة، واعتبره أعضاء اللجنة تحريضا على قتل اليهود وإعلانا لمواقف معادية للسامية قابلا للاستغلال بسهولة من اليمين المتطرف الأميركي ومن غلاة المساندين لإسرائيل. بسبب اندراج المظاهرات في ما يسميه الأميركيون ثقافة "الإلغاء" و"الووك" (Woke) التي ينسبونها إلى اليسار المتهم بالعمل على تدمير القيم والمجتمع الأميركيين بالتحالف مع المهاجرين والأقليات العرقية والدينية ومن هؤلاء العرب والمسلمون والسود وسواهم. صحة أو زيف هذه الادعاءات ليست ما يهمنا هنا. الاستغلال والتوظيف السياسي هما الساحة التي تجري عليها المنافسة. 
وإذا أردنا إلقاء نظرة ثانية على حالات مشابهة من الحراكات الطلابية، يمكننا العودة إلى نماذج تنتمي أيضا إلى القرن الماضي، على غرار "ثورة مايو/أيار 1968" التي شهدتها جامعات فرنسا والتي أسفرت عن استقالة شارل ديغول لكنها لم تغير النظام السياسي الفرنسي. إضافة إلى مظاهرات الطلاب في لبنان في النصف الأول من السبعينات التي صبت نهاية المطاف في التمهيد للحرب الأهلية المدمرة. 
في السياق عينه، أكثر ما تذكر الإشادات بمظاهرات طلاب الجامعات الأميركية به، هو مديح الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو للثورة الإيرانية وتصويرها كخروج عن نمطية التفسير الغربي للحراكات الاجتماعية الكبرى والمحصور بين العوامل الاقتصادية والقومية الكلاسيكية. فقد رأى صاحب "تاريخ الجنون" أن القيام ضد نظام الشاه ينطوي على "روحانية سياسية" تسمح للملايين من الإيرانيين بتحدي القمع والظلم. أتبع فوكو آراءه هذه بالكثير من التوضيحات والتفسيرات، وعاش ليرى كيف تطارد "الروحانية السياسية" أبناءها وأنصارها وتعدمهم وتزج بهم في السجون أو تطردهم إلى المنافي.
 

الحديث عن "شجاعة" الطلاب المعتصمين والمتظاهرين في جامعتي كولومبيا وييل، يفتقر إلى تصور لما ستحمله من أثر على الحرب في غزة

ذلك أن الاعتقاد بالدافع الروحي القادر على التحول إلى تأثير سياسي ملموس- مثلما ظن فوكو الذي زار إيران مرتين- في رجال الدين الإيرانيين، وتعبيرهم عن النوازع العميقة لدى الأكثرية الإيرانية الرافضة لما كان يمثله الشاه، تتشابه مع التفكير الرغبوي بتغيير بضعة آلاف من طلاب الجامعات الأميركية لموقف إدارة جو بايدن من إسرائيل بعد أيام قليلة من تدخل القوات الأميركية المباشر بإسقاط المسيرات والصواريخ التي أطلقتها إيران على إسرائيل.  
بكلمات ثانية، الحديث عن "شجاعة" الطلاب المعتصمين والمتظاهرين في جامعتي كولومبيا وييل، وغيرهما من الجامعات، وتحديهم "للمؤسسة" الأكاديمية والسياسية وأذرعها الضخمة، يفتقر إلى تصور لما ستحمله الحركة هذه من أثر على الحرب في غزة وعلى مجمل الصراع في فلسطين، من جهة. وعن الكيفية التي سيجري توظيفها في المنافسة الحزبية الأميركية وفي الاستقطاب الحاد بين اتجاهات لا تفتأ تتجذر وتتطرف يمينا ويسارا في المشهد السياسي الأميركي. 
كان فوكو من أهم مفكري وفلاسفة القرن العشرين في أوروبا. ولم يكن ساذجا بحال من الأحول. لكن موقفه من ثورة الإيرانيين، بدا كما قال كثير من قرائه ومتابعيه، كانعكاس لرغبته في رؤية ما يحطم الأفكار السائدة في زمنه على النحو الذي فعله هو في كتاباته. وعلى صورة مشابهة تعلق آمالا كبيرة على ما ينبغي التأمل فيه بعناية قبل إطلاق صفارات التشجيع.

font change