أسطورة نجدية

أسطورة نجدية

في تراث العرب القديم، قبل الإسلام، أساطير كثيرة تحتاج إلى جمعها في موسوعة، أهملها الرواة العرب بعد الإسلام، خاصة في عصر التدوين، إذ رأوا في الأسطورة ما لا يتفق مع العقيدة، منطلقين من فهمهم العام للأسطورة، ومعتبرين أن كل ما يرد فيها يناقض الواقع، أو بتعبير آخر ما لا وجود له في الواقع، لتصبح الأسطورة منذ ذلك الوقت وحتى عهود قريبة مجرد أباطيل وخرافات لا معنى لها.

ولكل زمن تصوراته التي تنبثق منها الآراء والقوانين، ففي العصر الحالي، وبإنسانه الواقعي صاحب المنطق العلمي، جمع المهتمون والمتخصصون الأساطير العربية الأولى كي تُقرأ أدباً، وتتحول كذلك إلى مادة لدراسة الأشياء حولنا، دون افتراض أنها تمسّ بالإيمان والعقيدة، فأصبحنا نفسر الأشجار والنار والحيوانات، وكل العناصر التي كانت وما زالت موجودة بالفعل، ونرى كيف تخيّلها أولئك السابقون بطريقتهم، في سياق مفاهيم مختلفة، بددت الألغاز القديمة، وأتت بتفاسير علمية، وإن كانت تلك المرويات حكايات خيالية مبنية على شيء حقيقي.

الأسطورة تمتاز بمدخل أدبي رائع، وأدوات فنية كاملة، وقصة تحمل الحب والحقد وصراع الخير والشر، لكنها في الوقت نفسه قراءة للمناخ والجغرافيا


وأغلب هذه القصص الأسطورية تروي آثاراً إذا جاز القول، نجدها كلها تنتمي إِلى طائفة كبيرة ومتفرعة، تشترك وتتشابك ثقافياً في تلك الأساطير التي خرجت من قلب الجزيرة العربية في أزمنة سحيقة، بعضها تسرّب إلينا عبر كتاب "أيام العرب" الذي سطر معاركهم وأساطيرهم وقصصهم وحيواناتهم، بجانب الحكايات الشعبية الخرافية التي تدخل حتى في أنساب العرب. وحتى بعيداً عن حكايات "ألف ليلة وليلة"، التي تكثر فيها أساطير جزيرة العرب، إلا أن أسطورة "طمية" من الغرائب التي لا ترد كثيراً، و"طمية" هذه أنثى يطلق اسمها على جبل في الطائف بنجد، قَلَعَتْ نفسها يوماً وطارت في الهواء تريد أن تلتقي عشيقها وهو جبل يدعى "قطن"، وأثناء الطيران مساءً، لمع البرق في السماء، فرآها جبل أسود قبيح متقدّم في السن، يدعى "عكاش"، أعجب بها وهي تطير وتتساقط منها الأحجار، فقرر إسقاطها، فسقطت وانكسرت ساقها، ولم تستطع إكمال سفرها إلى عشيقها قطن، ليتزوجها الجبل عكاش رغماً عنها، وتنجب منه جبلاً يدعى "ديم"، يجلس بجانبهما، ويمر الزمن بلا حد، حتى يأتي العاشق جبل "قطن" صاعداً من الهضاب الحمراء نحوها، لتفرح طمية بعد انتظار، وتنفصل عن زوجها، وتتزوج قطن.

نهاية سعيدة كما هي أغلب أساطير الحب، إلا أن أهل التخصص من الآثاريين والجيولوجيين والجغرافيين، اليوم وبعد تتبعهم مكان هذه الأسطورة، حددوا موقع طمية وأكدوا أنه حيث قلعت نفسها، هو المكان الذي يسمى بـ "فوهبة الوعبة"، كما رصدوا مسيرة طمية أثناء الطيران، فوجدوا الأحجار التي تساقطت منها في الطريق طوال الرحلة، واستنتجوا أنها من نوع أحجار جبل طمية نفسها.

الأسطورة تمتاز بمدخل أدبي رائع، وأدوات فنية كاملة، وقصة تحمل الحب والحقد وصراع الخير والشر، لكنها في الوقت نفسه قراءة للمناخ والجغرافيا والجيولوجيا، فاليوم هذا المكان الذي قلعت طمية نفسها منه، يسمى "حَرّة" بلهجة العرب، ويعني البركان، ويبدو بالفعل هو مكان لجبل مقلوع، وهذا ما يثير التساؤل عن الواقع الذي يؤكده الخيال، كما أن الجبلين طمية وعكاش يقفان متقابلين كأنهما يتعاركان، وقد ذكر ياقوت الحموي ذلك في كتابه معجم البلدان. كما أن الجبل الطفل "ديم" ما زال قائماً حتى اليوم بجانب والديه، لتبقى النهاية السعيدة للجبلين العاشقين، كموقع واقعي وحدث أسطوري ينتصر فيه الخير على الشر، ومن حيث الخيال هو قناع يعكس سلوك الإنسان وأفعاله الانتقامية، وتبقى الأسطورة برسالتها النبيلة وبانحدارها من الواقع إلى الخيال، أو لعله العكس، أيّ من الخيال إلى الواقع.  

font change