بلا مكر
في الكتابة كان طموح جين أكبر مما تستطيع إنجازه، ربما كان ينقصها شيء من المكر والانضباط والتحفظ كما يقول محمد شكري. طيبتها البالغة ساهمت في إخفاقها. أمّا بولز فهو سيد الماكرين، الأمهر، محصنا في قوقعته، ينسج مصائر دموية لشخصياته. عاشتْ جين مهددة دائما بالانسحاب من الكتابة كلما تفاقم عجزها في إنهاء ما تكتبه. كتبتْ جين رواية واحدة هي "سيدتان جادتان" (1943). سمعها بولز تقرأ أجزاء من روايتها بصوت عال في نيويورك. يذكر بولز بأسى في سيرته الذاتية: "لا أظن أنني أخبرتها حينها عن مدى تقديري للرواية، لكن ربما أكون قد فعلت، آمل ذلك، أذكر أنني انتقدتها بسبب أخطائها النحوية والبلاغية، وفي فورة غضبي صرختُ فيها: لا تسمحي لأي شخص بقراءة هذه المسودة. ردتْ جين غير واثقة في كلماتها: لا يُنشر العمل أبدا لمجرد أنه يخلو من الأخطاء أيها التعس".
في رواية "سيدتان جادتان"، أخذ السيد كوبرفيلد بيد السيدة كوبرفيلد، وقادها إلى رصيف المرفأ. كانت عبَّارة صغيرة آتية في اتجاههما. بدا أنه لم يكن هناك أحد في العبَّارة على الإطلاق. فجأة قالت السيدة كوبرفيلد لزوجها: "أنا فقط لا أريد أن أذهب إلى الأدغال". موضوع الكتابة عند بول بولز يُختصر بأنه كان يذهب بزوجته جين، أو بأبطاله، دائما إلى الأدغال، والمقصود بالأدغال كل ما هو وحشي بدائي على صعيد الواقع والروح. بول أو بورت في "السماء الواقية"، لا يقول لجين، أو لكيت، أو للسيدة كوبرفيلد في "سيدتان جادتان"، ماذا تفعل في الأدغال، فهو نفسه لن يكون معها، سيكون مستغرقا في عدميته تحت عينيها، وهي ستتحمل مسؤولية ردّه من الأدغال.
الروائي المغربي محمد شكري
ربما لو امتلكتْ جين الصبر مثل زوجها، في الجلوس الطويل بجوار كتاباته، لأنتجت أعمالا تضاهي "العقرب"، و"صفحات من النقطة الباردة"، و"طريدة هشة"، إلا أن جين بأريستوقراطيتها، عافت أن تنافس بولز، فهي ستكون مجبرة في كل مرة تكتب فيها، على أن تسأله عن رأيه، وكان البديل انهماك جنوني في تدقيق لا نهائي لنصوصها، غير مدركة أن جنونها نفسه أصبح مادة إبداعية لزوجها ذي القلب الحجري.
الرحالة
يقول إبراهيم الخطيب، المترجم والناقد المغربي، في مقدمة قصص "البستان"، لبول بولز: "عندما حل بولز بطنجة للمرة الأولى في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، فإن الأمر لم يكن يعني له في ذلك الوقت أكثر من زيارة اصطياف عابرة لمدينة تخومية بالمعنيين، الجغرافي والحضاري". يرى بورت بطل بول بولز في رواية "السماء الواقية" (1949)، الذي حل في المغرب، أن السائح يتعجّل العودة إلى بلاده بعد أسابيع قليلة، على عكس الرحالة الذي لا ينتمي إلى أي مكان أكثر من انتمائه الى المكان المستقبلي المقبل، وهو يتنقل ببطء على فترات زمنية تمتد لسنوات، أمّا اختياره للمغرب، فهو اختيار لمكان لا يعرفه.
في رسالة لصديقه، الشاعر والروائي تشارلز هنري فورد، يكتب بولز: "لم أشعر أبدا بالانحياز إلى مكان بعينه، المهم هو العثور على مكان يوفّر لي أوضاعا غير مريحة طالما أستطيع تحملها قبل الفرار منها في اللحظة الأخيرة، وهي اللحظة التي يمكنني فيها وصف رغبة كأنها رغبة طبيعية". يتهم محمد شكري تفسيرات بولز للمكان بأنها استعمارية، استشراقية، فهو يحب المغرب، ولا يعنيه المغاربة، ويكره الغرب، لكنه يكتب للقارئ الغربي. الحقيقة أن بولز يعنيه الجانب المظلم في الشخصيات التي يكتب عنها، سواء أكانت مغربية، أو أجنبية، فهو كاتب متشائم، دموي، يتصيّد نفايات الإنسانية.
بول بولز يحب أن يشعر بالخوف، لكنه لا يعرف لماذا. يعتقد أن الخوف هو الذي يدير العالَم، الخوف هو الانفعال الأقوى كما عند سلفه العظيم إدغار آلن بو. يبدو أن بولز يكتب بخوفه، خوفه متعة شخصية مثل سيجارة الكيف، والشاي المنعنع، والكتابة في السرير. لا يظهر الخوف على شخصيات بولز التي تسير ببطء بارد نحو مصيرها التراجيدي. ظهر بولز بشخصه في فيلم "السماء الواقية" (1990)، للمخرج برناردو برتولوتشي، وهو ظهور يفضح حمل الرواية الثقيل على كاهل المخرج، إذ يسبق الأدب الجيد دائما، قبل وبعد معالجته في السينما، مخرج الفيلم بخطوات واسعة، ولهذا يبدو ظهور بولز الاحتفالي في أول الفيلم، وحديثه في نهاية الفيلم، محاولَة لتحصيل تلك الخطوات.
مدينة طنجة القديمة، المغرب.
يحكي سلمان رشدي في سيرته الذاتية، "جوزيف أنطون"، وهو الاسم الذي تَنقّل به هربا من فتوى القتل الخمينية، عن حضوره العرض الخاص لفيلم "السماء الواقية"، وعدم استمتاعه بالفيلم، وعندما سأله برناردو برتولوتشي عن رأيه، وضع سلمان يده على قلبه وقال: "برناردو لا أستطيع التحدث عنه". يقصد قلبه والفيلم في الوقت نفسه، ولأن الهروب مراوغ، وإبداعي، فلم يكن من برتولوتشي سوى الاستسلام، فقال: "رد كثير من الأشخاص بهذه الطريقة". برتولوتشي متخصص في نقصان وزن أفلامه بعد 20 عاما، أو ما يزيد، حدث هذا مع فيلم "التانغو الأخير في باريس" 1972، وأيضا مع فيلم "السماء الواقية" 1990، وفيلم "الحالمون" 2003، والكلمة التي تعمل مع الزمن، وتذيب دهون أفلام برتولوتشي، وتجعلها كالأشباح الهزيلة، هي كلمة المراهقة.
جيل الغضب
حُشِرَ بول بولز عنوة في زمرة جيل "البيت" الذين زاروا المغرب في إقامات قصيرة، وليام بوروز، آلن غينسبرغ، جاك كرواك، إلا أن بولز بكتاباته المحكمة، كان بعيدا عن جيل الغضب الأميركي. سأل الروائي والصحافي جاي ماكينيرني في 1985، بول بولز، في المجلة الأميركية "فانيتي فير"، لمناسبة صدور طبعة جديدة من سيرة بول بولز الذاتية، "دون توقف"، عن حقيقة أن وليام بوروز كتب روايته "الغداء العاري" (1959)، وهو في غيبوبة تامة، ولا يتذكر شيئا عن كتابتها. أجاب بولز باستنكار بارد: "لا بد أنه يتذكر. كانت الأوراق الصفراء على أرض غرفته بالمئات، عليها آثار أقدام، وفضلات طعام". سأل بولز صديقه المهمل: هل لديك نسخة منها؟ أجاب بوروز: لا. فقال بولز: لماذا لا تلتقطها. أجاب بوروز: سوف يتم التقاطها يوما ما.