أما في خصوص اختفاء أو تآكل السواحل، فهذا نتيجة ضعف قوة المد والجزر لأقمار المريخ، على عكس الأرض، فلدى كوكب الأرض قمر يساهم بصورة كبيرة في حركة المد والجزر، مما يعزز قوة الأمواج، التي تقود وتوزع الرواسب التي تحملها المياه إلى الشواطئ وتكوّن السواحل.
عند مقارنة الأمر بالمريخ الذي تغيب قوى جذب قمريه، فوبوس وديموس، فهذا يعني أنّ قوى المد والجزر أضعف بكثير عن الأرض، مما يقلل الطاقة التي تتحرك بها الأمواج إلى الشاطئ، ويحد من التعبير عن التضاريس الساحلية. لذلك، تندر السمات الساحلية في المريخ.
مع ذلك، هذا لا يعني أنّ المحيطات لم تكن موجودة في الشمال، لكن ربما تشير إلى انخفاض إمدادات الرواسب مما يعني وجود بعض القيود حول تطور المحيط. وهناك احتمال آخر بأنّ تضاريس السواحل قد تأثرت بتدمير موجات تسونامي المتكررة للسواحل.
كشف الستار
ثارسيس، هي هضبة بركانية تشغل نحو 25% من مساحة المريخ في النصف الغربي من الكوكب، اشتُهرت بكونها أكبر منطقة للبراكين في النظام الشمسي، وبنشاطها البركاني الذي أطلق كميات هائلة من الغازات في الغلاف الجوي للمريخ. وكان هناك افتراض سائد بأنّ براكين ثارسيس تشكلت في وقت مبكر من ظهور المحيطات على المريخ.
مركبة فضائية على سطح الكوكب الأحمر.
إلى أن ظهرت دراسة في مارس/آذار 2018 في دورية "نيتشر" تقول إنّ المحيطات تشكلت على المريخ قبل ثارسيس أو تزامنت مع الفترة التي تشكلت فيها ثارسيس. ومن المرجح أن تكون براكين ثارسيس قذفت الغازات للغلاف الجوي، مما تسبب في الاحتباس الحراري للمريخ خلال تلك الفترة، وهذا سمح بوجود الماء السائل على الكوكب، بل إنّ الانفجارات البركانية ساهمت في تكوين قنوات ساعدت المياه الجوفية للوصول إلى السطح وملء السهول الشمالية، مما ساعد في استقرار المسطحات المائية على المريخ خلال تلك الحقبة.
خلال الحقبة الجيولوجية التالية لنوشيان في كوكب المريخ، وهي "عصر هيسبيريان" (امتد من 3.7 إلى 3 مليار سنة مضت)، حدث العديد من التغيرات لجيولوجيا المريخ، وخضعت الأراضي الشمالية (التي افترض العلماء وجود محيطات فيها) إلى تغيرات كثيرة. فخلال عصري نواشيان المتأخر وهيسبيريان المبكر، بدأت التحوّلات في مناخ المريخ من الظروف الأكثر دفئا ورطوبة إلى الظروف الباردة الجافة، ورجحت دراسة أنّ مصادر المياه التي كانت موجودة خلال تلك الفترة مستمدة من المياه الجوفية.
من جانب آخر، خلصت دراسة منشورة في دورية "إيرث آند بلانتيري ساينس ليترز" (Earth and Planetary Science Letters) في أكتوبر/تشرين الأول للعام 2018، إلى وجود تجمعات للرواسب في منطقة هيبانيس فاليس في شمال المريخ، عند الحدود التي تفصل الأراضي المنخفضة الشمالية (باعتبار أنها كانت أحواضا ممتلئة بالمياه) والأراضي المرتفعة الجنوبية. ورصدوا انخفاض مستوى المياه بمقدار يزيد على 500 متر خلال فترات تغير المناخ على المريخ من 3.5 إلى 3.7 مليار سنة مضت. علما بأنّ وجود تلك الرواسب يتكون نتيجة اصطدام الأمواج بالساحل حاملة معها الحطام والمواد التي تنقلها المياه لمسافات طويلة، وتتوزع على طول الساحل وتتكون الشواطئ بمرور الوقت. ويستدل عليها العلماء عبر التباين في أشكال التضاريس، في ما يُعرف بـ"خطوط الشواطئ القديمة".
وأخيرا، وصلت المركبة الصينية "زيرونغ" (Zhurong) إلى منطقة يوتوبيا بلانيشيا في شمال كوكب المريخ في مايو/أيار 2021، لتبدأ مهمتها في استكشاف الكوكب الأحمر. واستخدمت مجموعة بحثية من الصين قياسات الاستشعار عن بعد التي حصلت عليها مركبة "زيرونغ" في تحليل الصخور الرسوبية في جنوب منطقة يوتوبيا بلانيشيا، وخلصوا إلى سيناريو مفاده وجود فيضان في تلك المنطقة قبل ما يقرب من 3.5 مليار سنة مضت، قبل أن تتراجع المياه خلال العصر الأمازوني للمريخ (الذي امتد من 3 مليار سنة مضت إلى الوقت الحالي). ونشر الباحثون دراستهم في دورية "ساينتفيك ريبورتس" (Scientific Reports) في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
من جانبه، يقول الدكتور جويل ديفيس لـ"المجلة": "نحن نعلم من دراسة المريخ، سواء من المركبات الفضائية في المدار أو المركبات الجوالة على السطح، أن الكوكب الأحمر لم يكن دائما أحمر اللون - هناك أدلة قوية جدا على أن الأنهار والبحيرات كانت موجودة منذ نحو 3 إلى 4 مليارات سنة، في أماكن مثل فوهة جيزيرو، حيث تستكشف مركبات "ناسا" الجوالة. الأنهار والبحيرات هي أنواع الأماكن التي يمكن أن تتطور فيها الحياة المبكرة".
انحرافات أم ماذا؟
ظهرت الحياة على الأرض بسرعة نسبية بعد ظهور المحيطات، لكن بسبب التغيرات المستمرة في القشرة الأرضية والتآكل المستمر، لا نستطيع العثور على أدلة حول المحيطات البدائية على الأرض. لذلك، يجد العلماء في المريخ أملا لإيجاد تلك الأدلة الحيوية، خاصة أنّ الخمول الجيولوجي النسبي لكوكب المريخ ساهم في حفاظه على سماته الظاهرية لمليارات السنين، على عكس الأرض التي نشأت وتطورت عليها الحياة وتختفي معالم سماتها الظاهرية باستمرار. لذلك، يلجأ علماء الجيولوجيا إلى تتبع المياه على المريخ، لاستكشاف البيئات المحيطية السابقة عليه، ومعرفة الظروف والخصائص الكيميائية المختلفة لتلك المحيطات، من درجات الحرارة، الملوحة، الحموضة وغيرها.
رمال الشاطئ في الضوء الأحمر تبدو كأنها سطح المريخ
إنّ فهم تلك الظروف على المريخ الذي لم تصمد محيطاته حتى اليوم مثلما صمدت محيطات الأرض، يساعدنا في إدراك الاختلافات التي سمحت بتطور الحياة على الأرض، والأسباب التي كانت وراء الانحرافات الكبيرة للمريخ عن تطوير الحياة على سطحه مثلما حدث على الأرض. أضف إلى ذلك، أنّ تحديد مكان وزمان مثل تلك المحيطات، يحمل في طياته آثارا للتطور المناخي للمريخ والحياة المحتملة خارج كوكب الأرض.
ويعلق الدكتور بيتر فودون على أهمية بحث العلماء عن البيئات المائية خارج الأرض، قائلًا لـ"المجلة": "إنّ هذا من شأنه أن يثبت بشكل قاطع أن كميات هائلة من الماء، في درجات حرارة مناسبة لكيمياء الحياة قبل الحيوية (prebiotic life)، كانت موجودة على المريخ (أو أماكن أخرى في النظام الشمسي) لفترات طويلة من الزمن". لكن، قد نتعرف أيضًا الى انفراد الأرض وتميزها، إذ يتابع فودون قائلًا: "ومع ذلك، فإن عدم العثور على هذا الدليل حيث نتوقعه من شأنه أن يتأرجح بعيدا عن قابلية الحياة على المريخ القديم، مما يزيد احتمال أن يكون التطور الأول للحياة على الأرض فريدا من نوعه في النظام الشمسي".
بينما يرى الدكتور جويل ديفيس أنه من غير الواضح ما إذا كان هناك مسطح مائي كبير بحجم المحيط في هذه الفترة الزمنية أم لا. ويقول لـ"المجلة: ""لا أعتقد أن لدينا الأدلة لنقول بطريقة أو بأخرى. إن الإجابة عن هذا السؤال أمر مثير للاهتمام حقا بالنسبة لنا كعلماء، لأن الحياة الأولى على الأرض ربما تكون قد بدأت في المحيطات".