قد يبدو هذا العنوان غريبا، لكنه العنوان الذي خطر ببالي دون أن أعرف ماذا أكتب أو كيف أعبر عن الأحاسيس والمشاعر التي شعرت بها وأنا في صحبة شاعرنا الأبدي، الذي أنشَدَ لنا أروع القصائد، وجعلنا نتأمل في أسمى الأقوال (أقواله)، ولعب على الوتر الحساس أمام الناس، وفي حضور أهم الرجال والساسة واللغويين حوله.. وجميعهم يصبحون في قبضة شعلته الداخلية، وهو يُحرضهم على السماح لأنفسهم بالانجراف وراء رغبة عميقة في الهيبة والعظمة، كي يدفعهم التطلع إلى الحياة الأبدية، هو المتنبي الذي لم يكن شاعرا أو أخلاقيا فحسب، بل كان عبقريا يتمتع بعقل متزن، يجمع بين كأس الشعر المتدفق، وحكمة الفيلسوف الفطرية، مع الشعور بقوة تُمَارَس على معنوياته، لتوجيهه نحو العظمة، أو على الأقل نحو الوعي بهذه العظمة التي تجلت في قصائده الخالدة، وفي سلوكياته اليومية التي لن تدوم إلا لفترة قصيرة..
فمن المؤكد للبعض بعد قراءة سيرته، أن حياته عبارة عن مجموعة من المحاولات الفاشلة، والادعاءات التي لا أساس لها، والاتجاهات غير المحددة، ولكن حياة الرجل العظيم لا تقاس بالمعايير المستخدمة لتقييم حياة البشر العاديين، ولا بعادات البيئة والعصر الذي عاش فيه، بل تفرض نفسها بالقوة، إلى الحد الذي لا يسمح فيه أي مقياس لإيجاد حالة من التوازن، بحيث لا يبدو أن أي حاجز يقف في الطريق، فليس هذا سببا للاستسلام أو الإحباط واليأس، فالحياة تسير كما تشاء، وترتفع إلى مرتبة الشرف على كافة المستويات، حتى يأتي اليوم الذي تبرر الحياة بنفسها أهدافها، وبكل الوسائل.
لم يكن المتنبي من أولئك الرجال العظماء الذين يتبنون مبدأ عظيما دون أن يحيدوا عنه أبدا، ولا من أولئك الذين يغلقون على أنفسهم أبراجهم العاجية ليتغنوا بترنيمة مجد غير واقعي
المتنبي هو الشاعر العربي الوحيد الذي عاش الحياة وهو ينظر لها من الأعلى، فتخيلها عادية، حتى بدأ يسلك الطرق السهلة والصعبة معا، ولم ير شيئا عظيما إلا واعتبر نفسه أهلا له، ولم يهتم بالجانب الإيجابي أو السلبي في الحياة، لكه وبعد أن تأمل نفسه، أدرك أنه لم يكن يتمتع بالتكريمات والألقاب التي يستحقها. كان مملوءا بالحساسية ويغلي بالانزعاج، وكان منخرطا في قصيدة قد لا يلتزم بها السذج من المثقفين، ولكن ينحني لها أولئك الذين لا يسمحون لأنفسهم بالاستسلام لأهواء القدر والذين هم أكثر تطلبا للحياة، لأنها تقدم لهم شيئا جديدا، مع أن البعض اعتبر فضاء المتنبي ليس فيه سوى القهر.
لم يكن المتنبي من أولئك الرجال العظماء الذين يتبنون مبدأ عظيما دون أن يحيدوا عنه أبدا، ولا من أولئك الذين يغلقون على أنفسهم أبراجهم العاجية ليتغنوا بترنيمة مجد غير واقعي، لكنه كان ينتمي إلى فئة أولئك الطغاة الذين تقاس عظمتهم بمقدار جشعهم وكذلك تعلقهم بالحياة، لا للهروب من طوارئها، ولكن للتأقلم بشكل أفضل مع خيالاتها وارتداء أهوائها.
هذا هو المتنبي الذي نقرأ ديوانه الشعري، مندهشين من طموحه غير العادي وجشعه الكبير، فلا تُذكرنا كتب السيرة بسلوكه الذي لم يكن يعرف فيه التمييز بين الخير والشر، بل تقدم هذه السير لنا شخصية قوية واثقة من نفسها، تبرر كل أفعالها وتعبر عن مشاعرها الأكثر حميمية في قصائد تجمع بين صفات التفوق والتطلع إلى الأبدية.
واليوم وبعد مرور ألف عامٍ وعقدٍ، على قتله، وعبر العصور، يحتل الشاعر الذي تجسده هذه الشخصية مكانة مرموقة بين شعراء العربية، وعلى الرغم من بعض العيوب البسيطة من حيث الشكل واختيار بعض التعبيرات التي تعرض بسببها للنقد في بعض المناسبات، فقد اكتسب هذا الإنتاج الشعري لمؤلفه الخلود.