بعد طلبات وردود مباشرة وغير مباشرة بين الحكومة السورية الجديدة والإدارة الأميركية، وصل وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى نيويورك، فكان أول حضور لمسؤول سوري رفيع في مجلس الأمن بعد سقوط الأسد.
لقد ألقى الشيباني كلمة طالب فيها برفع العقوبات المفروضة على سوريا، كما طالب مجلس الأمن بممارسة الضغط على إسرائيل للانسحاب من سوريا، معتبرا أن "العدوان الإسرائيلي المستمر على بلاده يقوض السلام والأمن اللذين نسعى إلى تحقيقهما".
جاءت كلمة الشيباني عقلانية ومدروسة، تمثل عقلية دولة تسعى للنهوض بعد عقود من الذوبان في مشاريع إقليمية وعقائدية، وأجاب بكلمته على معظم الطلبات الأميركية التي سُلمت له سابقا في بروكسل، وجاءت متماهية مع الرد الذي أرسلته دمشق في وقت سابق.
وفي الواقع، فإن سياسة سوريا الخارجية منذ سقوط نظام الأسد لا تتمتع فقط بالبرغماتية كما يتم وصفها بل بالعقلانية والهدوء، ويدرك المسؤولون السوريون اليوم أن البلاد منهكة وبحاجة لدعم الجميع لرفع العقوبات وإعادة الإعمار وعودة اللاجئين، وقبل ذلك كله لتثبيت الاستقرار وخصوصا مع كثرة المتربصين من إيران التي خسرت مشروعها في المنطقة بسقوط الأسد، وأذرعها التي خسرت ممر التمويل والتسليح وتصنيع المخدرات، إلى بقايا النظام الذين خسروا امتيازاتهم بالنهب والقتل والفساد، وصولا إلى "داعش".
وتدرك حكومة الرئيس أحمد الشرع أن دول الجوار والإقليم والعالم أجمع عانى لعقود من تصدير نظامي الأسد الأب والولد للفوضى والإرهاب والمخدرات، وأن إعادة بناء الدولة الجديدة يتطلب قطيعة مع تلك الأساليب والسياسات.
سياسة سوريا الخارجية منذ سقوط نظام الأسد لا تتمتع فقط بالبرغماتية كما يتم وصفها، بل بالعقلانية والهدوء
في خطاب الشيباني أيضا رسائل للخارج عن الداخل السوري، فقد صرح أنهم بصدد الإعلان "عن خطوات جادة لتشكيل برلمان وطني يمثل الشعب السوري"، وشدد على أن العقوبات "تُقيد قدرتنا على تطبيق العدالة الانتقالية وضمان الأمن"، مؤكدا أن رفع العقوبات سيكون "خطوة هامة تساهم في تحويل سوريا لشريك نشط وقوي في السلام والاقتصاد الدولي". واعتبر أن "العالم بحاجة إلى سماع متطلبات الشعب السوري، بعد أن كان يتم تمثيله بطريقة خاطئة، فاليوم هناك سوريا جديدة وفرصة جديدة تصنع في المنطقة العربية.
ولكن على الجانب الآخر، في سوريا، فإن ما ينتظره الكثير من السوريين هو الخطابات الموجهة إليهم، خطابات بنفس الهدوء والعقلانية، تخاطبهم بشفافية وخصوصا مع زيادة حالات التململ الحاصلة وتحديدا بملف العدالة الانتقالية وبقايا النظام، بعيدا عن العواطف والتعاطف. لماذا لا نسمع خطابا موجها لأهالي الضحايا يخبرهم بأن هيئة العدالة الانتقالية ستشكل قريبا وأن العقوبات، كما قال الشيباني، تعوق انطلاق مسار العدالة؟ لماذا لا يعلم السوريون ما دور الفلول اليوم وهم يأخذون حيزا واسعا من الصورة، هل كان لهم دور في إسقاط النظام؟ هل سيتعاونون بالكشف عن خفاياه؟ تكاد لا تصل معلومة إلى السوريين إلا وهي بحاجة لبحث وتقص.
لا شك أن التحديات كبيرة داخليا وخارجيا، ولا شك أن العقوبات من أبرز العوائق أمام انطلاق العمل بشكل منتظم في سوريا
لا شك أن التحديات كبيرة داخليا وخارجيا، ولا شك أن العقوبات من أبرز العوائق أمام انطلاق العمل بشكل منتظم في سوريا، ولكن بعد 4 شهور على بداية عهد جديد في سوريا، صار من الضروري أن يوجه الخطاب إلى الداخل وأن يطلع السوريون على خطة عملية بإطار زمني واضح، فكما أن الخطاب إلى الخارج عقلاني وهادئ، فإن السوريين يحتاجون إلى خطاب يخاطب عقولهم بعيدا عن شعبوية الشعبويين الذين تفسح لهم الحكومة الحيز الأكبر من عملية صناعة الرأي العام، في ظل غياب إعلام رسمي حقيقي وواعٍ، حتى بات هؤلاء هم مصدر المعلومة الوحيد أمام السوريين، وهذا المصدر تختلط فيه الحقيقة مع السذاجة مع الكثير من الاستعراض.
إن عملية تحقيق الاستقرار تبدأ من بناء جسور الثقة مع الشعب السوري وتقديم خطاب حقيقي عقلاني وهادئ شبيه بالخطابات التي تقدمها الحكومة للرأي العام العالمي، فنجاح الحكومة في إقناع الداخل هو الشرط الأساسي لنجاحها في الخارج، وهذا يتطلب إعادة النظر في كيفية إدارة الخطابين السياسي والإعلامي وعدم ترك السوريين فريسة للمتسلقين ومؤثري "السوشيال ميديا" فهؤلاء ضررهم أكثر من نفعهم.