هل تتحول صحراء الجزائر إلى سلة غذاء أفريقيا؟

مشاريع زراعية ضخمة في وسط البيداء حيث أكبر احتياطيات من المياه الجوفية العذبة في العالم

Shutterstock
Shutterstock
مزارع في ولاية سيدي بلعباس

هل تتحول صحراء الجزائر إلى سلة غذاء أفريقيا؟

شهدت الجزائر خلال العامين الأخيرين تحولا جذريا في قطاع الزراعة، حيث أدرك صناع القرار أهمية الاستفادة من إمكانات الصحراء الجزائرية الشاسعة لتعزيز الإنتاج الزراعي وتحقيق السيادة الغذائية والاكتفاء الذاتي. فقد بدأت البلاد في تنفيذ مشاريع زراعية استراتيجية في صحرائها، تستهدف المحاصيل الأساسية مثل الحبوب والبقوليات والبطاطا وغيرها، بالإضافة إلى تربية المواشي وإنتاج الأعلاف. هذا التحول جاء نتيجة لاستصلاح مساحات شاسعة من الأراضي، واعتماد تقنيات الري الحديثة، وتبني تكنولوجيا الزراعة المتقدمة بما يتناسب مع البيئة المحلية ويساهم في تحسين الإنتاجية وتحقيق الاستدامة البيئية.

وقد أدت هذه الجهود الى توسيع رقعة الأراضي المستصلحة، حتى أصبح قطاع الزراعة يشكل رافدا مهما للاقتصاد الجزائري، وداعما أساسيا للجهود الرامية لتعزيز الأمن الغذائي في حين تتجه الصحراء بوتيرة متسارعة لتصبح سلة غذاء استراتيجية ليس فقط لتلبية الاحتياجات المحلية، بل أيضا لتصدير المنتجات الغذائية إلى أسواق شمال أفريقيا وحتى دول الساحل الأفريقي. وعلى الرغم من هذه الإنجازات، تظل هناك تحديات قائمة، مثل التغيرات المناخية، وارتفاع درجات الحرارة، وزيادة ملوحة التربة، التي قد تعترض هذا المسار. فما هي أهم الخصائص الطبيعية الفريدة التي تمتاز بها صحراء الجزائر وتؤهلها لتحقيق السيادة الغذائية ودعم الأمن الغذائي في أفريقيا؟ وما هي أبرز التحديات التي قد تواجه هذا التحول؟​

أحد أكبر احتياطيات المياه الجوفية

لقد أثبتت كل التجارب الزراعية في صحراء الجزائر نجاحها بفضل عوامل عدة، نذكر منها الموارد المائية الوفيرة، إذ تمتلك الجزائر أحد أكبر احتياطيات المياه الجوفية العذبة في العالم، حيث تُقدّر الموارد المائية المتجددة في البلاد بـ 11.4 مليار متر مكعب من المياه السطحية و3 مليارات متر مكعب من المياه الجوفية، فيما تُقدّر الموارد المائية غير المتجددة بنحو 5 مليارات متر مكعب تقع كلها في جنوب البلاد، مما يستدعي ضرورة استخدامها بطريقة مستدامة. ووفق الأرقام الرسمية التي قدمتها وزارة الفلاحة في الجزائر، فإن كميات المياه القابلة للاستغلال حسب النموذج العددي لنظام طبقات المياه الجوفية في الصحراء الشمالية، تُقدّر بنحو 6.1 مليار متر مكعب في حلول عام 2050.

ستحقق الجزائر الاكتفاء الذاتي التام في عدد من المنتجات الزراعية خلال السنة الجارية، منها القمح الصلب، والحليب في غضون عامين

الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون

بالإضافة إلى الموارد المائية، تتمتع الجزائر بإمكانات هائلة في مجال الطاقة المتجددة، خصوصا الطاقة الشمسية والرياح، فتُقدّر قدرة الطاقة الشمسية بنحو 9 تيراواط ساعة سنويا، فيما تُقدّر طاقة الرياح بنحو 35 تيراواط ساعة سنويا، مما يوفر بيئة مثالية لتوليد الطاقة اللازمة للأنشطة الزراعية. أما العامل الآخر الذي ينبغي تسليط الضوء عليه فهو الظروف المناخية المواتية حيث تتميز صحراء الجزائر بدرجات حرارة مرتفعة على مدار السنة، وهو ما يجعل المنتجات الزراعية تحظى بجودة ومذاق متميزين لا سيما تلك التي تنمو من دون الحاجة إلى الأسمدة الكيميائية.

وقد أثبتت الصحراء الجزائرية نجاعتها في إنتاج العديد من المواد الأساسية على غرار الشمندر السكري والأعلاف والبقوليات والحبوب. فعلى الرغم من قساوة المناخ الصحراوي، عرفت الصحراء الكبرى تطويرا كبيرا في مجال زراعة الحبوب التي تشغل حاليا أكثر من 81 ألف هكتار لا سيما في منطقتي الزيبان وجبال الضاية الواقعة في الغرب الجزائري.

أ.ف.ب.

من بين المحاصيل الأخرى التي عرفت نموا استثنائيا على مدار السنوات المنصرمة، الخضروات التي تشغل حاليا نحو 92.736 هكتار، بينها 41 في المئة مخصصة لإنتاج البطاطا. وأصبحت المناطق الصحراوية، لا سيما مدينة وادي سوف الواقعة على بعد 650 كيلومترا جنوب شرق العاصمة الجزائرية، تزود الجزائر 50 في المئة من البطاطا و4 ملايين قنطار من البندورة. أما زراعة الأشجار المثمرة فتشكل مساحة 21203 هكتار، يتصدرها الزيتون الذي يحتل مساحة عشرة آلاف و800 هكتار، وتليه أشجار المشمش والرمان.

تعزيز الأمن الغذائي بشراكات دولية

 في موازاة ذلك، تسعى الجزائر جاهدة لتوسيع رقعة المساحات الزراعية من خلال اتفاقات استراتيجية مع شركاء دوليين لتعزيز الاكتفاء الذاتي. من أبرزها، اتفاقية وُقعت مع شركة "بلدنا" القطرية لإقامة مشروع متكامل لإنتاج الحليب المجفف ومشتقاته في جنوب البلاد، الذي يُعتبر من أكبر المشاريع الزراعية باستثمارات تُقدّر بنحو 3.5 مليارات دولار، ويشمل إنشاء منظومة زراعية صناعية على مساحة 117,000 هكتار، تضم مزارع لإنتاج الحبوب والأعلاف، ومزارع لتربية الأبقار، ومصانع لإنتاج مسحوق الحليب، ويهدف المشروع إلى تلبية 50 في المئة من احتياجات الجزائر من مسحوق الحليب. بالإضافة إلى ذلك، تم إبرام اتفاقية مع الشركة الإيطالية "بونيفيكي فيراريزي" (Bonifiche Ferraresi) لإنتاج القمح الصلب والبقوليات بنحو 420 مليون يورو، في محافظة تيميمون جنوب البلاد أيضا.

الاكتفاء الذاتي الجزائري

إلى ذلك، قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في مارس/آذار الماضي، إن "الجزائر ستحقق الاكتفاء الذاتي التام في عدد من المنتجات الزراعية خلال العام الجاري، منها القمح الصلب"، مؤكدا أيضا عزم الدولة على تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الحليب في غضون عامين بفضل المشروع الاستثماري الكبير في ولاية أدرار بالشراكة مع القطريين، الذي يشمل تربية الأبقار وإنتاج الألبان.

الموارد الطبيعية والبشرية تدعم التحول الزراعي في الجنوب، كما أن المنطقة الصحراوية تملك الكثير من المقومات التي تجعلها رائدة في إنتاج المحاصيل الزراعية

عبد الباسط بومادة، أستاذ العلوم الزراعية في جامعة ورقلة

تأتي تطلعات الرئيس الجزائري فيما تمتد الصحراء الجزائرية على أنهار من المياه الجوفية، مما يجعلها رافدا مهما من روافد الأمن الغذائي الوطني، بالإضافة إلى أن تكون سلة غذاء لأفريقيا والدول العربية، لا سيما أن التقارير الدولية، ولا سيما من منظمة الأغذية والزراعة العالمية "فاو"، تجمع على أن الجزائر قد بلغت مرحلة "الأريحية" في مجال الغذاء، وهي اليوم تحتل المرتبة الأولى أفريقيا.

لا يختلف اثنان على أن البلاد تشهد تغيرات مناخية ملحوظة أثرت بشكل خاص على الزراعة في المناطق الشمالية، بينما تعاظم دور ولايات الجنوب الصحراوي في الإنتاج الزراعي خلال السنوات الأخيرة، خاصة أن مناطق الجنوب تتمتع بموارد طبيعية وبشرية تدعم هذا التحول، إذ بالإضافة إلى وفرة المياه الجوفية العذبة يوجد هناك مساحات شاسعة من التربة المنبسطة تسهل استخدام المكننة الزراعية مما يعزز من كفاءة الإنتاج الزراعي.

أكبر احتياطي للمياه الجوفية العذبة

 للتدليل على ذلك، يقول الدكتور عبد الباسط بومادة، أستاذ العلوم الزراعية في جامعة ورقلة في حديث لـ"المجلة" إن "المنطقة الصحراوية تملك الكثير من المقومات التي تجعلها رائدة في إنتاج المحاصيل الزراعية، مثل الشمندر السكري، كما تحولت الكثبان الرملية في السنوات الأخيرة إلى حقول خضراء من القمح والشعير"، ويعود ذلك إلى أن المناطق الشمالية تعتمد بشكل رئيس على الزراعة المطرية، مما يؤدي إلى تذبذب الإنتاج، بينما تعتمد المناطق الصحراوية على المياه الجوفية المكونة من طبقات غنية بالمياه العذبة الصالحة للزراعة، أهمها الطبقة القارية البينية، التي تشكل أكبر احتياطي للمياه الجوفية العذبة في العالم، وتمتد عبر الصحراء الكبرى.

Shutterstock
شلالات العوريت في منطقة تلمسان الجزائرية

تحتوي هذه الطبقة على أكثر من 50,000 مليار متر مكعب من المياه الجوفية العذبة، تستحوذ الجزائر على نحو 70 في المئة من منسوب المياه الجوفية في هذه الطبقة، وتتركز بشكل رئيس في الجنوب الشرقي للبلاد.

لا يمكن إنكار الدور الحيوي للعنصر البشري في نجاح الزراعة في المناطق الصحراوية. ويشير الدكتور عبد الباسط بومادة، إلى أن "الإنسان الصحراوي يمتلك معارف ومهارات نتيجة ارتباطه الوثيق على مدى العصور بنظام الواحات، من خلال زراعة النخيل والزراعات التحتية من خضروات وأعلاف".​

تُعدّ هذه الخبرات والتقاليد الزراعية من العوامل المشجعة على تطوير الزراعات الصحراوية. لكن، هل يمكن هذه المقومات أن تساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي وتحول المناطق الصحراوية إلى سلة غذاء لمنطقة شمال أفريقيا والساحل الأفريقي؟

تعميم استخدام الألواح الشمسية لإنتاج الطاقة الكهربائية، أمر جوهري ولا سيما أن البيئة الصحراوية مثالية لهذا النوع من الطاقات المتجددة

عبد الباسط بومادة، أستاذ العلوم الزراعية في جامعة ورقلة

وضعت الجزائر خطة لزيادة المساحات الزراعية الإجمالية المروية إلى ثلاثة ملايين هكتار في السنوات القليلة المقبلة، من 2,1 مليون هكتار حاليا. يؤكد الدكتور عبد الباسط بومادة أن تحقيق الطموحات الزراعية في المناطق الصحراوية مرتبط بشكل مباشر بإزالة العقبات أمام المستثمرين، حيث تساهم هذه المناطق حاليا بنسبة 25.7 في المئة من الإنتاج الزراعي الوطني، مع إمكان مضاعفة هذه النسبة ثلاث مرات، خاصة أن العديد من المناطق الصحراوية أثبتت قدرتها على إنتاج الحبوب والخضروات خلال دورتين زراعيتين سنويا.

الكهرباء وشق الطرق واستصلاح الأراضي

وإذا تمت إزالة العقبات أمام المستثمرين، يمكن هذه المناطق أن تساهم بشكل كبير في تحقيق الاكتفاء الذاتي ولا سيما في إنتاج الحبوب الذي توليه الحكومة أهمية قصوى ضمن استراتيجيا الأمن الغذائي.

أ.ف.ب.
سيدتان تقطفان الباذنجان في بلدة دواودة الجزائرية، 30 مايو 2024

ويلفت الدكتور عبد الباسط بومادة إلى أن النهوض بالقطاع الزراعي في الصحراء الجزائرية يتطلب دعما حكوميا في مجالات متعددة، أبرزها توفير الكهرباء، وشق الطرق، واستصلاح الأراضي الزراعية، فضلا عن إنشاء مصانع لتحويل الإنتاج الزراعي. وفي هذا السياق، يسلط الضوء على "صعوبة الحصول على الطاقة الكهربائية، حيث تعتمد الزراعة الصحراوية بشكل كبير على المياه الجوفية التي تحتاج إلى الطاقة اللازمة لتشغيل الآبار وضخ المياه وتشغيل آلات الري مثل الرش المحوري، الذي يتطلب أيضا طاقة كهربائية".

ويوصي بومادة بتوسيع نطاق استخدام الطاقة الشمسية نظرا للامتداد الشاسع للأراضي الصحراوية في الجزائر، قائلا إن "تعميم استخدام الألواح الشمسية لإنتاج الطاقة الكهربائية، أمر مهم ولا سيما أن البيئة الصحراوية مثالية لهذا النوع من الطاقات المتجددة".​

وادي سوف كنموذج زراعي ناجح

في هذا السياق، أعلنت الجزائر أخيرا الشروع في إنجاز محطة ثانية للطاقة الشمسية في منطقة العبادلة بولاية بشار الواقعة في الجنوب الغربي من البلاد، بقدرة إنتاجية تصل إلى 220 ميغاواط. يندرج هذا المشروع ضمن البرنامج الوطني لإنجاز 15 محطة للطاقة الشمسية الكهروضوئية، بسعة إجمالية تقدر بـ3.200 ميغاواط، موزعة عبر 12 ولاية جزائرية، ضمن سعيها المتواصل لتعزيز استخدام مصادر الطاقة المتجددة.

أ.ف.ب.
مزارع جزائري يبيع البطاطس في سوق للمنتجات الزراعية، في العاصمة الجزائر، 15 سبتمبر 2022

على الرغم من التحديات البيئية، نجحت ولاية وادي سوف في تحويل الصحراء إلى منطقة زراعية مزدهرة.  يُعدّ هذا التحول مثلا حيا على قدرة الإنسان الجزائري على مواجهة الصعاب وتحقيق التنمية المستدامة.​ في هذا السياق، يشير الدكتور عبد الباسط بومادة إلى أن "ولاية وادي سوف حققت قفزة نوعية جعلتها قطبا في المجال الزراعي، خصوصا في إنتاج البطاطا، إذ تنتج الولاية حاليا نحو 1.2 مليون طن من البطاطا سنويا، أي ربع الإنتاج الوطني. إذا تم تذليل العقبات أمام المستثمرين، فإن هذه النسبة قابلة للزيادة بشكل كبير، مما يساهم في تعزيز الأمن الغذائي الوطني.​

في الخلاصة، تظهر تجربة الجزائر الزراعية أن الإرادة الوطنية والتخطيط الاستراتيجي، إلى جانب الاعتماد على مصادر الطاقة المستدامة لتحسين كفاءة استخدام الري، قادرة على تحويل التحديات البيئية إلى فرص تنموية.

font change