عوارض ما بعد الصدمة وسلاح "حزب الله"

ليس مفاجئا أن تأتي المواقف الشيعية لترد برفع سقف الخطاب إلى حدود الهذيان

عوارض ما بعد الصدمة وسلاح "حزب الله"

استمع إلى المقال دقيقة

الأمر في غاية البساطة: يسلم "حزب الله" سلاحه– طوعاً أو كرها– إلى الجيش اللبناني فتستقر الأوضاع وتتوقف الانتهاكات الإسرائيلية للقرار 1701 ويستعيد لبنان ازدهاره الاقتصادي ويعود السياح لغزو شواطئه الذهبية وجباله الخضراء.

لكن الأمر ليس كذلك. ولا تساهم الصورة الوردية للازدهار المتخيل بعد تسليم السلاح، سوى في إضافة الجرح على الإهانة. ذلك أن تعدد الوظائف والأدوار التي أداها "حزب الله" في العقود الثلاثة الماضية، يجعل من السلاح المطلوب تسليمه فصلا واحدا من كتاب متعدد الفصول. فـ"الحزب" دافع عن الجماعة التي حكمت لبنان بالسلاح ذاته الذي يُطالب اليوم بتسليمه. وعندما قمع مظاهرات "انتفاضة تشرين" 2019، فعل ذلك والسلاح حاضر في خلفية المشهد. وعندما أمر بوقف التحقيق في تفجير مرفأ بيروت، كان صدى السلاح يتردد في صوت الأمين العام لـ"الحزب" ومسؤوليه ومسلحيه الذين هددوا بإشعال اقتتال جديد في النقطة ذاتها التي اندلعت منها الحرب الأهلية (1975-1990). وفي مايو/أيار 2008 عندما اجتاح "حزب الله" ومناصروه بيروت وحاول السيطرة على الجبل، كان يؤدي وظيفة مزدوجة بإبقاء هيمنته على الدولة ومنع انفصال لبنان عن "محور المقاومة" السابق.

ومن الوظائف المنوطة بسلاح "الحزب" أيضا تثبيت مواقع الطائفة الشيعية في مؤسسات الدولة، حيث تقول السردية المنتشرة في أوساط "الحزب" وحليفته حركة "أمل" أن الشيعة لن يعودوا فقط إلى مستوى من الحرمان والذل يفوق ما عانوا منه قبل حملهم السلاح في سبعينات القرن الماضي، بل إنهم سيبادون وسيُرَحلون إلى العراق. وليست المجازر التي وقعت في الساحل السوري وما ينتظر الدروز في السويداء وغيرها، سوى مقدمات لمخطط سيصل في نهاية المطاف إلى البقاع والجنوب اللبنانيين، على ما تذهب أقوال المتحدثين غير الرسميين باسم "الحزب" الذين يملأون الشاشات ومنصات السوشيال ميديا، من دون أن يكلفوا أنفسهم عبء السؤال عن السبب الذي وضع قسما كبيرا من السوريين في حالة عداء سافر للشيعة اللبنانيين.

يبدو أن المتمسكين بالحد الأقصى من الضغط على "حزب الله" لتسليم سلاحه، غير مبالين بآليات اشتغال الجماعات اللبنانية وتوازناتها والعوامل التي تفضي إلى صدامها أو تصالحها

مهما يكن من أمر، فقد أعطت الحرب الأخيرة في لبنان وظيفة جديدة لسلاح "حزب الله" وزادت عليه دور اللاصق الذي يضمن وحدة الجماعة ويحصنها من الأصوات الصادرة من داخلها وخارجها والمطالبة بتسليم السلاح. فهذا الأخير ارتقى إلى مرتبة مقدسة ويجري التسويق له على أنه المانع الوحيد ضد نجاح "مؤامرة" عالمية لإبادة الشيعة واقتلاعهم من أرضهم. وغني عن البيان أن الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية وقسم من الدولة اللبنانية يعملون آناء الليل وأطراف النهار للقضاء على الوجود الشيعي في لبنان. 
هذه المخاوف، سيان كان لها نصيب من الصحة أم كانت مجرد تجميع لأجزاء من تصريحات ومواقف، بُنيت عليها أسطورة جديدة من أجل استخدام الخوف في السياسة. وليس مفاجئا أن تأتي المواقف الشيعية لترد على الخوف بالتحدي وبرفع سقف الخطاب إلى حدود الهذيان واستئناف إطلاق التهديدات يمنة ويسرة، من دون الالتفات إلى أن التهديدات اليوم ليست أكثر من "ألقاب مملكة في غير موضعها"، على ما قال الشاعر. 
في المقابل، يبدو أن المتمسكين بالحد الأقصى من الضغط على "حزب الله" لتسليم سلاحه، غير مبالين بآليات اشتغال الجماعات اللبنانية وتوازناتها والعوامل التي تفضي إلى صدامها أو تصالحها. فالتكرار الببغائي بضرورة "نزع سلاح (حزب الله) ولو بالقوة" استنادا إلى أن ذلك هو مضمون القرار 1701، ينطوي على شيئين: إما سعي إلى حرق المراحل لإخراج "حزب الله" من الساحة السياسية بوهم أن ذلك هو العلاج النهائي لكل الأمراض اللبنانية المستعصية، ولو من خلال الدفع إلى اقتتال بين الجيش اللبناني و"الحزب". وإما تجاهل لحالة الإنكار التي تمر بها الجماعة الشيعية لهزيمتها في تحديها الكبير (غير العقلاني) بتغيير وجه المنطقة بقواها ودعم حلفائها. 

فالجماعة الشيعية اللبنانية لم تخرج بعد من الرضّة الهائلة التي خسرت فيها "الأب" الرمزي الذي كان يمثله حسن نصرالله وما استبطنت صورته من طمأنينة للشيعة وشعور بالمنعة والرفعة على جميع الطوائف الأخرى. ويتعين القول إن مقتل نصرالله، كان في الصميم نهاية للمشروع الإيراني في المنطقة من جهة، لكنه أدى إلى حالة انغلاق غير مسبوقة عند الشيعة اللبنانيين من جهة ثانية. تداعيات انهيار المشروع الذي كان نصرالله يرمز إليه موجودة في حالة الرفض القريب من الهستيريا التي يعبر عنها بعض أطراف "اللقاء التنسيقي" العراقي كلما جاءت سيرة الرئيس السوري أحمد الشرع، على سبيل المثال. 
عوارض ما بعد الرضة النفسية، ومنها الإنكار ومحاولة الانغلاق والهروب من الحقيقة، لا يأخذها الداعون إلى القضاء الفوري على "حزب الله" (حليفهم في الدفاع عن المنظومة الحاكمة بين 2005 و2024) في الاعتبار، ما يدعو إلى الاعتقاد أن حالة مساوية من الانغلاق والانفصال عن الواقع تسود في صفوفهم. من هنا يمكن فهم استياء البعض من كلام معتدل أدلى به رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ونائبه ووزير الثقافة عن عملية متدرجة لتفكيك سلاح "حزب الله" وإيجاد مخارج سياسية واقتصادية لجمهوره الذي يخطئ من يقلل من الصدمة التي لا يزال يعاني منها. 

font change