في يومها العالمي... ماذا أضافت موسيقى "الجاز" إلى السينما؟

مزاج فني وابتكار وتحرر

AFP
AFP
ملصق يعلن عن عروض موسيقية في باريس يوم 30 أبريل 2013 في ملهى "دوك دو لومبارد" لمناسبة اليوم الدولي للجاز

في يومها العالمي... ماذا أضافت موسيقى "الجاز" إلى السينما؟

يحتفل عشاق الموسيقى اليوم بـ"اليوم العالمي للجاز" الذي أعلنته منظمة "يونسكو"، منذ عام 2011، ليقام في الثلاثين من أبريل/ نيسان، احتفاء بدور هذا اللون الموسيقي في إقامة جسر تواصل بين الشعوب.

لم يكن المهاجرون المنتزعون من بلدانهم في وسط أفريقيا، المجبرون على الزراعة والعمل بالسخرة لتأسيس المجتمع الأميركي الجديد، يعرفون أن الدندنات، أو شبه الأغنيات التي يؤدونها وهم يشقَون في مزارع القطن، في التماس نوع من السلوان الذاتي، وتشبث بكل ما بقي لهم من هوية محلية، سوف تساهم لاحقا في خلق ما اصطلح على تسميته بفن الجاز، ذلك اللون الموسيقي الذي سيستعمر سلميا هذا المجتمع الجديد، ويمتد تأثيره خارج الحدود الأميركية إلى الثقافات الأخرى، حتى يتحول مع الوقت إلى محفز على مزاج شعوري ووجودي خاص، يتسلل نجاحه من صالات الغناء إلى قاعات السينما.

يشير الفيلم التسجيلي "الجاز: أنغام الحرية" Jazz: Rhythms of Freedom (2008) إلى أن موسيقى الجاز التي يتجاوز عمرها المائة عام، كانت أكثر من تقنية أو أسلوب في الموسيقى، بل كانت تحريرا للمستعبدين من السود الذين تحللت روابطهم الاجتماعية جراء اقتلاعهم من وسط أهاليهم، وإجبارهم على تبني لغة جديدة وحصرية للتواصل في ما بينهم، هي اللغة الإنكليزية. هكذا صارت الموسيقى لغة بديلة، للتواصل والبقاء على قيد الحياة. حين اندلعت الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865)، وحصل الأميركيون من أصول أفريقية على حرية أكبر نسبيا في التنقل، صحب كل شخص هذا الإرث الفني معه إلى المدن والمناطق الجديدة التي انتقل إليها، مضيفا بصمته الخاصة، ليمسي فن الجاز من بعد قائما بصورة أساسية على الارتجال، ويسمح لفنانيه المتأثرين بألوان أخرى من الموسيقى، ومنها مثلا الكلاسيكية، بمزج الأنواع والخروج بتجربة موسيقية محررة للموسيقى من طرف، كما كانت محررة لموسيقييها ضد عسف الاستعباد والعنصرية، من طرف آخر.

الجاز فاتح شهية السينما

السينما التي عاشت ميلادها مع بدايات القرن الفائت، وتحضرت خلال العشرينات لكي تتحدث بعد مرحلتها الصامتة، لم تفوت فرصة توظيف موسيقى الجاز، لجذب جمهور كان واقعا في هوى الموسيقى الجديدة، لكن لا تزال خطواته مترددة في الذهاب إلى السينما. نتحدث هنا عن السينما الأميركية في المقام الأول، سواء استعان فنانوها بالجاز في عناوين الأفلام، أو لاحقا في الموسيقى المصاحبة للأحداث، أو في حالة الأفلام التي تروي سيرة بعض الموسيقيين، وصراعاتهم مع العنصرية في المجتمع الأميركي. صحيح أن الجاز ينتمي في الأساس إلى المجتمع الأفريقي الأميركي، إلا أن هذا لم يمنع سينمات أخرى من الاستعانة به لخلق مزاج سينمائي ووجودي معين، كالسينما الفرنسية وبعض صناع السينما العرب كذلك.

ينتمي الجاز في الأساس إلى المجتمع الأفريقي الأميركي، إلا أن هذا لم يمنع سينمات أخرى من الاستعانة به لخلق مزاج سينمائي ووجودي معين.

في عام 1927، صدر الفيلم الأميركي "مغني الجاز" The jazz singer من إخراج آلان كروسلاند، ومثّل ثورة في صناعة السينما آنذاك. تضمن الفيلم أغنيات مسموعة، وبعض الجمل الحوارية، على الرغم من أنه بقي فيلما صامتا، ويروي قصة شاب ينتمي إلى عائلة يهودية متدينة محافظة، يود أن يتوجه إلى الغناء الفني وألا يكتفي بالغناء في المعابد. لم نسمع موسيقى الجاز صراحة في الفيلم، إنما نلاحظ أن الكلمة في العنوان، تدل أكثر على حالة البحث عن الحرية الفردية، والمراهنة على قدرة الفن على الوصول إلى المستمعين والتأثير فيهم. في هذا المعنى، فإن الجاز في العنوان لا يُحيل إلى هذا اللون الموسيقي المحدد بل هو مجاز عن حالة، مما يبرر ربما أن بطل الفيلم لم يكن مغنيا أسود، أو من أصول أفريقية، كما كان مشاهير هذا الفن في أميركا. إنما رجل أبيض موسر الحال، يبحث عن التحقق الفني.

على النهج نفسه سار فيلم "ملك الجاز" The King of Jazz (1930) من إخراج جون موراي أندرسون ووالتر لانتز، الذي يقدم مجموعة من الاسكتشات الاستعراضية والغنائية، تفتقر إلى التواصل السردي، لكنها لا تعدم الإبهار البصري النادر في مرحلة مبكرة من صناعة السينما.

الجاز كرمز للشغف بالفن، الذي قد يستهلك الحياة بالتدريج إلى أن يأتي عليها، نجده في الفيلم الشهير "كل هذا الجاز" (1978)

تصدَّر الفيلم عازف الجاز الأميركي الأبيض والشهير آنذاك بول وايتمان، والملقب في الواقع بهذا اللقب: "ملك الجاز". تضمن الفيلم الصادر بلونين، شريط صوت مسجلا بالكامل ومضافا إلى الفيلم، وحقق نجاحا جماهيريا في طبيعة الحال.

الجاز كرمز للشغف بالفن، الذي قد يستهلك الحياة بالتدريج إلى أن يأتي عليها، نجده في الفيلم الشهير "كل هذا الجاز" All that jazz (1979) للمخرج بوب فوسي الذي يروي هنا سيرته الذاتية على لسان مخرج مسرحي ومصمم رقصات حياته، مستنزَفة بين التوق إلى الإنجاز الفني وبين إدمانه المخدرات والنساء. مجددا لا يشير اسم الجاز في العنوان، إلى حكاية فعلية عنه، إنما يحيل إلى الارتباط الروحي بالفن، كمرادف للحياة في حدودها القصوى، كما يشتهي أن ينغمس فيها الفنان. ويتضمن الفيلم مشاهد توثيقية للفنانين وهم يتدربون على رقصاتهم في كواليس المسرح.

البلوز يعني الجاز  

من اللافت أن الجاز، كلون موسيقي، حضر أكثر في الأفلام التي حملت عنوان "البلوز"، على سبيل المثل "باريس بلوز" Paris Blues إنتاج عام 1961، من إخراج مارتن ريت، وهو فيلم أميركي عن عازفي جاز يقرران ترك الولايات المتحدة، وبدء حياتهما الفنية في باريس. أحدهما الأسود، يلعبه سيدني بواتييه، هربا من الضغوط العنصرية في وطنه الأم. تنشأ بين الفنانين علاقة مع سائحتين أميركيتين في زيارة عابرة لباريس، التي تتحول في هذا الفيلم إلى مدينة حاضنة لأحلام الموسيقيين وذكريات الحب. من أهم نقاط قوة هذا الشريط، ضمه موسيقى فناني الجاز الأشهر لويس أرمسترونغ وديوك إلينغتون، التي تُصع هذا الفيلم، وتجعل مشاهدته تجربة شجية لمحبي الجاز.

بالمثل يمكننا أن نتذكر فيلم المخرج الأميركي سبايك لي، "مو بيتر بلوز" Mo' better Blues (1990). وربما يكون من المفيد أن نشير إلى ولع سبايك لي بموسيقى الجاز، وارتباطه الحميمي بها. والده بيل لي، كان عازفا للجاز في مدينة شيكاغو، وقد دارت حياة الأب تقريبا حول هذا الشغف الموسيقي. لاحقا، حين اتجه سبايك لي إلى السينما، طلب من والده بيل لي، أن يؤلف الموسيقى المصاحبة لأفلامه، هكذا حدث مع هذا الفيلم، والفيلم الذي سبقه، "افعل الصواب" Do the right thing (1989). أي أن عالم الجاز، لم يكن غريبا على أفلام سبايك لي، وفي الأخص Mo' better Blues الذي يقدم حياة عازف ترومبيت في مدينة نيويورك يؤديه دينزل واشنطن، وهو ممزق بين التزامه الموسيقي والفني، وبين علاقاته المتقطعة مع النساء التي تتطلب منه وقتا وإخلاصا لا يسعه بذلهما.

يركز كلينت إيستوود على الجانب المأزوم من حياة تشارلي باركر، لا سيما إدمانه المبكر المخدرات منذ سن المراهقة، وتأثيرها اللاحق على حياته الاجتماعية والفنية

يقدم سبايك لي هنا مشاهد يتمرن فيها الفنان بحميمية مع آلته، وهو ينظفها ويعتني بها. إلى هذا يتضمن الفيلم موسيقى من تأليف وعزف برانفورد مارساليس، بالإضافة إلى مساهمة الأب بيل لي، إلى جانب مقطوعات لجون كولتران ومايلز ديفيس وغيرهما من مشاهير الجاز.

من بين الأفلام التي ركزت على الصراع النفسي لعازفي الجاز السود مع المجتمع الأميركي، الصراع الذي لم يمنعهم من تقديم فنهم لحسن الحظ، كان فيلم "بيرد" Bird (1988) من إخراج كلينت إيستوود، الذي يقدم قصة حياة العازف المعروف تشارلي بيرد باركر. الفيلم الذي استقى إيستوود قصته من أرملة باركر، يركز أكثر على الجانب المأزوم من حياة الفنان الراحل، لا سيما إدمانه المبكر المخدرات منذ سن المراهقة، وتأثيرها اللاحق على حياته الاجتماعية والفنية. صحيح أن الفيلم يزخر بموسيقى باركر، التي تنهض أساسا على الارتجال، وهي نقطة جذب لمحبيه، إلا أن تركيزه الزائد على تردي صحة باركر، يجعل منه عملا تراجيديا أليما.

تجارب سينمائية خاصة في الجاز

تأثر سينمائيو فرنسا بالجاز بدورهم، وحاولوا استقطاب فنانيه الأميركيين لتأليف موسيقى مصاحبة لأفلامهم. عام 1958، أسند المخرج لوي مال تأليف موسيقى فيلمه المهم "مصعد إلى المشنقة" Ascenseur pour l'échafaud إلى مايلز ديفيس. وتأتي أهمية هذا العمل من تمهيده البصري والمزاجي لظهور ما سيعرف بأفلام الموجة الجديدة في فرنسا Nouvelle Vague، التي اتسمت بسعي فنانيها إلى التعبير عن قيم جمالية وفكرية غير تقليدية في سينماهم. الفيلم يروي محاولة بطله التمرد على النظام الرأسمالي الذي يستنزف خيرات الجزائر ويبرر الاحتلال. إذ يسعى للتخلص من مديره، الذي هو في الوقت نفسه، زوج عشيقته، وبعد أن ينجح في مهمته، يدبر تلفيقا معينا للأدلة ينجيه من تهمة القتل، إلا أن عطلا مفاجئا في مصعد المؤسسة يقاطع خطته. موسيقى مايلز ديفيس، التي ألفها بعد أن جعله المخرج لوي مال يشاهد النسخة النهائية من العمل، ترسم هذا الشعور بالتمزق، من جهة العاشقة التي تهيم على وجهها في باريس، معتقدة أن عشيقها تخلى عنها، من دون أن تعرف أنه عالق في المصعد.

لا يلجأ غودار إلى الجاز حصرا إنما يستخدم بعض النغمات أحيانا، لتصاحب تنقل بطله وحبيبته بين شوارع باريس ومعالمها الأشهر

ومن جهة أخرى، العاشق نفسه الذي يواجه الظلام والشك في وحدته ولا يعرف إن كان سيخرج منها. الجاز هنا يترجم المزاج السوداوي، اليائس من مجتمع قديم، غير متيقن من أن مجتمعا جديدا يمكن أن يأتي، لكن أبطاله يحاولون استحضاره مع ذلك، ولو خروجا على القانون.

المزاج نفسه سيتكرر في فيلم "على آخر نفس" À bout de souffle (1960) لجان لوك غودار. أحد أبرز أفلام الموجة الفرنسية الجديدة، هنا لا يلجأ غودار إلى الجاز حصرا كما فعل من قبل لوي مال في فيلمه. إنما يستخدم بعض النغمات أحيانا، لتصاحب تنقل بطله المواطن الهارب من الشرطة، وحبيبته الصحافية الأميركية الطموحة بين شوارع باريس ومعالمها الأشهر.

ولعل اليوم، لم يعد التطلع إلى الجاز بهذه النظرة المفتونة التي كانت للسينمائيين الفرنسيين، أو هذا على الأقل ما يقوله الفيلم الأميركي La La Land (2016) من سيناريو وإخراج داميان شازيل. يحلم سيباستيان (روي جوسلينغ) بأن يعيد إلى موسيقى الجاز سحرها، هو الذي يجابَه يوميا برفض مديري الملاهي الليلية أن يعزف على البيانو نغمات الجاز الحر. لا يكف سيباستيان عن الحديث عن الجاز وفنانيه الكبار، وهو يبرر هذا العزوف الشبابي الجديد عن الجاز بابتذال بعض قطعه الشهيرة وتشغيلها في الأماكن العامة كالمراحيض. يعترف سيباستيان بأن موسيقى الجاز "تحتضر"، ويتبنى فكرة شراء أحد البارات وتحويلها إلى ناد لعزف أي نوع من الجاز الصافي، في محاولة أخيرة "لإنقاذ الجاز في العالم"، كما يقول ساخرا في أحد المشاهد. حين نشاهد "لا لا لاند"، نتحسر على أعوام الجاز السحرية سواء في الغناء أو السينما.

تجارب عربية

استقبل العالم العربي موسيقى الجاز، ورأى فيها بعض مثقفيه وفنانيه علامة على مزاج فني وجمالي خاص، يرتبط بتحرير الشعوب من جهة (لأن الجاز كان سلاحا ناجعا في أيدي الأميركيين السود ضد عنصرية بلادهم الموجهة اليهم والى شعوب العالم الثالث الآخرين)، وعلامة كذلك على الحداثة والانفتاح على الثقافات الأخرى. في الفيلم التونسي "عصفور السطح" Halfaouine (1990) للمخرج فريد بوغدير، يظهر حضور خفيف لموسيقى الجاز، ضمن ألوان موسيقية أخرى، تصاحب خروج بطله نورا من مرحلة الطفولة إلى الشباب وانفتاحه على عالم الحس والملذات رغم سلطة أب قاهرة، تبيح لنفسها ما تحرمه على الابن. موسيقى الفيلم كانت من تأليف أنور إبراهيم.

استقبل العالم العربي موسيقى الجاز، ورأى فيها بعض مثقفيه وفنانيه علامة على مزاج فني وجمالي خاص، يرتبط بتحرير الشعوب

وفي عام 2004، قدم الجزائري نذير مقناش فيلمه "تحيا الجزائر" Viva Laldjérie، وفيه تبحث ثلاث نساء من الطبقة المتوسطة عن الحرية في العاصمة الجزائر، حرية الجسد والشعور والفكر، رغم معاكسات المجتمع الأصولي حولهما. يكتنف الفيلم خيط من موسيقى الجاز الناعمة على البيانو، التي تمنح حيوات أولئك النساء على ما فيها من وحدة، حميمية تحفظ أيضا الأمل في المستقبل.  

عام 2010، قدم المخرج المصري أحمد عبد الله السيد فيلمه المستقل "ميكروفون" الذي يتتبع رحلة مجموعة من الفرق الغنائية الشبابية الجديدة آنذاك underground في البحث لأنفسهم عن مساحة حرة للتعبير عن همومهم وأفكارهم، ضمن هامش عام ضيق، تضيق به السلطة في أشكالها كافة، وتحاول التحكم فيه وخنقه. من الفرق الغنائية التي ظهرت في الفيلم: مسار إجباري، وصوت في الزحمة، وماسكارا. بعض أغنيات هذه الفرق احتوت على نغمات أو تأثيرات من موسيقى الجاز. إلى هذا، يقدم أحمد عبد الله السيد تجريبا في عنصر الزمن السينمائي، الذي يتقطع ويدور ويعود، بطريقة تجاري موسيقى الجاز الارتجالية.

أخيرا تجدر الإشارة إلى الفيلم الوثائقي "الموسيقى التصويرية لانقلاب" Soundtrack of a coup d'Etat من إخراج جوان جريمونبريز، وإنتاج مشترك بين بلجيكا وفرنسا وهولندا، والذي نافس العام الماضي على جائزة أوسكار أفضل فيلم تسجيلي، وهو الذي يربط بالصور والمقاطع الأرشيفية بين مرحلة نضال الشعوب ضد استعمار بلجيكا وفرنسا وإنكلترا، وبين نضال فناني الجاز، منهم لويس أرمسترونغ ونينا سيمون ضد العقلية الاستعمارية الغربية. يضع هذا الفيلم موسيقى الجاز في مكانها الصحيح، ويستعرض مشاهد لتظاهرات ضد الهيمنة الغربية، وخطابات لرؤساء عرب يناصرون حق التحرر وتقرير المصير لبلدانهم، ومنهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر.

font change

مقالات ذات صلة