باكستان والهند… بين تراكم أزمات الثقة والمواجهة الشاملة

الانزلاق إلى دوامة عنف يصعب كبحها

أ.ف.ب
أ.ف.ب
هيكل متضرر بسبب القصف الهندي في منطقة كوتلي في الجزء الخاضع لإدارة باكستان من كشمير في 7 مايو 2025

باكستان والهند… بين تراكم أزمات الثقة والمواجهة الشاملة

بلغ التوتر السياسي في جنوب آسيا ذروته، إذ تقف الهند وباكستان، الجارتان النوويتان، على حافة صراع كارثي جديد. وقد فجّر التصعيد الأخير أزمة كبيرة، بعد أن أودت ضربة صاروخية هندية بحياة 24 شخصا داخل الأراضي الباكستانية، وردّت إسلام آباد بإسقاط خمس مقاتلات هندية، ما أثار صدمة واسعة في الأوساط الدبلوماسية العالمية. وفي حين تسيطر الاشتباكات والغارات الجوية على المشهد الإعلامي، فإن ما يستحق مزيدا من التمحيص هو الحسابات السياسية، التي يغذيها مزيج من الإرث التاريخي، والضغوط الداخلية، والتنافسات الجيوسياسية.

وقد انطلقت شرارة الأزمة من هجوم باهالجام في 22 أبريل/نيسان، وهو حادث لا تزال تفاصيله غامضة وتحيط به روايات متضاربة، لكنه سرعان ما فجّر واحدة من أخطر حالات التوتر بين الهند وباكستان في التاريخ المعاصر. ومع تصاعد التوتر، ازدادت مواقف القيادات السياسية في إسلام آباد ونيودلهي تصلبا، الأمر الذي مهّد الطريق نحو مسار تصعيدي خطير، يحذر مراقبون من أنه قد يتحول إلى دوامة عنف يصعب كبحها، ويقود إلى مواجهة شاملة.

وقدّمت باكستان طلبا رسميا إلى الولايات المتحدة والأمم المتحدة والمملكة المتحدة لإجراء تحقيق مشترك في هجوم باهالجام، في خطوة تعكس رغبتها في تدويل القضية وتفادي تحميل جهة واحدة المسؤولية. وفي المقابل، رفضت الحكومة الهندية هذه الدعوات حتى الآن، مؤكدة أن أجهزتها الاستخباراتية تملك أدلة "دامغة" تربط الهجوم الواقع في كشمير بجهات مدعومة من باكستان. وقد أسهم هذا الانسداد في المسار الدبلوماسي في تعميق فجوة انعدام الثقة بين الجانبين.

وفي ظل هذا المأزق المتصاعد، سارعت باكستان إلى اتخاذ خطوات سياسية حازمة. فقد ترأس رئيس الوزراء شهباز شريف سلسلة اجتماعات للجنة الأمن القومي في إسلام آباد، جمعت كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين لتقييم تداعيات الضربة الصاروخية الهندية. وفي أعقاب الهجوم الذي أودى بحياة عشرات المدنيين، بينهم نساء وأطفال، استدعت وزارة الخارجية الباكستانية، يوم الأربعاء، القائم بالأعمال الهندي وقدّمت احتجاجا رسميا.وفي مذكرة شديدة اللهجة، أدانت إسلام آباد العملية ووصفتها بأنها "عدوان سافر" و"انتهاك صارخ لسيادة باكستان"، مشددة على أن مثل هذه الضربات لا تخالف القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة فحسب، بل تقوّض أيضا الأعراف الهشة التي شكّلت إطار العلاقات بين البلدين لعقود. وكانت الرسالة واضحة: لن تسمح إسلام آباد بأن تمر أفعال نيودلهي دون رد.

على الجانب الآخر من الحدود، توحدت القيادة السياسية في الهند إلى حد كبير خلف رئيس الوزراء ناريندرا مودي. فوسط ضغوط التيارات القومية والمناخ الإعلامي المتوتر، تبدو حكومة مودي مصممة على التشبث بسياسة الحزم والتصعيد. ويرى محللون أن القيادة الهندية قد تستغل هذه الأزمة لتعزيز التأييد الشعبي قبيل استحقاقات انتخابية محلية مهمة، في نهج بات مألوفا ضمن تكتيكات الحملات الانتخابية في شبه القارة.

تبدو حكومة مودي مصممة على التشبث بسياسة الحزم والتصعيد

ومع ذلك، فإن ارتدادات هذه المناورة السياسية المحفوفة بالمخاطر لا تقتصر على العواصم وحدها، بل امتدت لتضرب الأسواق المالية. فقد سجلت بورصات كراتشي وإسلام آباد ومومباي تراجعات حادة، في وقت يسعى فيه المستثمرون جاهدين لفهم تداعيات الأزمة المتصاعدة. هذا الاضطراب الجيوسياسي عمّق من حالة الغموض الاقتصادي السائدة، والتي كانت أصلا تشكّل مصدر قلق متزايد في كلا البلدين، في ظل تفاقم الضغوط التضخمية وتباطؤ وتيرة النمو.

وما يبعث على القلق بصورة أكبر هو التحول المتسارع في المناخ السياسي نحو الطابع العسكري. إذ إن قرار إغلاق جميع المؤسسات التعليمية في إسلام آباد لدواعٍ أمنية يعكس حجم الاضطراب الذي أصاب الحياة المدنية. ورغم أن هذا الإجراء قد يُنظر إليه كخطوة احترازية، فإنه يبرز بوضوح مدى تقلب الوضع الراهن، في ظل تصعيد بلغ حد استخدام الذخيرة الحية وتنفيذ عمليات توغل عبر الحدود.

وقد بدأت الجهات الدولية بالتفاعل مع التصعيد، وإن بحذر ملحوظ. فعندما سُئل الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشأن الضربة الصاروخية الهندية، وصفها بأنها "مخزية"، لكنه تجنب الخوض في التفاصيل. واكتفى في تصريحه المقتضب بالقول: "أعتقد أن الجميع كانوا يتوقعون حدوث شيء ما... إنهم يتقاتلون منذ عقود طويلة. آمل أن ينتهي هذا سريعا"، وهي عبارات تعكس شعورا بالاستسلام أكثر مما تعبر عن نية للتدخل أو الحسم.

أما وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، فكان أكثر اتزانا وتحفظا في تصريحه، إذ قال: "أتابع الوضع بين الهند وباكستان عن كثب... وسأواصل التواصل مع القيادتين الهندية والباكستانية من أجل التوصل إلى حل سلمي". وتعكس تصريحاته الموقف السائد في واشنطن، الذي يقوم على تجنّب الانخراط المباشر في الأزمة، مع الحفاظ على درجة عالية من اليقظة والترقب.

أ.ف.ب
أفراد من الشرطة والدفاع المدني أثناء تدريب لمحاكاة الطوارئ في محطة قطارات في حيدر أباد مع تصاعد التوترات الحدودية، في 7 مايو2025

وفي مقر الأمم المتحدة، دعا الأمين العام أنطونيو غوتيريش الطرفين إلى التحلي بـ"أقصى درجات ضبط النفس العسكري"، محذرا من أن "العالم لا يمكنه تحمّل مواجهة عسكرية بين الهند وباكستان". فاندلاع حرب في جنوب آسيا، وخصوصا بين قوتين نوويتين، يحمل في طياته تداعيات جيوسياسية بالغة الخطورة. ومع ذلك، فإن الأمم المتحدة كثيرا ما وجدت نفسها مهمشة في مثل هذه الأزمات، حيث تتفوق حدة العداء الثنائي على وتيرة الدبلوماسية متعددة الأطراف.

وقد عبّر عدد من الفاعلين الدوليين الآخرين عن مواقفهم حيال التصعيد. حيث أصدر وزير شؤون مجلس الوزراء الياباني، يوشيماسا هاياشي، بيانا أدان فيه الهجوم الإرهابي الذي وقع في كشمير يوم 22 أبريل/نيسان، كما أعرب عن بالغ قلقه من احتمالات التصعيد العسكري. وقال: "نحث بقوة كلا من الهند وباكستان على ممارسة ضبط النفس والعمل على استقرار الوضع عبر الحوار"، ليقدم بذلك موقفا متزنا قلّما وُجد في التصريحات الدولية حول هذه الأزمة.

بدورها، أعربت الصين، القوة الإقليمية البارزة والحليف التقليدي لباكستان، عن أسفها تجاه العملية العسكرية التي نفذتها الهند. وفي الوقت الذي دعت فيه بكين إلى ضبط النفس، عكس بيانها الرسمي شعورا متزايدا بالقلق إزاء تصاعد نزعة الهند إلى استخدام القوة بشكل أحادي، وهو توجه من شأنه أن يربك توازنات الحدود الصينية.

انسداد في قنوات الاتصال الدبلوماسي

ما يضفي على هذا التصعيد طابعا أكثر خطورة هو تزامنه مع تراجع واضح في قنوات الدبلوماسية التقليدية بين الخصمين. فقد تراجعت مسارات الحوار، بما في ذلك الاتصالات الخلفية والاجتماعات الثنائية على هامش الفعاليات الدولية، تاركة فراغا ملأه خطاب سياسي متشدد ومتصلب. ويُعزى هذا التوجه بدرجة كبيرة إلى اعتبارات داخلية في كلا البلدين.

ففي الهند، تواصل حكومة مودي ترسيخ مفهومي "الأمن القومي" و"القومية المتشددة"، كمرتكزين أساسيين لسياستها العامة. وتحظى سردية "الهند القوية" القادرة على تنفيذ ضربات عبر الحدود بقبول واسع لدى فئة من الناخبين، مما يعزز صورة حزب "بهاراتيا جاناتا" كجهة حازمة في التصدي للإرهاب. غير أن أصواتا معارضة داخل الهند تحذر من أن هذا النهج التصعيدي قد يفضي إلى تفاقم التوترات بدلا من كبحها.

أما في باكستان، وتحت قيادة شهباز شريف، فتواجه الحكومة ضغوطا متصاعدة من جبهتين: شعب غاضب يطالب بالمحاسبة على سقوط المدنيين، ومعارضة مترقبة تسعى لاستغلال أي بادرة ضعف. ويُقال إن الجيش، بوصفه عنصرا محوريا في معادلة الأمن الوطني، يتعاون بشكل وثيق مع الحكومة المدنية، ما يعكس حالة من التماسك في وجه الأزمة. ومع ذلك، فإن هامش الحركة السياسية آخذ في الانكماش، في وقت يتوحد فيه الرأي العام حول مطالب واضحة بالعدالة والردع.

يكمن التحدي الدبلوماسي الآن في إيجاد سبل فعّالة لخفض التصعيد، وهي مهمة تزداد تعقيدا بفعل الحسابات السياسية الداخلية في كلا البلدين

ويكمن التحدي الدبلوماسي الآن في إيجاد سبل فعّالة لخفض التصعيد، وهي مهمة تزداد تعقيدا بفعل الحسابات السياسية الداخلية في كلا البلدين. فالهند وباكستان على حد سواء لا ترغبان في إعطاء انطباع بالتراجع، خشية أن يُفسَّر ذلك كضعف. ومع ذلك، فإن استمرار التراشق العسكري يهدد بإطلاق دوامة من الردود المتبادلة، قد تتجاوز حدود السيطرة وتدفع المنطقة نحو مصير مجهول.

وقد ناشد عدد من المراقبين الدوليين بضرورة تدخل طرف ثالث للوساطة، إلا أن التوقعات تظل متواضعة في ظل المعطيات الراهنة.فالولايات المتحدة، رغم ما تملكه من نفوذ تقليدي في المنطقة، فقدت جانبا من قدرتها على التأثير في كلا البلدين خلال السنوات الأخيرة. أما الأمم المتحدة، المثقلة بقيودها البيروقراطية، فلا يتجاوز دورها حدود التصريحات. وفي المقابل، تحتفظ المملكة المتحدة ودول الكومنولث الأخرى بروابط تاريخية بالمنطقة، لكنها تفتقر إلى القدرة الفعلية على التأثير في نزاعات أمنية بهذا المستوى من التعقيد والتوتر.

وفي الوقت الراهن، تغرق الساحة السياسية في حالة من الغموض الخطر. فلا بوادر لوقف فوري لإطلاق النار، ولا مؤشرات على حوار ثنائي وشيك، ولا تحقيق مشتركا في "هجوم باهالجام"، رغم مطالبة باكستان العلنية بذلك. ويعزز رفض الهند لهذا الطلب الشكوك المتنامية في إسلام آباد بأن الهجوم ربما استُخدم كذريعة لتبرير عملية عسكرية أوسع نطاقا.

أما السؤال السياسي الحاسم فيتمثل الآن في ما إذا كانت أي من الحكومتين تملك الإرادة الحقيقية لكسر هذه الحلقة المفرغة من التصعيد. فالتاريخ يشهد بأن الهند وباكستان اقتربتا من حافة المواجهة العسكرية مرارا، في كارجيل، وبالاكوت، وبعد هجمات مومباي، قبل أن تتراجعا في اللحظة الأخيرة. غير أن كل مواجهة من هذا النوع تترك وراءها ندبة أعمق، وتُرسّخ ثقافة المخاطرة، وتضيق هامش الخيارات أمام أي تسوية سلمية مستقبلية.

رويترز
أنصار حزب الرابطة الإسلامية المركزية الباكستانية (PMML) يحرقون دمية تمثل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال تجمع لدعم الجيش الباكستاني في أعقاب الضربات العسكرية الهندية على باكستان، في إسلام آباد، باكستان، 7 مايو 2025

وفي ظل وجود ما يقارب المليار نسمة في كلا البلدين، تبدو الرهانات في أعلى مستوياتها. ومع ذلك، وبينما تتعالى قرقعة طبول الحرب، تكاد أصوات الدبلوماسية لا تُسمع- إن لم تكن قد اختفت تماما. ففي لحظة الخطر هذه، لا تُختبر القدرات العسكرية فحسب، بل تُوضع الإرادة السياسية لقادة البلدين على المحك: هل سيختارون تغليب صوت العقل والسلام على إغراءات الشعبوية؟

الإجابة عن هذا السؤال لن تحدد فقط مصير جنوب آسيا، بل أيضا مستقبل النظام الدولي بأسره، الذي لا يزال، رغم كل عيوبه، يسعى لتفادي شبح الحرب النووية.

font change