العلاقة الطردية بين الحروب والتماسك الداخلي معروفة في علم الاجتماع منذ مطلع القرن العشرين. توجد نظريات عدة في هذا المجال من أهمها نظرية لويس كوزر التي قدمها في عدد من كتبه وأهمها كتاب "وظائف الصراع" الصادر في نيويورك عام 1956. وخلاصة نظريته أن وجود صراع خارجي حاد عنصر أساسي من عناصر الترابط الاجتماعي، بل يذهب إلى أبعد مدى فيطرح ما معناه أن الصراع الخارجي يُنقّي الأجواء الداخلية. وتذهب بعض الحكومات بعيدا في استغلال هذه العلاقة فتسعى إلى فرض تماسك داخلي قسري حتى قبل أن يبدأ الاستعداد جديا لحرب كما حدث في مصر حين رُفع شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" قبل سنوات من حرب 1967.
ولكن الوضع في إسرائيل ليس كذلك. لم يعرف المجتمع الإسرائيلي من قبل مثل التفكك الحاصل منذ أكثر من عام. وهذه حالة غير عادية أو قل إنها استثنائية في تاريخ الحروب، إذ يزداد كل يوم الانقسام على أصعدة عدة، فنجد انقساما بين العلمانيين والمتدينين، وآخر بين الحكومة المدنية والمؤسسة العسكرية، وثالثا يرتبط بالمواقف تجاه الحرب وتحديدا بشأن هدفها الأول، وهل هو تحرير الأسرى أو الرهائن الموجودين في قطاع غزة، أم تحقيق النصر المطلق عبر القضاء على حركة "حماس".
وكان حديث الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتزوغ قبل أيام, في مناسبة ما يُعرف بيوم الذكرى، عن أن الصراعات الداخلية تُضعف الوضع الأمني تعبيرا عن قلق من انقسام لم تضع الحرب حدًا له.
الصراع العلماني-الديني
ليس جديدا هذا الصراع في إسرائيل، لكنه كان كامنا تحت السطح إلى أن بدأ في الظهور بشكل واضح أوائل عام 2023 عقب تشكيل الحكومة الحالية. وكان مفترضا أن يُنَحّى هذا الصراع جانبا، أو يُعاد إلى حالته الكامنة، ليخوض المجتمع الحرب موحدا. ولكن ما حدث كان العكس، إذ بدا كما لو أن الحرب تصب زيتا على ناره بفعل تنامى الخلاف على تجنيد المتدينين "الحريديم" وبلوغه ذروة لم يكن متصورا أن يصل إليها، وهو الذي بقي مُحيدا منذ نشأة الدولة والتفاهم بين قادة القوى العلمانية والدينية على عدم ضرورة إصدار دستور لتجنب الصراع على بعض نصوصه. فقد اكتُفي وقتها بالاعتماد على قوانين أساسية في إطار صفقة سياسية حصل المتدينون بموجبها على بعض الامتيازات أهمها إعفاؤهم من التجنيد وحصولهم على تمويل حكومي لمؤسساتهم الدينية وأنشطتها واعتبار يوم السبت إجازة يمتنع خلالها القيام بأي عمل.
نادرا ما تحدث خلافات بين الحكومات المدنية والمؤسسات والأجهزة العسكرية والأمنية. أما أن تحدث هذه الخلافات خلال الحرب، وفي ظل نظام ديمقراطي يقوم على قواعد وتقاليد واضحة، فهذا أكثر ندرة
أتاحت تلك الصفقة إبقاء الصراع الديني-العلماني كامنا إلى أن بدأت مقدماته في الظهور مع ازدياد قوة أحزاب "الحريديم" (شاس، وهديجل، وهتوراه الآن) والأحزاب القومية الدينية (عوتسما يهوديت، والصهيوني الديني حاليا)، وأصبح في إمكانها أن تتحكم في الحكومة وتسيطر على القرار فيها.
وهكذا بدأت الحرب التي أعقبت هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول في الوقت الذي كان الصراع الديني-العلماني قد صعد إلى سطح المجتمع. ولم يكن ممكنا أن تفعل الحرب فعلها الطبيعي في أي مجتمع فتقلل حدة هذا الصراع أو تُسَكنه إلى أن تنتهي بسبب اشتداد الخلاف على إعفاء المتدينين من التجنيد. فما أن تبين أن الحرب سيطول أمدها على نحو لم تتعود إسرائيل عليه حتى بُدئ في المطالبة بتجنيد "الحريديم" لسد النقص في عديد الجيش. ولم يكن في إمكان رئيس الحكومة ووزير الدفاع الاستجابة لمطالب تجنيد المتدينين بسبب موقف حزبي "شاس" و"هديجل هتوراه" الأكثر رفضا لهذا التجنيد. واكتُفي بإرسال طلبات استدعاء عسكرية إلى المتدينين دون إصدار قانون يلزمهم بالانضمام إلى صفوف الجيش. وازداد الموقف تأزما مع ضآلة استجابتهم لطلبات الاستدعاء. وربما يكون هذا الصراع هو الأخطر على مستقبل إسرائيل حتى إن لم يصل إلى المستوى الذي بلغته نظائره في عدة دول عربية تنامى فيها دور أحزاب الإسلام السياسي.
الصراع المدني-العسكري
نادرا ما تحدث خلافات بين الحكومات المدنية والمؤسسات والأجهزة العسكرية والأمنية. أما أن تحدث هذه الخلافات خلال الحرب، وفي ظل نظام ديمقراطي يقوم على قواعد وتقاليد واضحة، فهذا أكثر ندرة.
ولكنه يحدث في إسرائيل. فقد أثار العجز عن الحسم وطول أمد الحرب خلافات بين رئيس الحكومة ومعه معظم الوزراء، ورئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي بشأن مسار الحرب وطريقة إدارتها. ولم يخف هاليفي وعدد من قادة الجيش قلقهم، وأحيانا تذمرهم، من عدم وضوح الأهداف التي تحددها الحكومة. كما تكررت الشكاوى من إعادة القوات إلى مواقع سبق أن دخلوها أكثر من مرة بلا هدف واضح.
ولم يكن أمام هاليفي إلا أن يستقيل لإنهاء الخلاف والحيلولة دون تصاعده على نحو قد يفت في عضد الجيش. كما استقال عدد من الضباط الكبار أبرزهم يارون فلينكمان قائد القيادة الجنوبية، وأمير برعام نائب رئيس هيئة الأركان، إلى جانب رئيس جهاز الشاباك رونين بار.
ورغم أن تولي إيال زمير قيادة الأركان في 6 مارس/آذار الماضي أدى إلى تهدئة الأجواء بين الحكومة وقيادة الجيش، فلا يبدو أن "شهر العسل" سيطول. فالخلاف بين نتنياهو وهاليفي لم يكن شخصيا، بل مهني. والقضايا المختلف عليها لم تتغير. فالأهداف التي تحددها الحكومة عامة جدا وليست محددة بالطريقة التي تعمل بها الجيوش. والنقص في عديد الجيش مستمر. ولكن ما يعنينا في هذا الخلاف، كما في الخلاف الديني-العلماني، أن الحرب لم تحقق تماسكا مجتمعيا، بل تؤدي إلى ازدياد التفكك.
الانقسام السياسي
يحدث هذا في الوقت الذي يصل فيه الانقسام بين الأحزاب المؤتلفة في حكومة نتنياهو وأحزاب المعارضة إلى مستوى غير مسبوق، وتتحول جلسات البرلمان "الكنيست" إلى ساحة صدام وشجار لا يسمع أحد فيها الآخر. وهذه سابقة في تاريخ الحروب الإسرائيلية-العربية. فقد خاض الإسرائيليون حروبهم كلها موحدين إما وراء الحكومة القائمة أيا يكن تركيبها، أو من خلال حكومة وحدة وطنية كما حدث في حرب 1967.
ويتداخل هذا الخلاف غير المسبوق في حالة حرب مع خلافين آخرين يقسمان المجتمع الإسرائيلي أيضا. أولهما الخلاف على الهدف الذي ينبغي أن تكون له الأولوية الأولى في الحرب، إذ تنضم المعارضة إلى منظمات وهيئات كثيرة في المطالبة بأن تكون إعادة الأسرى أو الرهائن هي الهدف الأول الذي تعطى له الأولوية، فيما تعتبر الحكومة ومؤيدوها أن النصر المطلق هو ما يجب أن تكون له الأولوية.
أما الخلاف الثاني فهو على تفسير سبب طول أمد الحرب، وهل يعود إلى عوامل موضوعية تتعلق بطبيعة هذه الحرب نفسها، ثم إلى اعتبارات شخصية لدى رئيس الحكومة من زاوية أنه قد يخشى فقد منصبه ونفوذه على نحو قد يُسَرع إيقاع محاكمته في قضايا استغلال النفوذ، وربما محاسبته على الفشل الذي يرفض الإقرار بمسؤوليته عنه.
وهكذا يبدو المجتمع الإسرائيلي منقسما بدرجة لا سابقة لها، فيما لا تفعل الحرب فعلها الطبيعي في تحقيق تماسك، الأمر الذي يجعل إسرائيل استثناءً من قاعدة العلاقة الطردية بين الحروب والتماسك الداخلي.