ضغوط متعارضة على ترمب

ضغوط متعارضة على ترمب

استمع إلى المقال دقيقة

ظلت عملية صنع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة كتابا مفتوحا أمام متابعيها لفترة طويلة. كان سهلا رصد المدخلات التي يتلقاها صانعو هذه السياسة، ومتابعة تأثيرها في المخرجات أي القرار أو القرارات التي تُتخذ بشأن قضية أو أخرى.

يختلف الوضع الآن ربما بسبب تركز عملية اتخاذ القرار بين يدي الرئيس دونالد ترمب بدرجة لم يُعرف مثلها من قبل حتى في إدارته السابقة (2016-2020) التي اختلف مسؤولون كبار ومؤثرون فيها معه، مما أدى إلى استقالة أو إقالة عدد كبير منهم. الوضع في الإدارة الحالية مختلف، إذ يبدو واضحا أن الولاء الكامل للرئيس كان أحد أهم معايير اختيار المسؤولين الكبار فيها.

لذا فبدلا من أن يُتخذ القرار في هذه القضية أو تلك من خلال التشاور المستمر داخل الإدارة، ينفرد ترمب باتخاذه فى كثير من الأحيان. ولا تزيد مشاركة مساعديه الكبار في عملية صنع السياسة الخارجية عن الإدلاء بتقديراتهم وآرائهم ونصائحهم فيسمعها ثم يتخذ القرار بشكل منفرد. وقد لا يعرف أعضاء فريقه هذا القرار إلا عند إعلانه كما حدث في بعض القرارات المتعلقة بفرض رسوم جمركية على الواردات الأميركية أو زيادتها.

وعندما لا يكون القرار مشمولا بنفاذ فوري أو سريع، قد يحدث تراجع عنه أو تغيير فيه، الأمر الذي يؤدي أحيانا إلى تضارب في تصريحات ترمب. لكن عملية صنع القرار بشأن المشاركة في الحرب الإسرائيلية-الإيرانية كانت أصعب من غيرها لأن ترمب تعرض لضغوط متعارضة من اثنين من أهم الأطراف المؤثرة في صنع السياسة الأميركية تجاهها، وهما إسرائيل ممثلة في حكومة نتنياهو واتجاه قوي في حركة "ماغا" (MAGA) أو "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، التي تعد قاعدته السياسية-الشعبية الأساسية. فقد نجح نتنياهو في إقناع ترمب بأن تدخّل واشنطن بشكل مباشر هو السبيل لتقصير أمد الحرب وضمان تدمير قدرات إيران النووية، بما في ذلك منشأة فوردو الأكثر تحصينا التي لا تملك إسرائيل القدرة على النفاذ إلى أعماقها.

ولكن تيارا قويا في حركة "ماغا" يعارض المشاركة المباشرة في الحرب، ويتمسك قادته وجمهوره بشعار الحركة الأساسي "أميركا أولا". وهم يرون أن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تخوض حربا لمصلحة أية دولة أخرى حتى إن كانت إسرائيل، ويطالبون بعدم التورط في حروب لا داعي لها ولا مصلحة للولايات المتحدة في خوضها.

صحيح أن تيارا ثانيا في حركة "ماغا" يؤيد مشاركة واشنطن في الحرب. لكن هذا ليس خبرا جيدا لترمب لأنه يحمل في طياته خطر انقسام الحركة التي أعادته إلى البيت الأبيض

ومن بين هؤلاء أعضاء في مجلس الأمن القومي الأميركي، وفي مجلسي النواب والشيوخ، وقادة منظمات مجتمعية متفاوتة في قوتها، وصحافيون وإعلاميون، ومؤثرون في وسائل التواصل الاجتماعي. ويقود هذا التيار المعارض للمشاركة المباشرة في الحرب سياسيون بعضهم قريبون، أو كانوا قريبين، من ترمب مثل ستيف بانون مستشاره الأسبق للشؤون الاستراتيجية خلال إدارته الأولى. ويعارض بانون بقوة ما يعتبرها إعادة إنتاج لتجربة العراق، ويرى أن الحروب التي لا لزوم لها تُضعف الولايات المتحدة ولا تُقوّيها.
كما وافق عدد من أعضاء هذا التيار في مجلس النواب على دعم مشروع قانون يمنع إشراك قوات أميركية في الحرب دون موافقة الكونغرس، ومن بينهم مارجوري غرين زعيمة حركة "ماغا" في المجلس. وحدث تعاون غير معهود كثيرا بين النائب الجمهوري توماس ماسي والنائب الديمقراطي روهيت خانا في إعداد صيغة مشروع القانون.
صحيح أن تيارا ثانيا في حركة "ماغا" يؤيد مشاركة واشنطن في الحرب بشكل مباشر. ولكن هذا ليس خبرا جيدا لترمب لأنه يحمل في طياته خطر انقسام الحركة التي كان لها الدور الأساسي في عودته إلى البيت الأبيض. وهكذا يبدو أن ترمب واجه معضلة كبيرة في الاختيار بين أمرين أحلاهما مر، وهما التدخل المباشر في الحرب ومن ثم المخاطرة بانقسام حركة "ماغا" وخسارة قطاع أساسي من قاعدته، أو الاكتفاء بدعم إسرائيل ومساعدتها، ومن ثم المخاطرة بعدم تدمير القدرات النووية الإيرانية كلها.
ولذا لجأ إلى خيار وسطي، إذ قرر قصف ثلاث منشآت نووية عبر ضربات جوية مركزة دون التورط في الحرب بشكل كامل، على أساس أن معارضي المشاركة المباشرة يخشون في الأساس الانزلاق إلى حرب جديدة كما حدث في أفغانستان والعراق. وإذا اكتفى ترمب بقصف المنشآت الثلاث، كما قال بعيد تنفيذ العملية، فهذا يعني أنه نجح في التعامل مع الضغوط المتعارضة.

font change