"يا غايب... فضل شاكر" وحيرة الفنان في زمن الحرب

مطرب الإحساس يروي قصته للمرة الأولى

shahid.mbc.net/ar/shows/Ya-Ghayeb
shahid.mbc.net/ar/shows/Ya-Ghayeb
يا "غايب" على منصة "شاهد"

"يا غايب... فضل شاكر" وحيرة الفنان في زمن الحرب

ظن البعض أن قصة المطرب اللبناني فضل شاكر بـ"انضمامه لجماعة إرهابية، وتمويلها" أُسدل عليها الستار بعدما حُكم عليه بالسجن غيابيا لفترات تصل إلى 22 عاما. كان ذلك قبل عشر سنوات أو يزيد. تجاهل الإعلام متابعة ذلك لاحقا بعدما فقد الأمر بريقه بتحول "مطرب الإحساس" إلى متهم بمعاداة الجيش اللبناني، على الرغم من أن تلك القضية دون غيرها لا تزال تحمل تساؤلات أصيلة تتجاوز فضل ذاته أحيانا، إلى حديث أوسع عن الفن والدين والمجتمع، في لحظة مؤرقة عربيا على مختلف مستوياتها خصوصا السياسية. يحاول مسلسل "يا غايب... فضل شاكر" المعروض حديثا على منصة "شاهد" إعادة تقديم ذلك كله للسؤال عنه أو من خلاله.

في مواجهة الشاشة

المسلسل من إخراج فاطمة شحادة، وكتابة ورشة كتابة (نور المجبر/ جورج عزيّم/ ناي عزّار)، وإنتاج رودولف جبر. يدور العمل في إطار وثائقي درامي، تحاول فيه صحفية (ستيفاني عطا الله) البحث في ماضي فضل شاكر. تجتمع بعائلته لتكتشف جوانب شخصيته المختلفة كإنسان وأب وفنان قبل "تحوّله" المثير للجدل. قصة يعاد تمثيلها ويرويها بطلها اللبناني الفلسطيني بنفسه: فضل عبد الرحمن شمندر الشهير بفضل شاكر.

يحمل المسلسل الطابع التسجيلي الدرامي (دوكيودراما) الذي يجمع بين مشاهد وثائقية صوّرت مع فضل شاكر في أولى المرات التي يتحدث فيها عن الأمر، وبين إعادة تجسيد القصة دراميا بإعطاء مساحة للأهل والأصدقاء. يجلس فضل شاكر في مواجهة الشاشة مباشرة ليتحدث عن "الظلم الذي تعرض له ورغبته في العودة إلى الساحة الغنائية التي اشتاق إليها". تزامن طرح المسلسل مع عدد من الأغنيات الجديدة التي طرحها المطرب قبل أيام قليلة كذلك. تحمل بصمته وإحساسه الذي لم يبد عليه إرهاق السنوات السابقة التي توقّف خلالها تماما. لكنه بالرغم من كل شيء لا زال حاضرا، نضر وحميمي للدرجة القصوى. تتقدم تلك الأغنيات أغنية "هوى الجنوب" التي يبدأها بنداء مجهول يخاطب الجميع: يا رايح قول لحبيبي اشتقنا. تحية شوق للغناء ولبنان معا.

تتقدم تلك الأغنيات أغنية "هوى الجنوب" التي يبدأها بنداء مجهول يخاطب الجميع: يا رايح قول لحبيبي اشتقنا. تحية شوق للغناء ولبنان معا


قبل الاستقطاب الديني والسياسي الذي يحاسَب عليه فضل اليوم، لم تكن حياته هادئة تماما على كل حال: صاحبته ملاسنات عديدة، بداية من التجاهل والتعالي على الوسط الفني، أو اتهامات مختلفة بالإدمان والتعافي في صمت، وصولا الى وصمه بأنه مطرب الأغنية الواحدة: "يا غايب" التي غيرت حياته، دون رصيد آخر من الأغنيات التي تعلّق بها الجمهور. جميعها تجاهل الرجل الرد عليها لسنوات قبل أن يقرر الحديث عن بعضها في المسلسل بكل كيانه حاملا في قصته وصوته فيضا شعوريا متقلبا ككل فنان حقيقي، أحيانا يود احتضان العالم، وأخرى يشعر عميقا بالامتعاض من وجوده وسط كل ذلك الخراب.

معضلة الغناء في حضور المأسآة

ينفصل المسلسل عن سيرة فضل شاكر الغنائية نوعا ما. على الرغم من بداية كل حلقة من خلال اسم إحدى أغنياته العالقة في أذهان الجمهور العربي، فإن المسلسل يرتكز في حكايته المحورية بالدفاع عن فضل ذاته سياسيا ومجتمعيا، حتى أن عرض قصته من البداية الى النهاية بدت حكاية عن المعاناة التي وجدها المطرب من طفولته التي قضاها في دار أيتام وصولا إلى تجني أقرب أصدقائه عليه بعد الاتهامات التي لاحقته لخلق صورة تدافع لا تسعى للحكي في ذاته. كل شيء في المسلسل يدور في أثر ما حدث في عبرا، تلك المنطقة التي شهدت طفولته وبداياته، هي ذاتها التي دارت فيها معركة بين جماعة أحمد الأسير التي اتهم فضل بالانضمام إليها وبين الجيش اللبناني في العام 2013.

AFP
الشيخ السلفي أحمد الأسير يمسك بيد المغني فضل شاكر خلال أمسية أناشيد أقيمت في مدينة صيدا، جنوب لبنان، 27 تموز/يوليو 2012

وُضع الطفل فضل شاكر في دار أيتام إسلامية رغم وجود والديه. تلك النقطة مر المسلسل عليها سريعا مبررا ذلك بوجود أزمة مادية، لكنها لم تكن كافية لفهم تأثير ذلك عليه. في إحدى الحلقات يقول شاكر في لحظة ضعف شديد أو مظلومية مبررة ربما: "أنا كنت هيك... ما في قرايب وما في صديق وحتى خي ما فيه". يتحدث الرجل عن شعور أصيل لازمه في حياته لعدم عثوره على اي رباط حقيقي في الوسط الفني أو خارجه. ذلك لا يبرر بالطبع ما اتهم به لاحقا، لكنه يساعد في فهم اللجوء إلى ما هو أبعد مما كان لدى الرجل.

يبدأ المسلسل من اللحظة التي يواجه فيها المطرب الاتهامات، ثم يعود ليحكي قصته كلها من خلال ذلك: كيف وصل إلى هذه اللحظة تحديدا؟ طفولة مؤرقة وزواج صعب وصعود درامي، جعل حياته تتقلب بين الفرح الشديد والتعاسة المفرطة. حياة فنان فعلا دون كليشيهات، غير مستقرة في كل حالاتها، تحمل مزاجه الشخصي المرهف غير المحتمل لصراعات العالم على كل حال.

عرض قصة شاكر من البداية الى النهاية، بدا حكاية عن المعاناة التي وجدها المطرب من طفولته التي قضاها في دار أيتام وصولا إلى تجني أقرب أصدقائه عليه

يستبعد المسلسل أيا من أعداء مباشرين أو غير مباشرين لفضل، يخلق حوارا حميميا بين فضل وجمهوره، ويبدو مساحة مواجهة للتهم التي واجهته منذ معركة صيدا في 2013 التي واجهت فيها جماعات إسلامية الجيش اللبناني، وغيرها، ولا يترك مساحة لمن يتهمون فضل بالاعتداء على الجيش أو غيره.

AFP
المغني اللبناني فضل شاكر يحيي حفلاً في ملعب في صيدا، جنوب لبنان

لكن ما يجعل مسلسل "يا غايب" عملا ملهما، ليس الحديث المباشر عن فضل شاكر، بل حول الحرب الأصيلة بين فنان يغني ويطرب وينام هانئا كل يوم، وبين الحرب الدائرة حوله لتصفية أهله وجيرانه في صمت. بين الإيقاع الممتع الذي يعيشه فنان مدلل على المسارح في الحفلات، وبين التشظي الذي يعيشه بلده من قتل ومشاحنة بين طوائفه المختلفة. وما قد يخلقه ذلك الانفصام من تبعات مؤذية نفسيا قد تنفجر في أي لحظة لو فكر صاحبها كثيرا. يبتعد المشاهد في أحيان كثيرة ليفكر في حياته الشخصية التي يمارسها طبيعيا بينما على بعد كيلومترات قليلة منه ثمة حرب دائرة وقتل لا يتوقف، في غزة، وغيرها من مناطق عربية، أحيانا يصيبه الشعور ذاته بالإدانة والغضب، وربما لا يعرف كيف يمكنه التصرف لو كان مصدر رزقه الأساسي من الغناء وسط ذلك كله.    

معقول إنساك معقول

وجه فضل شاكر الذي يحتل الشاشة في غالبية مشاهد المسلسل، فيه ما يستدعي التأمل قليلا، في المسلسل وخارجه. يبدو الرجل دخيلا على الوسط الفني الأكثر إبهارا وأناقة، بينما يتأمل المشاهد وجهه طوال المسلسل يجد رجلا عاديا دون مكياج مكثّف أو عمليات تجميل تنحت الوجه والجسم. بدا رجلا غير مشغول بكيفية أن يصبح نجما في لحظة اختلفت فيها معايير النجومية والانوجاد، فهو قادم من عالم قديم بصوت استثنائي ووجود خفيف يشبه أحد أفراد العائلة لدى جمهوره.

shahid.mbc.net/ar/shows/Ya-Ghayeb
ملصق "يا غايب"

يظهر ملصق العمل حاملا صورة فضل شاكر وحده. نظرة منحنية قد تدعو للندم قليلا أكثر من الانكسار أو الانسحاق، بخلفية قاتمة ضبابية. تماما مثلما يشاهد تتر البداية والنهاية الذي يمر عبر حطام المدينة التي لا تحمل سوى صور الماضي التي يحاول العمل جمعها مرة أخرى. حكاية بأثر رجعي عن رجل لا يمكن التمرد على ذاكرته التعيسة الفقيرة حتى بعدما لمس النجوم.
في قصيدة برتولد بريخت "إلى الذين يأتون من بعدنا"، ينهي الشاعر كلماته قائلا: "أي زمن هذا الذي يكاد يُعد فيه الحديث عن الأشجار جريمة لأنه يتضمن الصمت على العديد من الفظائع؟". الحديث عن الفنون يعد ترفا في مجتمعات تعصف بها الحروب.

حياة فنان فعلا دون كليشيهات، غير مستقرة في كل حالاتها، تحمل مزاجه الشخصي المرهف غير المحتمل لصراعات العالم

ثمة تساؤل فلسفي ننطلق من خلاله حول مسلسل "يا غايب": ما الذي يمكن الفنان عمله وقت الحرب؟ بالنسبة إلى الموسيقى تحديدا، قد تبدو مسألة أكثر تعقيدا من الأدب والسينما، ففي كتاب "لكنّ روحه تمضي سائرة على الإيقاع: موسيقى لتجميل الحرب وتنظيمها"، تكتب الصحافية سوزان فيت شتال أن نظرة على تاريخ البشرية تظهر أنه على مر القرون، ربما استخدمت الموسيقى بشكل أكثر تكرارا لأغراض الحرب لا لأغراض السلام، كالمسرح الموسيقي للتأمل خلال الحرب الأهلية الإسبانية، والأغاني الوطنية في الحروب اليوغوسلافية في التسعينات، والأناشيد الدينية في الحرب العالمية الأولى، واستخدام الموسيقى من قبل الأحزاب الشيوعية والحركات الفاشية الألمانية، وأمثلة أخرى كثيرة من التاريخ.

بالرغم من كل شيء يظل تصوّر إنتاج الفنون، خصوصا الغناء عربيا على الأقل، مرتبطا في الأذهان بالفرح والراحة، الأشياء ذاتها التي تزعج الإنسان عندما يتخيل حدوثها في اللحظة نفسها التي يُقتل فيها أهله بالجوار.

يتحرك المسلسل في أكثر من اتجاه، بين فضل نفسه الذي يبرئ ذاته ويتساءل هو هذه المرة بعد سنوات من مساءلته غير المنتهية، وبين الصحافية التي تتحقق من إدانة فضل وبين صراعات الرجل في الوسط الفني التي بدأت من مدير أعمال سرقه لسنوات، وبين محاولة تجنبه الحضور بين الأضواء، والاكتفاء بالغناء فقط.

ربما كان مسلسل "يا غايب" بحاجة إلى رؤية أكثر عمقا للإجابة عن تساؤل: ماذا نريد من صناعة المسلسل؟ ومن سيشاهده؟ يتحرك المسلسل في أكثر من جانب، لكنه لا يرى أمامه سوى خلق حديث حميمي مع فضل للمرة الأولى أمام الكاميرا، بات ريبورتاجا صحافيا طويلا من تسع حلقات يتمحور فعليا حول دفع الاتهامات التي سقطت بالفعل عن مطرب كان جزءا من مشاعر جيله في المنطقة العربية.

AFP
فضل شاكر ينشد أناشيد دينية خلال تجمع نظمته الحركة السلفية السنية اللبنانية وسط بيروت في 21 أيلول/سبتمبر 2012 احتجاجا على فيلم أميركي ورسوم فرنسية مسيئة للنبي محمد

لو على قلبي داب في هواك وكفاية

حتى نبتعد قليلا عن فلسفة الخطاب التي اعتمد عليها روح هذا المسلسل، والاقتراب أكثر من عناصره الفنية يمكن البداية من اختيارات المخرجة بصريا؛ إذ كان تصوير المسلسل في مدن تركيا نزع عنه معايشة مكانية كانت ستساعد كثيرا في إظهار بلد تُكدّس فيه الحياة والمشاعر، بلد واسع رحب تماما مثل لبنان الذي لا يمكن لفضل اليوم دخوله بسبب العداء مع مؤسسات الدولة الرسمية بالرغم من عدم إثبات أي تهمة رسمية عليه باستثناء أحاديث في لحظة غضب.

تظل تلك المعضلة رهينة تفكير كل فنان يتأرجح بين الغناء في ذاته أو التفكير في الحصول على معنى في لحظة مضطربة

أنقذت تركيا الموقف على كل حال، البلد ذاته الذي أعاد فضل شاكر إلى الساحة، كان نقطة السعادة الأولى في حياته أيضا. انقلبت حياته تماما في وقت سابق بعد ان يطرح أغنية "يا غايب" التي تنقل مسيرته الغنائية تماما من حاضر في الأعراس والمناسبات الداخلية في لبنان إلى الحضور على أكبر مسارح المنطقة العربية والعالمية بعدها، بالرغم من لحنها الأصلي التركي.

AFP
فضل شاكر يحيي حفلا ضمن فعاليات مهرجان قرطاج الدولي في المدرج الروماني بقرطاج، قرب تونس العاصمة، 15 آب/أغسطس 2007

يتخلل المسلسل عدد غير قليل من الأغنيات القديمة التي تدور في الخلفية لتخلق إيقاعا صوتيا وشعوريا شبيها تماما بما يخلقه صوت فضل شاكر نفسه، أو ربما تبدو تحية صامتة للجيل الذي تعلم الرجل سماعه لسنوات، من أم كلثوم إلى عبد الوهاب وغيرهما من أساطير الأغنية العربية.

ما الشيء الأكثر محورية في قضية فضل شاكر كلها؟ تبدو النقطة المتجاوزة له تماما هي النظر إلى أنه كان يمكنه بسهولة التنصل من كل تلك المتاعب. كان يمكنه التواري بعيدا تماما عن كل تلك الصراعات التي يعلم الجميع مدى خسارة أي فنان منها. فقط الغناء وإقامة حفلاته التي غضب ملايين من تأجيلها ثم رفضها تماما. كان يمكنه أن يظل كغالبية مطربي جيله بعيدا آمنا عن كل اشتباك سياسي أو اجتماعي قد يتسبب في أي خسارة. يغني فقط على اعتبار أن ذلك دوره الوحيد. تظل تلك المعضلة رهينة تفكير كل فنان يتأرجح بين الغناء في ذاته أو التفكير في الحصول على معنى في لحظة مضطربة.

font change

مقالات ذات صلة