"19 ب": عن عزلة تحارب عالم الانتهاك والقسوة

نجاح سينمائي وإخفاق جماهيري

"19 ب": عن عزلة تحارب عالم الانتهاك والقسوة

يذهب أحمد عبد الله السيد في فيلمه "19 ب"، من إخراجه وتأليفه، والذي يعرض على منصة "شاهد" من بطولة سيد رجب وناهد السباعي وأحمد خالد صالح وصبري عبدالمنعم، إلى منطقة سينمائية خطرة وسجالية الطابع والتوجه مع أنها تبدو عكس ذلك تماما للوهلة الأولى. يختار الغوص في مفهوم العزلة من خلال شخصية حارس العقار 19 ب الذي يصر على العيش فيه على الرغم من أن أصحابه تركوه منذ زمن، وبات متداعيا يكاد يسقط في كل لحظة.

يعتني الحارس بمجموعة من الكلاب والقطط، ويتعامل معها على أنها كائنات عزلته التي تجعلها مأهولة بالرقة والانفصال عن رعب العالم وضجيجه. ينتمي إلى المكان المتداعي مانحا إياه ملامح فردوس شخصي مسكون بصوت عبد المطلب يغني "في قلبي غرام". تصدح الأغنية معلنة بداية الفيلم وكأنها خاتمة مكثفة لا يكف ما يجري بعدها عن تفسيرها باستمرار.

يحيا حارس العقار في ذاكرته. المكان هو مجالها وقلعتها، والخارج منفاها ومقتلها. إصراره على العيش فيه تأكيد لاستمرارها. نراه يسارع إلى محاولة إصلاح كل عطل يصيب المكان، وكأنه يعالج جراحه، كما أن مطالباته المتكرّرة لفريق الإصلاح في الحي بترميم الأجزاء المهدّدة بالسقوط والتي لا تلقى آذانا صاغية، ليست كذلك سوى محاولة لمنع انهياره.

الزخم النقدي والاحتفاء اللذان قوبل بهما الفيلم في المهرجانات لم يترجما في صالات السينما، فإيراداته بقيت ضعيفة ولم تنجح في مقاربة الأفلام المعروضة في الفترة نفسها والتي تنتمي إلى عالم سينمائي مناقض 

يهاجمه العالم في هيئة نصر السايس (الذي يساعد الناس على ركن السيارات). يحاول اختراق عالمه واحتلال المكان واستغلاله كمخزن لبيع البضاعة. يجد نفسه واقعا في كل ما يخشاه مضطرا إلى خوض صراع وجودي بلا أي سلاح سوى ما ينبع من رغبته الشديدة في الحفاظ على عالمه.

 

جوائز وإيرادات

نال الفيلم إعجاب النقاد والسينمائيين ونجح في انتزاع جائزة مهرجان القاهرة الدولي وجائزة أفضل فيلم عربي ونال مدير تصويره مصطفى الكاشف جائزة أفضل إسهام فني كما حصل على جائزة الاتحاد الدولي للنقاد، وشارك في مهرجانات مالمو للسينما العربية وهوليوود للفيلم العربي. بيد أن الزخم النقدي والاحتفاء اللذين قوبل بهما في المهرجانات لم يترجما في صالات السينما. فإيراداته بقيت ضعيفة ولم تنجح في مقاربة الأفلام المعروضة في الفترة نفسها والتي تنتمي إلى عالم سينمائي مناقض تماما لما يذهب إليه.

يريد الجمهور ترفيها محضا سطحيا وخاليا من العمق ويقدّم نفسه مباشرة. عمق الأزمات المنتشرة في كل مكان من المنطقة أدخل السينما في مآزق حادّة لناحية نمط التلقي المطلوب وسطوة الجهات المنتجة والتي تبحث عن إعادة استناخ الصيغ المضمونة الرواج من أفكار ومواضيع.

حدّد هذا الواقع خيارات السينمائيين وجعل السير في طريق مختلف مخاطرة. فيلم "19 ب" يتحدّى المنطق العام اجتماعيا وسينمائيا، ليضيء على ما يسعى الجميع إلى إخفائه، إذ إنه يكشف عن تحول القسوة والاعتداء وغياب الرحمة إلى نظام عام  يسيطر على السلوكات ويوجهها. الدفاع عن الرقة والخصوصية لا يتناسب مع تلك الحاجة الفائضة إلى العنف والتي لا تكف الجماهير عن المطالبة بحلوله في كل شي. درجة الانسحاق التي وصل اليها الناس تجعلهم يبحثون عن الأبطال والمبالغات والانتصارات والتهريج وعاجزين عن مقاربة السينما الأخرى التي يعبر عنها فيلم 19 ب.

فهم الفشل التجاري لهذا الفيلم يبنى على هذه المعادلة الجديدة والتي تماثل في قسوتها الطاردة الرقة القاسية لموضوعه. لطالما كانت الأفلام التي تتبنّى خيارات خاصة عاجزة عن تحقيق الكثير من الأرباح، لكن المشكلة في استقبال الجمهور للفيلم تختلف لأنها تنطوي على حكم قيمة يننظر إليه على أنه مثير للرعب، لأنه يعكس الواقع ويخبر عن المصائر والأحوال.

 يصعب على المتلقي مهما كانت درجة ثقافته تجاهل درجة الشبه التي قد تصل إلى حدود التماثل بينه وبين شخصياته ومدى التطابق بين مجاله المكاني ومحموله الرمزي وبين الأحوال العامة. هناك سينما نخبوية تتبنّى خيارات إخراجية وبصرية وحوارية معقّدة وشائكة، لكن هذا الفيلم لا ينتمي إليها، إنه فقط مختلف ويقشّر القسوة المسيطرة ويدافع عن الرقة والهشاشة.

 

أزمنة المكان

يستمدّ حارس العقار صفته من المكان فيصبح هويته وحامل وجوده. يقيم في لحظة من لحظاته ويحاول دفعها إلى الاستمرار بينما غادرها المكان نفسه. تلاحق الكاميرا حالة من الإقامة الرحميه فيه، وكأن الخروج إلى العالم بمثابة صدمة الولادة ومغادرة الأمان المطلق والراحة لمواجهة حقائق العالم القاسية.لقاؤه به كان مأساويا على الدوام كما في لحظة خروجه إليه صارخا من الألم حين قتل الجيران كلبه بالسم.

 يحاول أن يعيد نسب المكان إلى أهله وأصحابه كمحاولة لإنشاء صلة قرابة ووصل معه وإقناع نفسه أن علاقته به تتسم بالتواصل والاستمرار وأن اختفاء مالكيه ليس سوى حالة انقطاع عابرة لا تؤثّر على معناه ولا على طبيعة العلاقة معها وشكلها.

في محاولته المستميتة لتأكيد هذا الأمر يصطدم بالأزمنة الجديدة كلها دفعة واحدة، ويبدو عاجزا عن فهمها واحتمالها. مالكو المكان لا يهتمون به ولا يريدون التواصل معه والمحامي الذي كان يشرف على أملاك العائلة يعرف ذلك منذ زمن والراتب الذي لا يزال يصله يدفعه له من جيبه الخاص من باب المجاملة والعطف.

يلتقط  نصر السايس الذي يؤدّي دوره الممثل أحمد خالد صالح العنوان وهو الذي كان قد باشر باختراق مجال الحارس ومقاسمته المكان وتحويله إلى مستودع  للاتجار بالخمور،  فيعرف أن السيطرة عليه باتت رهنا لمجال القوة والسطوة التي يملكها ويفتقد إليها الحارس.

حين انكشف الزمن الجديد للمكان والذي كرسه مشاعا وأفقده أموميته انتقل من موقعه  الخاص والمستقل ليقع في الشارع بكل سرعته وفظاظته والعلاقات التي تحكمه.

صار الحارس المنافح بكل ما أوتي من قوة عن فرديته، منتميا على الرغم منه إلى حشد مفتوح يمثل السايس ترميزه، ولا يملك أي خصوصية بل يجد نفسه، بما يملكه من بنيان نفسي وجسدي، عاجزا عن الدفاع عن حقه.

ينتهي الصراع بين الحارس والسايس بموت الأخير إثر سقوط صخرة على رأسه بالصدفة بعد أن كان قد شارف على حسم انتصاره على الحارس وامتلاك المكان.

تتّحد الخيارات المختلفة والمتناقضة في المصائر البائسة والحتمية. فلكل شخصية صخرتها التي تملك إرادتها الخاصة المنسجمة مع طبيعة من تمثله. صخرة السائس تقتله وصخرة الحارس تعذبه باستمرار فتعود دائما بعد أن يكون قد اعتقد أنه دفعها بعيدا، إنها صخرة رعبه التي  تنذر بأن ما يهرب منه سيلاحقه على الدوام ويهزمه.

 

الداخل والخارج

يتسم النظام الاجتماعي الذي أسّسته المدينة الحديثة بالعدوانية الطاردة، تتعزّز فيه سلطة الجماعات وتلقي بظلالها على الأفراد وتخترقهم، فيصبحون في كل أحوالهم ناطقين باسمها ومعبّرين عن مكنوناتها، البنية التي تسمها شمولية لا تمنح الفرد مكانة إلا بقدر تماهيه معها.  

تمارس القاهرة، مسرح أحداث الفيلم، سطوتها على الأفراد وتسحب منهم فرديتهم. يستعمل المخرج ثنائية الطرب والمهرجانات  لتصوير التناقض بين  مدينة انتفت تقيم داخل العقار ومدينة تتدفق في الخارج، واضعا عبد المطلب وأم كلثوم في مواجهة موسى سام ولوجان فليكس والراب.

 يتسم النظام الاجتماعي الذي أسّسته المدينة الحديثة بالعدوانية الطاردة، تتعزّز فيه سلطة الجماعات وتلقي بظلالها على الأفراد وتخترقهم، فيصبحون في كل أحوالهم ناطقين باسمها ومعبّرين عن مكنوناتها

ينتمي عالم الطرب إلى الصوت ويقيم مع المكان والفرد علاقة تبادل وتواصل. يخاطبه كحالة حرّة مستقلّة ويدعوه إلى تلقيه انطلاقا من خصوصية مشاعره التي لا يمكن لأي سلطة اختراقها وتفكيكها أو السيطرة عليها، فالمدينة المنبثقة من الطرب أليفة وشخصية ومرحبة تتحرّك وفق إيقاع متوافق مع توقيت قاطنيها. تلك المدينة هي التي يتمسّك بها الحارس ويحاول صيانتها مقابل مدينة جديدة تقدّم غناء لا ينتمي إلى عالم الصوت بل إلى حالة سطوة صورة تسيطر على الوجود الحديث وتطبعه.

في هذه المدينة لا تخاطب الأغنية المكان ولا الأفراد بل تغزوهم وتحتلهم. خطابها  ينشئ مشهدية صور متلاحقة ترتبط بعلاقات السرعة التي تمنع أي شي من التمركز. إنها نظام عرض متواصل ينفي السير ويدمّر الخصوصيات.

كل الأفراد على اختلاف العوالم التي قرروا الانتماء إليها والتعبير عنها لا يسيطرون على أقدارهم. السايس يكتب أسماء من ظلموه على قدمه لكي لا ينسى، يقرّر تبنّي القسوة والانتماء إلى عالمها، ولكنه لا ينجو ولا ينتصر. هو ليس شريرا أو طيبا، إنه المنتَج العام للمدينة الحديثة والعيش المعاصر وعلاقات السلطة والقوة التي تسود فيه. معركته الفعلية ليست مع حارس العمارة ولكن مع هامشيته، والحارس كان العقبة التي تحول دون التخلص منها.

 يؤدّي أحمد خالد صالح الدور ببراعة لافتة، راسما ملامح شخصية لا تخضع للتصنيف المعتاد، فالحرب التي تخوضها لا تنطلق منها بل تبدو مدفوعة إليها. إنها بنت حكاية نصر السايس التي يتركه السيناريو المتخفّف من الكلام يرويها لنعرف أن كل ما يقوم به مستقل عنه وخاضع لسطوة الحكاية التي حفرت بالألم مسار القسوة على جسده وروحه.

الحارس بدوره أسير حكايته، يسكن العزلة مؤمنا بقدرتها على منحه الأمان والحرية، لكن المكان الذي كان مسرحها الحميم يتحول في النهاية إلى قبر تحتله جثة غريبة تمثل عالما يصرّ على ساحق كل محاولات الفرار.

font change

مقالات ذات صلة