"سفاح الجيزة" رؤية طموحة لم تف بوعودها

إسراف الخيال يخلق قصة بعيدة عن الواقع

أحمد فهمي في سفاح الجيزة

"سفاح الجيزة" رؤية طموحة لم تف بوعودها

تصدّر مسلسل "سفّاح الجيزة" على منصة "شاهد" قائمة الأعلى مشاهدة، طوال حلقاته الثماني التي أجابت عن أغلب الأسئلة، في حين ظلّ بعضها معلَّقا.

اعتدنا على مشاهدة مسلسلات الجريمة الغربية التي تتمحور حول حياة القتلة والسفاحين، أما عربيا، فهذا نادر إلى حد ما. ومن عوامل الجذب الأكيدة إلى هذا النوع أن القضية المسماة إعلاميا "سفاح الجيزة" شغلت الناس في مصر، ولا تزال تشغلهم، ليس فقط لبشاعة الجرائم التي ارتكبها القاتل "بدم بارد"، ولا لقدراته على التلوّن كحرباء والعيش وسط مجتمعات وأناس متغيرين من دون أن يُكشف أمره، لكن كذلك للمفارقة الكامنة في ما قيل عنه بين الناس إنه مثال في الدماثة والشهامة والهدوء، والحقيقة أنه مثل حمل وديع كان يُخفي السكين بين الثياب.

مسلسلات الجريمة حسب استشاري الطب النفسي الدكتور نبيل القط يُمكن أن تكون وسيلة تسلية ذهنية بسبب ميل الإنسان الطبيعي إلى الموضوعات الغامضة، إذ تمنح المُشاهِد لغزا وتقوده عبر الحلقات الى حلّ هذا اللغز. لكنها، وهذا هو الأهم، يمكن أيضا أن تصير وسيلة معرفية تُلقي الضوء على الجوانب المظلمة من الطبيعة البشرية، وظروف المجتمع في حقبة معينة، وتأثير البيئة المحيطة بالأفراد على سلوكهم المستقبلي، وعوامل القهر التي يمكن أن تحرف الغريزة الإنسانية، وتجعل من إزهاق أرواح الآخرين عملا يوميا تافها. هنا يصير السؤال: كيف؟ كيف تُروى القصة الدرامية وبأي فكر وأسلوب؟

اللجوء إلى الخيال، مع التسويق للمسلسل باعتباره عملا عن "سفاح الجيزة" يخلق في طبيعة الحال إرباكا عند المشاهدين من ناحية، وتحديا أمام صنّاع العمل من ناحية أخرى، فلم يعد أمامهم إلا أن يتجاوزوا تشويق القصة الحقيقية وغموضها

في الذاكرة الجماعية يتمتع بمكانة خاصة مسلسل "ريا وسكينة"، الذي عُرض للمرة الأولى عام 2005، عن قصة سفّاحتَيّ الإسكندرية الحقيقيتين والشهيرتين. العمل الذي عُرض قبل نحو ثمانية عشر عاما من الآن، وينتمي أسلوبيا إلى نمط الدراما المصرية القديمة ذات الثلاثين حلقة قبل عصر دراما المنصات الجديدة المحدودة الحلقات، لا يزال يحقق نسب مشاهدة مرتفعة عند عرضه، وتتصدر بعض لقطاته وعباراته الشهيرة "الترند" على وسائل التواصل الاجتماعي بين آن وآخر، ليثبت أنه قادر على مخاطبة الجمهور الحديث حتى الشرائح الأصغر سنا بينهم والأكثر شبابا اليوم. في "ريا وسكينة" لم يسع المخرج جمال عبد الحميد، ولا مصطفى محرم الذي كتب السيناريو (عن كتاب مهم للمؤرخ والكاتب الراحل صلاح عيسى) لا إلى استعراض العضلات في التشويق، ولا إلى تمجيد القاتلتين أو على أقل تقدير منحهما قدرات خارقة. القصة كانت ولا تزال فاجعة بما فيه الكفاية.

شيء من هذا يظل عصيا على التحقق في قصة العمل الجديد "سفّاح الجيزة"، على الرغم من أن الإمكانات الإنتاجية المتاحة في حالته تتفوّق بمراحل على ما كان ممكنا لصنّاع الدراما قبل نحو عقدين. العمل الجديد "مستلهم" من قصة حقيقية، كما يقول صُنّاعه. لكن حتى قصة الاستلهام هذه تثير في طبيعة الحال إشكالية. لدينا قصة يمكن الاستماع إلى تفاصيلها من مجموعة من الرواة المتخصصين في تقديم محتويات الجريمة عبر يوتيوب، تتلخّص في أن ذلك المدعو قذافي– يا له من اسم! – قد تمكن من ارتكاب خمس جرائم قتل أربع منها ضد نساء بهدف معلن هو السرقة (مثل ريّا وسكينة)، ونجح في إخفاء جثث الضحايا وتقمص هوية قتيله، الرجل الوحيد بينهم، رفيق طفولته، وعاش هكذا بين الناس رَدَحا من الزمن، إلى أن أدّى خطأ صغير إلى الإيقاع به وكشف جرائمه.

الاستماع إلى قصة قذافي المرعبة يثير مجموعة من الأسئلة، الملهمِة دراميا بلا شك، مثلا: لماذا لجأ إلى القتل، على الرغم من أن هناك الكثير من اللصوص المحتالين الذين يسلبون أموال الآخرين ويكتفون بالهرب؟ لماذا كانت معظم الضحايا من النساء، وهنّ نساء تزوج منهن أو أقام معهن نوعا من العلاقة الخاصة؟ هل تحمل المسألة نوعا من الكراهية المضمرة؟ كيف يمكن أن تكون التركيبة النفسية لهذا "الوحش" الذي تُظهِر بعض التسجيلات وقوفه أمام القضاء وادعاءه أنه أُجبر على اعترافاته، منكرا كل التهم التي سبق واعترف بها؟

هذه بعض الأسئلة التي في وسع الدراما أن تجيب عنها. سواء بالبحث في القصة الحقيقية، والاستقصاء المباشر والحديث إلى أهالي الضحايا (لا سيما أنهم أحياء معاصرون)، أو بالاستناد إلى خيال المؤلفين لملء فراغات الواقع والخروج بصورة تدعمها تفسيرات الطب النفسي عن سلوك السفّاح.

هل أجاب "سفّاح الجيزة" عن هذه الأسئلة؟ أو على الأقل هل منح القذافي صوتا وجسدا، ولحما ودما، يتكشّف معه لغز كل من القاتل والمقتول في زمننا المعاصر؟ وإن لم يفعل المسلسل لا هذا ولا ذاك، فماذا فعل إذن؟

 

واقع أم خيال؟

مع بداية عرض المسلسل حرص صنّاع العمل، خاصة السيناريست محمد صلاح العزب وورشة التأليف التي ترأسها لكتابة العمل والمكوّنة من إنجي أبو السعود وعماد مطر، على تأكيد أن العمل مأخوذ من الحادثة الحقيقية لكنه لا يطابقها، واعتبر العزب أنه لا يصنع عملا تسجيليا كي لا يضطر إلى التزام الواقع. وعلى الرغم من أن كلام الكاتب يحمل مغالطة واضحة في ما يخص النوع التسجيلي، لأن المسلسل كعمل خيالي يقوم بالكامل على أداء ممثلين محترفين وإعادة خلق للديكورات إلى آخر العناصر، لا يمكن بحال أن يكون تسجيليا وإن روى قصة حقيقية. ولنا في "ريا وسكينة" غير التسجيلي على الإطلاق خير مثل، وكذلك في المسلسل الأميركي عن السفّاح الشهير "دامر"، الذي يتجلى في أكثر من مكان تأثر صنّاع "سفّاح الجيزة" بأسلوبه الفني.

من مسلسل سفاح الجيزة

ولعلّ  فريق المسلسل من المؤلفين والمخرج هادي الباجوري قرروا اللجوء إلى الخيال، فاختلقوا من قذافي شخصية جابر، ومن أساليبه في الاحتيال والتخفي، ظلال الشخصية التي أدّاها الممثل أحمد فهمي من يوسف ومحيي، وغيرها من تفاصيل، بدافع ربما من رغبة في التخفف من جهد البحث والتقصي في القضية الحقيقية. قد نخمّن أسبابا أخرى كصعوبة الوصول إلى معلومات مفصّلة من الجهات الرسمية في قضية معاصرة، أو حتى رغبة في الحفاظ على خصوصية حيوات الضحايا وأهاليهم. أيا يكن الأمر، فإن اللجوء إلى الخيال، مع التسويق للمسلسل باعتباره عملا عن "سفّاح الجيزة" يخلق في طبيعة الحال إرباكا عند المشاهدين من ناحية، وتحديا أمام صنّاع العمل من ناحية أخرى، فلم يعد أمامهم إلا أن يتجاوزوا تشويق القصة الحقيقية وغموضها.

 تجلّى الإشكال الدرامي في "سفاح الجيزة" مبكرا في التنقلات الزمنية المُربِكة، التي بدا معها أن صنّاع العمل مفتونون بالغموض من أجل الغموض، وليس ذلك الذي ينجم عادة عن التصاعد الدرامي للأحداث


 بدت الدقائق الأولى من "سفّاح الجيزة" واعدة. انسال المزاج العام للمسلسل مع الإضاءة والديكور والجو المهيب لشخصية نعرف أنها القاتل، لكنها أمامنا تولي عناية شديدة لطهي "صينية بطاطس في الفرن". ثم جاء رنين هاتفه المحمول بدعاء ديني يقاطع جلسته الهادئة إلى طاولة المطبخ ليشعل حماسة على وسائل التواصل الاجتماعي، لما في ذلك من مفارقة بين الوجه الحقيقي للسفّاح وقناعه، وانتهى المشهد به يُلقي نظرة أخيرة على جثة زوجته المحفوظة في الثلاجة.

لفتة اليد التي تداعب مفرش الطاولة، والرجل يتحدث عبر الهاتف، كانت وعدا آخر. فالمخرج الذي يطارد حركة كهذه، لا بد أنه يعرف كيف يحيط بشخصيته الرئيسة ويدقّق في كل صغيرة وكبيرة. صحيح أن نبرة صوت أحمد فهمي المصطنعة، في المشهد نفسه، كانت مخيبة إلى حدّ ما للآمال، إلا أن هذا ليس سوى الدخول، وإن أخذنا بالمثل القائل إن "الجواب يبان من عنوانه"، فحتى ذلك الحد كان المتن لا يزال محفّزا على المشاهدة.

بمشاهدة الحلقتين الأوليين (وكل حلقتين من السفّاح هما بمثابة وحدة درامية متكاملة)، تابعنا الأكوان الموازية التي يعيش فيها جابر وظلاه يوسف ومحيي: عالم المصنع الذي يديره بالنيابة عن المعلم سيد الطويل (الممثل صلاح عبد الله)، وعالم حياته الزوجية السيئة مع سلمى (داليا شوقي)، وهناك الأهم عالم والدته وهي شخصية محورية في العمل هانم (تؤدّي دورها ببراعة حنان يوسف)، وكذلك أكثر عوالمه المظلمة والإجرامية في حواراته مع أسيرته وشقيقة زوجته زينة (ركين سعد). ثمة أيضا عالم البحث البوليسي عن زينة المتغيبة وصديقتها هالة، حيث تبرز شخصية الضابط حازم (باسم سمرة)، تمهيدا للمطاردة بين الضابط والمجرم، التي ستشغل حيزا كبيرا من الحلقات المقبلة.

 

دوائر مغلقة

تجلّى الإشكال الدرامي في "سفّاح الجيزة" مبكرا في التنقلات الزمنية المربكة، التي بدا معها أن صُنّاع العمل مفتونون بالغموض من أجل الغموض، وليس ذلك الذي ينجم عادة عن التصاعد الدرامي للأحداث، وكذلك خيارهم في البقاء على السطح من كل خيوط القصة، الرئيسة منها والثانوية، لا سيما في حالة الدوران المستمر حول الشخصية الرئيسة جابر، من دون القدرة على النفاذ إلى عظم هذه الشخصية ولحمها، وكأننا أمام عقارب الساعة تشير إلى الخارج ولا تشير أبدا إلى نفسها، والنتيجة افقاد العمل سمة الوضوح. زد على ما سبق إقدام جابر على قتل عمته صباح (ميمي جمال) في نهاية الحلقة الثانية (هكذا سيبدو السفّاح أكثر تعطشا للدماء بلا شك)، وهو الفعل الذي جاء على حساب منطق الشخصية وتكوينها، إذ من المفترض أن عمته هي مَنْ تولّت تربيته في غياب أمه، وكانت تربطه بها علاقة طيّبة. هذا الارتباك دَفَع الكثير من المتابعين إلى البحث عبر الإنترنت عن القصة الحقيقية للسفّاح، في محاولة للسير وراء الأدلة، واستغلّت بعض المنابر الإعلامية هذا الهوس بالقاتل، وبدأت حملة تغطية جديدة لأخبار القضية التي لم تنته والقاتل الذي لم يُعدم بعد. على الرغم من أن المسلسل أصلا فضّل الابتعاد عن القصة الحقيقية.

بعدما شاهدنا ربع المسلسل تقريبا، بدا أنه يمكن الاحتفاظ بتفصيلة الطبخ بعد القتل، ولقطات اللحم النيئ التي تُوحي بأن السفّاح لا يقتل ضحاياه فقط بل ربما يأكل لحمهم. التركيز البصري على اللحم الأحمر، يُحيل على مسلسل "دامر" وكان فيه القاتل المتسلسل جيفري دامر مهووسا بالأحشاء الحيوانية والبشرية، وآكلا للحم البشر، وهو ما ليس حاصلا في حالة "سفّاح الجيزة". كذلك نستطيع الاحتفاظ بسطوة الأم هانم على ابنها جابر، والعنف المستعاد من شبابها، إذ نعرف أنها قتلت والد جابر أمام ناظريه صغيرا.

مع الحلقتين الثالثة والرابعة، ارتكب جابر المزيد من جرائم القتل، وطبخ المزيد من الطعام. تواصلت حواراته مع أسيرته زينة، التي يُعتقد أنها الوحيدة التي يُحبّ. تلك الحوارات تُعدّ الحجّة التي تبرر استغراق جابر في تذكّر حياته الماضية طفلا وتبرير جرائمه، وهي مسألة كان يمكن الاستغناء عنها تماما مقابل المشاهد التي استعرضها المخرج بالفعل، والمشاهد الاستعادية التي تبدأ الحلقة بها، لماذا إذاً، وعلى الرغم من هذه المباشرة، ظلت الشخصية بعيدة عنّا، لا يمكن تفهم دوافعها ولا تلمُّس دواخلها؟ بعكس ما يحدث عادة في هذا النوع من الدراما. انتهت الحلقة الرابعة بإرهاصات للصراع بين جابر/محيى والضابط حازم، وأُفرد لحازم وعلاقته المضطربة بابنه آدم مساحات أكبر، في نسخ تقريبي لشخصية الضابط التي أدّاها باسل خياط العام الماضي في مسلسل "منعطف خطر" من إنتاجات "شاهد" أيضا، والمنتمي كذلك إلى نوع الإثارة والجريمة. هي نفسها شخصية الضابط الذي يؤثر إخلاصه في عمله على دوره كأب، وهو وحيد بعد وفاة زوجته هنا، أو طلاقها منه في "منعطف خطر". في المقابل هُمّشت أو أهملت خيوط أخرى، أهمها على الإطلاق خيط العمة المقتولة التي لم يلفت موتها على ما يبدو اهتمام أحد، وكذلك خيط سيد الطويل أو صلاح عبد الله. وبات يُخشى على المسلسل من طغيان الكليشيه.

من مسلسل سفاح الجيزة

خرجنا من هاتين الحلقتين بتأكيد تميُّز عنصر الديكور واختيار الأماكن للمصمم إسلام البنا، داخل بيت الأم، أو في المقهى البلدي الذي يُدار لصالح الأم هانم. وكذلك الأزياء المناسبة تماما، التي أضفت واقعية على الصورة لريم العدل. فضلا عن موسيقى كريم جابر التي صنعت هوية خاصة للعمل.

 

 انتصار الكليشيه

في النصف الثاني من المسلسل، بدأت جرائم السفّاح الأولى تتكشّف سواء للمشاهد أو للشرطة، من طريق المشاهد الاستعادية (الفلاش باك)، وتطورت في اتجاه المزيد من احتدام الصراع بين جابر والضابط حازم. وإن كنا لمسنا في شخصية جابر نوعا من الذكاء ما كان من دونه يستطيع خداع كل أولئك الأشخاص وحتى أقرب المقربين إليه، طوال تلك الأعوام التي تتغيّر على الشاشة، فالسيناريست يقرّر فجأة أن يدفع الشخصية إلى التصرّف بغباء شديد، حين يقرّر جابر فجأة معاداة الضابط بخطف ابنه والمساومة عليه. نحن لا نعرف كيف تمت عملية الخطف. بدا الكثير من الحلول التي طرحها صُنّاع العمل في النصف الثاني لألغاز النصف الأول، آتية من خارج الدراما، وكأن مسلسلا مختلفا كان يجري في رأس المؤلفين والمخرج، غير الذي كنا نشاهده معهم بالفعل.

بدا الكثير من الحلول التي طرحها صنّاع العمل في النصف الثاني لألغاز النصف الأول، آتية من خارج الدراما، وكأن مسلسلا مختلفا كان يجري في رأس المؤلفين والمخرج، غير الذي كنا نشاهده معهم بالفعل

طوال ثلاث حلقات شاهدنا مطاردات مكررة رأيناها في عشرات الأفلام المصرية، إن لم يكن المئات. لا بد للشقي أن يقفز فوق سطوح بيوت البسطاء هربا من الضابط، وربما يقتحم بعضها وأهلها جلوس في أمان وسيبقون كذلك حتى نهاية المشهد. ناهيك عن الحيل الساذجة التي استُخدمت في كل مرة كان حازم فيها على وشك أن يُلقي القبض على جابر، الذي امتلك فجأة قدرات كبيرة وكأنه بطل خارق وليس قاتلا متسلسلا.

ما يثير الاستغراب أكثر، ذلك التفسير الهزيل للحالة العقلية للسفّاح من أنه فقط "شخصية سيكوباتية". كما جاء الكشف عن مسألة الهلوسات التي تراوده في علاقته بأسيرته زينة مرة أخرى وكأنه حل دخيل على الدراما، ذلك ببساطة لأن جابر بدا من البداية الى النهاية شخصية سطحية لا عواطف لها، وكان اعتماده الأساسي في تنفيذ جرائمه على مهاراته الاجتماعية وذكائه الشخصي. ما من مكان آخر في "سفّاح الجيزة" برّر هذه التفصيلة الخاصة بالهلوسات في عقل السفّاح، اللهم إلا رغبة صُنّاع العمل في إضافة المزيد من البهارات والحبكات، أو الانتقالات المفاجئة في الدراما.

ثم تأتي النهاية التي لا نعرف إلى أي شيء تنتصر، إن لم يكن لمجرد التبشير بجزء ثان من "السفّاح".

 

في الأداء

يبقى الحديث عن أداء الممثلين، وهي مسألة أخرى شغلت رواد مواقع التواصل الاجتماعي، طوال شهر عرض الحلقات. أولا الجدال الكبير حول أداء أحمد فهمي، وتفرُّق المتابعين بين مؤيد ومعارض لنبرة الصوت الناعسة تلك. لا بد من أن فهمي قد بذل جهدا كبيرا، للتحكم في نبرات صوته، وفي حركته الجسدية، منسقا بالتأكيد مع هادي الباجوري. لكن المشكل الكبير يعود إلى الكتابة السطحية للشخصية، والعجز البادي عن تأسيس عالم داخلي، يستطيع الممثل من خلاله فهم الشخصية أكثر.

في المقابل بدت شخصية الأم أكثر اكتمالا واتساقا، وتألقت حنان يوسف في أداء جانب الجبروت والقسوة الناتجة من حياة العوز والمهانة. ينطبق الأمر نفسه على دور زينة (أدتها الممثلة الأردنية ركين سعد)، فهي الشابة الطموحة التي دفعها عنف الأب إلى الانسياق الأعمى وراء وعود السفّاح. الشخصيات الأخرى بدت في أغلبها أقل تميزا على مستوى الكتابة، وبالتالي في تجسيد الدور على الشاشة، ربما باستثناء ريم حجاب في دور فادية. معظمها شخصيات أحادية تلعب دورا معينا ثم لا يعود لها في الدراما مكان، وهذا ينطبق على باسم سمرة، الذي لم يجد مساحة لإظهار قدراته التمثيلية بعكس أعماله الأخرى.

أما داليا شوقي التي هاجمها بعض المتفرجين على طريقة أدائها في مشهد اكتشافها حقيقة زوجها، فيبدو أنها قد تحمّلت فوق طاقتها من الهجوم، لأن هذه إحدى مسؤوليات مخرج العمل أن يقرّر ما إذا كان عليه أن يعيد تصوير المشهد، أم لا.

جاءت النسخة الخيالية من "سفّاح الجيزة" باهتة، مقارنة بوعوده الأولى، ومقارنة بالقصة الحقيقية التي تتفوّق في الرعب وحسن التدبير للأسف على إبداع المؤلف. لكن هذا لا يمنع أن النجاح الكبير الذي حصده المسلسل، يجعلنا نتساءل عن أسباب قلة إنتاج هذا النوع من مسلسلات الجريمة على الشاشات العربية.      

 

font change

مقالات ذات صلة