"وش في وش" يعيد المصريين إلى صالات السينما

نجاح جماهيري ومآخذ فنّية

(الشركة المنتجة)
(الشركة المنتجة)
أمينة خليل مع الأفيش

"وش في وش" يعيد المصريين إلى صالات السينما

القاهرة: يسمح ملصق فيلم "وش في وش" المعلّق أعلى الجسر، لأبطال الفيلم بإلقاء نظرة حائرة على شوارع القاهرة المكتظة، ويحرّضهم على محاولة لفت انتباه ساكنيها المتعجلين، لعلهم يحققون حلما مشروعا بأن يكون حظهم سعيدا من كعكة أفلام موسم صيف هذا العام، وهو الموسم الذي وصفه كثيرون بأنه مُحبِط من غير تجاوز للحقيقة. فالأفلام المعروضة حتى الآن بدت غير قادرة على إفتان الجمهور، ولا على تقديم جديد يبشر بمستقبل الصناعة.

لطالما شكّل الذهاب إلى دار العرض، طوال تاريخ السينما المصرية، إحدى النزهات المفضّلة للمصريين، على حد وصف الفليسوفة الفرنسية ماري- كلود بينار في كتابها "نزهة السينما". اليوم، صار إحدى النزهات القليلة المتاحة مع ارتفاع الأسعار والضغوط الاقتصادية المتزايدة.

كنتُ أنا أيضا أنظر إلى الملصق، يحدوني بعض الأمل، دون أن أستطيع التخلص من الشعور بالريبة. الأمل لأن البطولة الجماعية، كما يبدو من اصطفاف الممثلين على الملصق، قد تعني خلاصا ما للسينما التجارية من حالة التكلّس التي تسيطر عليها، وبدت بوضوح في الشهور القليلة الماضية، إذ لم نعدم حضور النجوم الكبار على الشاشة بأفلامهم ووعودهم، لكننا افتقدنا بشدة المشاهدة الممتعة التي نحتاج إليها في نزهات الصيف. الأمل أيضا جاء مما وشى به إعلان الفيلم، فالبطولة ليست جماعية فحسب، لكنها كذلك للموضوع لا للنجم، وهذا قد يُنقذ من فخ النرجسية العمياء للنجوم المهزومين في أفلام تتمحور حول شخصياتهم ومواهبهم. في الوقت نفسه وضع صانع الفيلم الأساسي – وهو مؤلف العمل ومخرجه وليد الحلفاوي – أمام نفسه، وأمام المتفرجين، تحديا صعبا، فالأحداث في الفيلم تدور في مكان مغلق، داخل بيت بأربعة جدران وشرفة، وكذلك خلال زمن محدد، يبدو أنه ليلة واحدة. هذا النوع من الأفلام جذاب بالطبع، وعادة ما يحبس الأنفاس، على شرط أن ينجح سعي صُنّاعه.

كانت القاعة شبه ممتلئة في الحفلة التي حضرت فيها "وش في وش"، وظل لافتا لي، حتى اللحظة الأخيرة التي أغادر فيها، حجم التفاعل الفوري مع الفيلم، لا سيما بالضحك

أما الريبة فمردها إلى أن الملصق، مع الإعلان والجو العام، يستدعي بلا جهد كبير عملا فنيا ناجحا آخر، شاهدناه منذ وقت قريب، ولم نتمكن بعد من نسيانه، هو مسلسل "الهرشة السابعة"، الذي عُرض في موسم رمضان الماضي. تؤدّي دور البطولة في "وش في وش" أمينة خليل، بطلة "الهرشة"، ومعها وإن لم يكن في الدور المقابل تماما، محمد شاهين، يؤدّي دور صديق زوجها وليس زوجها نفسه، فالأخير يؤدّيه محمد ممدوح. يكتمل استدعاء "الهرشة" عند معرفة موضوع الفيلم، وهو أيضا مشاكل المتزوجين ضمن شريحة معينة من الطبقة المتوسطة، وشبح الطلاق الذي يخيم على الزوجين.

ما الداعي إذن إلى أن يستند فيلم طموح إلى نجاح عمل يسبقه؟ ولماذا يوافق ممثلون اشتركوا في صناعة هذا، على بطولة الأدوار في ذاك؟ سؤال لم أعثر على إجابة كاملة عنه، لكن "وش في وش"، لحسن الحظ، انتهى بأن دفعه إلى آخر صف تساؤلاتي. لعلّ وليد الحلفاوي وجد في "الهرشة السابعة" إلهاما ما، ولعلّ التشابه محض مصادفة. عموما الفارق ليس كبيرا ما دمنا اشترينا التذكرة، وقرّرنا خوض المغامرة في السينما.

(الشركة المنتجة)
لقطة من الفيلم

حلّ "وش في وش" في المركز الثاني على شباك التذاكر في مصر، بعد الفيلم الكوميدي "العميل صفر". هذا على الرغم من أن "وش في وش" ليس فيلما عائليا، بسبب الإيحاءات الجنسية التي يُعتمد عليها في الإضحاك، وليس لأن الفيلم نفسه يناقش مسائل زوجية حميمة وحسّاسة مثلا. بمجرد الدخول إلى قاعة السينما، ومن دون الاطلاع حتى على أخبار الإيرادات، يمكن رؤية شغف أزواج شباب، يستعدون للمشاهدة. كانت القاعة شبه ممتلئة في الحفلة التي حضرت فيها "وش في وش"، وظل لافتا لي، حتى اللحظة الأخيرة التي أغادر فيها، حجم التفاعل الفوري، لا سيما بالضحك، مع الفيلم الذي يُعدّ اجتماعيا في الأساس، لكنه استطاع تحقيق هذا التأثير أكثر ربما من أفلام أخرى معروضة في الموسم نفسه، وأراد صُنّاعها لها أن تكون أفلاما كوميدية.

 

أجيال 

"وش في وش" بطولة مجموعة من الممثلين الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة هم: محمد ممدوح، أمينة خليل، أحمد خالد صالح، محمد شاهين، خالد كمال، بيومي فؤاد، أنوشكا، أسماء جلال، محمد شاهين، محمود الليثي، سامي مغاوري، دنيا سامي، وسلوى محمد علي. ومن المفترض أن هؤلاء يمثلون في الفيلم ثلاث فئات من الشخصيات، فضلا عن الزوج والزوجة داليا وشريف. هناك أولا أفراد عائلة كل منهما، تحديدا الأب والأم، أو الحموان بالنسبة إلى الطرف الآخر؛ سامي مغاوري وأنوشكا للزوجة، وشقيقها المتسرع أحمد خالد صالح، وبيومي فؤاد وسلوى محمد علي والدا الزوج. ثانيا قائمة الأصدقاء الذين يحضرون للتدخل في الشجار ويدلي كل منهم بآرائه عن منظومة الزواج، كمحمد شاهين وأسماء جلال. هناك ثالثا الشخصيات المهمّشة، وهي مهمّشة في الدراما، ومقارنة بالطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الزوجان، كشخصية الخادمة المقيمة شيماء والسائق كحول (دنيا سامي ومحمود الليثي). ففي حضورهما يصبح الشجار الزوجي مناسبة للشماتة الطبقية، وإبراز التناقضات النفسية التي يصنعها العوز وتفاوت الخلفيات الاجتماعية بين الأفراد.

يبدو حضور الفئة الثالثة تحديدا في "وش في وش" محاولة للإفلات من الانتقادات التي لاحقت "الهرشة السابعة" من أنه ركز حصرا على شريحة مرتفعة من الطبقة المتوسطة، التي لا يشكل المال بالنسبة إليها مشكلة كبيرة في الحياة، والذين يسكنون في المجمّعات السكنية المغلقة، أي باختصار مَنْ لا يُعبّرون عن حال أغلب أفراد الطبقة المتوسطة المصرية بمعاناتها في العلاقات وفي سوق العمل. يحاول وليد الحلفاوي أيضا أن يجعل من المال مشكلة في الحوار بين عائلة الزوجين، وسؤال مفتوح ومُقلق إذا ما وقع الطلاق الذي يُظهر الجميع، اللهم باستثناء الزوجين، متعجلين لوقوعه، لدوافع شخصية غامضة أحيانا أو بسبب لا مبالاة حيال علاقة داليا وشريف.

ومع أن الحلفاوي يقول ضمنا من خلال النقاشات الحادّة حول مقدار ما سيدفعه شريف لابنه الصغير من نفقات بعد الطلاق، وكذلك من خلال اعتراض شريف على بعض نفقات داليا التي يراها غير ضرورية، يقول إن الزوجين ينتميان إلى شريحة ليست مرتفعة كثيرا من الطبقة المتوسطة، وما يترتّب على ذلك من سهولة تماهي أفراد أكثر من الجمهور مع مشكلة الزوجين، إلا أن وجود خادمة مقيمة في المنزل، وكذلك طبيعة الديكور الداخلي الذي يتشابه مجدّدا مع ذاك الذي في "الهرشة السابعة"، يحيل على شريحة اجتماعية غير التي يشير إليها الحوار في الفيلم. مع الأخذ في الاعتبار، أن "وش في وش" لا يؤسس لواقع مختلف، بل يسعى إلى استخدام مفردات واقعنا الحقيقي ليخاطب جمهوره، أي أن الفيلم يناقض ذاته بشكل ما من هذه الناحية.

 

ظلال 

في سبيل ألا يُصاب الجمهور بالملل، وكي تكون رحلة الفرجة ممتعة كأقصى ما يمكن بين تلك الجدران والشرفة - بعد أن يتعرّض البطلان لمحنة تجبرهما على عدم مغادرة البيت، مما يضغط عليهما لإظهار أزماتهما النفسية التي قادتهما بالضرورة إلى الانوجاد وسط هذا المشهد/ المأزق - في سبيل ذلك ينوّع وليد الحلفاوي طرق السرد. فتارة نرى سبب الشجار من وجهة نظر داليا، وتارة نراه من وجهة نظر شريف. وهناك أيضا المعركة الطريفة التي تقع عبر مكالمة الفيديو بين محاميي الطرفين (لطفي لبيب وخالد الصاوي). بعض هذه الحيل التشويقية جاءت ممتعة شكلانيا، كالخدعة التي استعرضت دوران المفتاح في قفل الباب، تمهيدا للحادثة التي أدّت لاحقا إلى إغلاق الباب على الشخصيات داخل البيت.

 على الرغم من نجاح الفيلم في تخطّي العديد من مشاكل "الهرشة"، فإنه لم يستطع للأسف ألا يسقط في مأزقه الأكبر وهو التنميط الشديد لشخصيتي الزوجين اللذين تدور حولهما كل هذه الصراعات


ومع أن وليد الحلفاوي فضّل أن يبقى على سطح القصة، ولم يغص كثيرا في الدراما إلا بقدر ما يخلق فيلما تشويقيا خفيفا، جاءت الشخصيات الأخرى، لتضم ظلالا رمادية تتكشّف مع تطوّر الأحداث وتجعل من الصعب الحُكم عليها سلبا، وإن سقطنا في هذا الفخ في بداية الفيلم. هذه المساحات الرمادية في السيناريو سمحت لبعض الممثلين بالتألّق، ومنهم بيومي فؤاد في دور الأب العاقل للزوج، وهو يحمل عبء الإضحاك الأكبر في الفيلم، ويُهيأ إلينا أننا نراه هنا كأنه يؤدّي للمرة الأولى لأن الشخصية من لحم ودم، فهو إنسان طيّب، لكنها طيبة مدفوعة الثمن على حساب الذات كما بدا بعد ذلك، وهو صحافي لكنه ليس سيئ السمعة ولا زير نساء مثلما دأبت السينما على إظهار الصحافيين. ينطبق ذلك على شقيق داليا، الذي يؤدّي دوره أحمد خالد صالح، فهو الشرس الذي يتورّط في شجار بالأيدي مع صديق الزوج، ثم يبيّن لنا منه وجه ساذج مغلوب على أمره. وينطبق الكلام نفسه على الصديق البلطجي الذي يؤدّي دوره خالد كمال، إذ نكتشف لاحقا أن هذا الاستعداد للعنف ليس سوى قشرة خارجية.

 

تنميط

على الرغم من نجاح الفيلم في تخطّي العديد من مشاكل "الهرشة"، فإنه لم يستطع للأسف ألا يسقط في مأزقه الأكبر وهو التنميط الشديد لشخصيتي الزوجين اللذين تدور حولهما كل هذه الصراعات. أمينة خليل في "وش في وش" تبدو وقد بُعثت ثانية من "الهرشة"، بأحادية أبعاد الشخصية المكتوبة على الورق، مما جعل البعض يتهمها بتكرار الدور وطريقة الأداء، غير أن المشكلة في رأيي تكمن في الدور كما هو في السيناريو لا في تجسيده على الشاشة. كذلك محمد ممدوح، وهو ممثل موهوب لمع نجمه في فيلم "أبو صدام"، وكان دوره مركّبا ومُربكا في آن واحد. أما هنا، فهو مجرد زوج طيّب القلب يتعلّق بابنه، ونشعر أن الطلاق ظلم كبير وقع عليه من دون سبب جناه.

(الشركة المنتجة)
لقطة من الفيلم

هذه مشكلة أخرى في فيلم المركز الثاني، أننا لا نعرف حقا ما أصل الصراع بين الزوجين، إلا إن كان "وش في وش" كما "الهرشة السابعة" يميل إلى تعميم نظرة سوداوية على منظومة الزواج بشكلها الحالي، لكنّ العملين يعجزان بشدة عن تفكيك المنظومة أو مساءلتها بعمق، وإنما يكتفيان بالسخرية منها وتسخيفها لنضحك عليها.

لهذا ربما جاءت نهاية "وش في وش" مفتعلة إلى حدّ ما، ولا علاقة فيها للمقدّمات بالنتائج، بل بما يريده منها صانع الفيلم، وما ينبغي أن تكون عليه. والأمل أن يعثر صنّاع الأفلام التجارية المقبلة في مصر، على إلهام ما من تجربة "وش في وش"، ويواصلوا ما انتهى إليه. لأن كل هذه المآخذ على الفيلم لم تمنع أن المشاهدين في السينما، يخرجون منشرحي الأسارير بعد الفرجة، راضين عمّا شاهدوه. لم يخب أملهم في النزهة، لمرة نادرة وعزيزة، هذا الموسم.   

font change

مقالات ذات صلة