من الصعب معرفة كيف تُدار العلاقة بين قادة حركة "حماس" في الداخل والخارج، وكيف تُحل الخلافات حال حدوثها، وكيف يتم تأمين الاتصالات في ظل تقنيات التجسس فائقة الجودة التي يستخدمها الجيش الإسرائيلى وأجهزته الأمنية، علاوة على المعلومات الاستخبارية التي يحصل عليها من بعض حلفاء إسرائيل في الغرب. فقد ظل السؤال عن كيفية إصدار الحركة قراراتها في ظروف بالغة الدقة مُثارا على مدى أكثر من عام، وخاصة منذ بداية المفاوضات الهادفة للتوصل إلى اتفاقات لتبادل الأسرى ووقف إطلاق النار.
ويُثار هذا السؤال مجددا بناءً على ادعاء وسائل إعلام إسرائيلية أن محمد السنوار، الذي كان يُعتقد أنه صاحب القرار النهائي في الداخل منذ اغتيال شقيقه يحيى، تم اغتياله خلال اجتماع عُقد إثر حدوث خلاف على إطلاق سراح الأسير الأميركي-الإسرائيلي عيدان ألكسندر في منتصف مايو/أيار.
وبغض النظر عن صحة هذا الادعاء من عدمه فهو يجدد التساؤل عن طبيعة التفاعلات داخل الحركة التي فقدت عددا كبيرا من قادتها وكوادرها، وصارت في وضع حرج في ظل الحصار المطبق المفروض على قطاع غزة وحرمان أهله من المساعدات إلا فيما قل حجمه وضعف أثره. كما تحتاج الحركة في الوقت نفسه إلى اتخاذ قرارات بشأن مشاريع الصفقات التي تُعرض على قادتها في الخارج وتستدعي مشاورات مع قادة الداخل، وتحديد تصور تفصيلي لدورها في الفترة المقبلة، ولمستقبل قطاع غزة كما تراه.
وعند محاولة الإجابة عن سؤال اتخاذ القرار في "حماس" لا بد من ملاحظة وجود خلاف داخل المجموعة القيادية الضيقة في الخارج والتي شُكلت بالتزامن مع تعيين يحيى السنوار رئيسا للمكتب السياسي العام للحركة عقب اغتيال إسماعيل هنية في آخر يوليو/تموز 2024. واختير أعضاؤها بناء على مواقعهم التنظيمية. إذ ضمت رئيس مجلس الشورى العام محمد درويش ورئيس المكتب السياسي للحركة في الضفة الغربية زاهر جبارين ونائب رئيس مكتبها السياسي في قطاع غزة خليل الحية والمسؤول عن قطاع الخارج أو الشتات خالد مشعل. والخلاف بين بعض هؤلاء القادة سابق على هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، لأنه يرتبط بمستوى العلاقة مع إيران وخاصة فى حالة تعارضها مع غيرها. ولكن الظروف العصيبة التي تحيط بها من كل جانب فرضت على أعضائها التعاون رغم الخلافات بينهم. ويبدو أن رئيسها محمد درويش، الذي لا يُعرف عنه الكثير خارج الحركة، تمكن من خلق حالة من التجانس النسبي بين أعضائها بحكم خبرته في العمل في الظل رئيسا لمجلس الشورى العام إلى جانب مسؤوليته عن عمليات تمويل الحركة.
من الطبيعي أن تكون هناك خلافات بين بعض قادة الداخل أيضا بعد استشهاد يحيى السنوار وعدم وجود شخصية كبيرة أخرى تخلفه، ومن ثم تعدد المشاركين في اتخاذ القرارات
ومن الطبيعي أن تكون هناك خلافات بين بعض قادة الداخل أيضا بعد استشهاد يحيى السنوار وعدم وجود شخصية كبيرة أخرى تخلفه، ومن ثم تعدد المشاركين في اتخاذ القرارات. وبمقدار ما تكون الرؤوس متساوية، يكون حسم الخلافات أكثر صعوبة. ولكن إذا صح أن محمد السنوار أُغتيل، ومعه قائد لواء رفح محمد شبانة، ربما يصبح قائد لواء غزة عز الدين الحداد في موقع يتقدم غيره من القادة ويُمكَّنه من حسم الخلافات حال وقوعها واتخاذ القرار.
واضح، إذن، حجم المأزق الذي يواجه الحركة ونوعه أيضا كونه يتعلق بمستقبلها أو بالأحرى مصيرها. وربما يجوز القول إنها تقف الآن أمام اختيار أكثر من صعب بين أن تضحي بنفسها، أو بما ومن بقى في قطاع غزة. وتزداد صعوبة هذا الاختيار بمقدار ما يتواصل صمت المجتمع الدولى وهشاشة ردود الفعل المتأخرة التي تصدر من بعض الدول والتكتلات، ومن ثم ازدياد تشبث حكومة نتنياهو بعدم التوصل إلى أية صفقة إلا باستسلام حركة "حماس". ويُقصد بهذا الاستسلام خروج أبرز قادتها من قطاع غزة وتسليم أسلحتها. ويريد نتنياهو أن يكون هذا الاستسلام واضحا على طريقة رفع الراية البيضاء بحيث يراها الجميع في العالم، ليتمكن من تحقيق ما يسميه "النصر المُطلق".
ويعني هذا عدم الاكتفاء بما صارت "حماس" مستعدة له، وأبلغت الوسطاء قبوله، وهو التخلي عن حكم قطاع غزة وتسليمه إلى اللجنة المهنية التي اقترحت مصر تشكيلها تحت اسم لجنة الإسناد المجتمعي. كما تفيد معلومات غير مؤكدة بأن بعض قادة الحركة باتوا مستعدين لبحث تسليم أسلحتها إلى دولة عربية في حالة الاتفاق على هدنة طويلة الأمد لخمس أو عشر سنوات مثلا. ولكن ما يتطلع إليه نتنياهو هو استسلام لا تقوم للحركة قيامة بعده، رغم أن تطلعه هذا لا يستند إلى وقائع ميدانية. فمن يتابع المعارك الصغيرة التي تحدث حتى الآن في قطاع غزة يعرف أن "حماس"، والمقاومة عموما، لم تُهزم فى الميدان بشكل كامل، وأن ما يهزمها هو الحصار الخانق والتجويع وتدمير مقومات الحياة وتنامي آلام أهل القطاع وعذاباتهم. ويعني هذا أن تقبل "حماس" الاستسلام التام دون أن تُرغم على ذلك في ميدان القتال الفعلي، وهو ما لا تقدر عليه أية حركة مقاومة.
ومع ذلك ربما تضطر "حماس" للخضوع فى مقابل وقف تدمير ما بقي في قطاع غزة، والحفاظ على إمكانات إعادة إعماره، ووقف خطة تهجير أهله. ولكن تحقق هذا الاحتمال يتوقف على إدراك قادة "حماس" أن خروجها من المعادلة بات إلزاميا، وأنه لا يعني انتهاء المقاومة، بل يضع نهاية لمرحلة قد يكون لها ما بعدها إلا إذا حدث تقدم باتجاه الحل السلمي أو حل الدولتين. كما أن الأسلحة التى يمكن أن تسلمها هي في معظمها من صنع مهندسيها الذين يوجد مثلهم وأكثر في فلسطين. وإذا افترضنا إقدام "حماس" على خطوة كبرى بحجم قبول تسليم أسلحتها، فالأرجح أن يكون فى مقابل الحفاظ على دورٍ ما لها في الخريطة السياسية الفلسطينية، ولكن ليس في حكم غزة. ويتطلب هذا، إن حدث، ليس فقط تسليم الأسلحة، ولكن أيضا حل "كتائب القسام" والتحول إلى حزب سياسي قد لا يكون له دور مباشر في ترتيبات الأوضاع في اليوم التالي للحرب، ولكنه قد يصبح مؤثرا بدرجةٍ ما في هذه الأوضاع لاحقا.
وربما تكون هذه المقايضة بين حضور سياسي ودور عسكري هي الحل الوحيد أمام حركة "حماس" إن أرادت البقاء بشكل ما. ولكن هذا الحل يتطلب توافقا كاملا أو شبه كامل بين قادتها الأساسيين في الداخل والخارج، وقبول الباقين من قادة "كتائب القسام" الكبار وأعوانهم. فهل تحدث هذه المقايضة وتختفي "كتائب القسام" وتصبح "حماس" حزبا سياسيا، أم ترفض وتخاطر بمواجهة مخاطر أكبر، أم يحدث انقسام غير مسبوق في داخلها حال تضيق الخناق عليها؟ ثم هل تقبل حكومة نتنياهو أن يكون لـ"حماس" أي دور سياسي- مهما يكن صغيرا- مقابل تسليم أسلحتها وخروج بعض قادتها من غزة؟ أسئلةٌ ترسم إجابة كل منها بعض ملامح المستقبل الفلسطيني، وليس مستقبل حركة "حماس" أو مصيرها فقط.