الأرواح أداة لاستنطاق المسكوت عنه في أحدث روايات سليم بركات

"استئجار الأشباح" شعر متنكر في هيئة نثر

سليم بركات، 1980

الأرواح أداة لاستنطاق المسكوت عنه في أحدث روايات سليم بركات

ينتمي سليم بركات (من مواليد مدينة القامشلي السورية عام 1951) إلى فئة الكتاب الذين يتجاوزون مجرد كتابة النص، إذ يبتكرون اللغة من جديد. فمنذ بداياته الشعرية، مرورا بتجربته الروائية الغنية، اتخذ من اللغة حقلا للتجريب والتفكيك، ومن الهوية موضوعا للنبش والتأمل المستمر، بعيدا من التثبيت والجمود.

ينأى بركات بنفسه عن الانتماء إلى مدرسة محددة، ويبتكر عوالمه الخاصة، المفعمة بالأسطورة والتاريخ والطفولة والمنفى. وتتسم أعماله بكثافة لغوية عالية، وتداخل سردي يتجاوز المفهوم التقليدي للرواية، ليصوغ ما يشبه "أنساق الوعي" على الورق.

في عمله الروائي الأحدث "استئجار الأشباح"، الصادر عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت (2025)، يواصل بركات مشروعه السردي المغاير، حيث تتحول الكتابة إلى مختبر لغوي وفلسفي يستقصي حدود الهوية والغياب والتمثيل، فيشيد عالما سرديا متعدد الطبقات، تتقاطع فيه الأجناس الأدبية وتتداخل، وتنهض اللغة بوصفها بطلا أساسيا نابضا يشكل جوهر الحكاية ويوجه مسارها. ينصت إلى النص كما ينصت إلى نفس كائن غريب يعيد تشكيل الوجود في كل جملة. في هذا السياق، لا تلاحق الحبكة بقدر ما يستقبل النص ككشف متواصل للكينونة، حيث تتحول الأرواح أداة لاستنطاق المسكوت عنه، ويغدو الغياب مادة روائية مكثفة تعري السلطة والتاريخ وشبح النسيان.

محاكاة كائن حي

في هذه الرواية، ثمة نص يحاكي كائنا حيا يتحرك في الظل، ينحت المعنى من الغياب، ويؤرخ لما لم يحدث، لكنه لا يتوقف عن التكرار في المخيلة الجمعية. إنها رواية عن الأرواح، تقاربها من منظور كوني دقيق يعيد طرح الأسئلة الجدلية حول الوجود والسلطة والذاكرة والمحو، مبتعدة عن قوالب "الرعب" و"الغموض" المعتادة.

تدور أحداث الرواية في منعطف زمني بالغ الحساسية: الانتقال من الألفية الثانية إلى الثالثة، وتحديدا في "الصيف الأول من العام الأول في الألفية الثالثة، المنتسبة قياسا إلى عمر إله بشري قتل ولم يقتل". تنطلق الرواية من لحظة عبور كونية تتقاطع فيها الهواجس الفردية مع التحولات الشاملة، وتبدأ من قبو واسع تسكنه يانتيل، التي تجمع تسع نساء لتبادل النبوءات ومراودة الزمن تحت تأثير حشيشة الكيف، في طقس أشبه بالتجلي الطقوسي لوعي مهلوس. تندفع الشخصيات في تخيل عالم ينقلب فيه الزمن، وتتحرك فيه الذاكرة الجماعية كبنية حسية متحولة، حيث "كل عمق سيغدو ضحلا، وكل ضحالة ستغدو عمقا"، وتغدو "ذاكرة الإنسان ذاكرة كل شيء وكل حي آخر".

رواية عن الأرواح، تقاربها من منظور كوني دقيق يعيد طرح الأسئلة الجدلية حول الوجود والسلطة والذاكرة والمحو

تتقاطع الفكرة المركزية للرواية، المتمثلة بـ"الكاتب الشبح"، مع البنية الميتافيزيقية للنص: الغياب، المحو، استئجار الكلمات، وانتحال الهويات السردية.

أرواح تمشي في اللغة

تتجلى الشخصيات في "استئجار الأشباح" كظلال تكتب نفسها بنفسها داخل ضباب كثيف من المعنى والغياب. أ. دهر، أحد الأصوات الأساسية في الرواية يتجاوز دور الراوي أو الشبح، ويغدو تجسيدا للوعي المتشظي، كائن ينبض بكثافة فكرية، ويؤدي دور الضمير السارد والساخر والمراقب في آن واحد. كذلك، تتوالى الشخصيات الأخرى خالية من الملامح الاجتماعية المحددة، في هيئة تمويهات رمزية تظهر وتختفي كومضات على صفحة الزمن المهشم.

غلاف رواية "استئجار الأرواح" لسليم بركات

في هذا العالم، تطرح الهوية كسؤال مستمر، لا كقيد ثابت، والشخصيات ليست أدوات تحريك لحدث بقدر ما هي تجسيدات لفلسفة الرواية العميقة: كائنات من قلق، من هشاشة، من بحث أبدي عن معنى وجودي مهدد بالاندثار. ما يكشف عنهم ليس أفعالهم أو مساعيهم، إنما ما "هم عليه" في جوهرهم، بما يتردد في أعماقهم من رعشات تساؤل ومخاوف وخيبات، وهو ما يجعلهم أكثر صدقا وشاعرية من الشخصيات المشروحة بالتفصيل التقليدي.

في هذا المعنى، تبدو شخصيات بركات كأنها جزء من الطبيعة نفسها: طيور مفقودة في عاصفة، أوراق تتقاذفها ريح الزمن، أو أشباح تكتب مصائرها مباشرة في لحم اللغة. من هنا، فإن قراءة هذه الشخصيات تتم عبر الإصغاء العميق إلى نفسها الداخلي، إلى رعشة وجودها وسط عالم يفقد معناه شيئا فشيئا.

أرشيف حي للغياب

"بيت أبي كير" يقدم ككائن قائم بذاته، وليس كمجرد فضاء روائي، يحمل ذاكرته، ويخفي داخله ما لا يقال. يتحول المكان إلى بطل سردي، تنعكس فيه الأرواح وتتشابك مصائرهم فيه. البيت يحتضن الأرواح، يحتجزها، يراودها، ويعيد تشكيلها داخل طقوس لا تنتمي الى عالم الأحياء. هو عمارة للوجود المعلق، وفخ روائي متقن لصوت الغائب.

تطرح الهوية كسؤال مستمر، لا كقيد ثابت، والشخصيات ليست أدوات تحريك لحدث بقدر ما هي تجسيدات لفلسفة الرواية العميقة

في هذا البيت، تتكثف الذاكرة الجمعية المهملة، ويغدو المكان وسيطا سرديا يكشف تاريخا غائبا، مهربا عبر الجدران والنوافذ والسلالم. المكان هنا حدث، لا مسرح.

لا يمكن الدخول إلى عوالم بركات دون وعي بجماليات أسلوبه المختلف، فهو يكتب كتلا لغوية مضيئة تتلوى وتنكسر وتنفجر من الداخل، استعاراته طاقة تزلزل المعنى، وكل جملة هي مقطع موسيقي من سمفونية غير مكتملة، تتدفق، تتراجع، تتلعثم، لكنها دائما تبعث قشعريرة الفهم.

الجملة عند بركات تفكر، اللغة كائن يكتب، لا مجرد ناقل، وهذا ما يجعل قراءته تمرينا حسيا وفلسفيا، فكل كلمة تطرح لتعاش، وكل معنى يرتج دون أن يشرح.

سليم بركات

تبدو الأشباح، في ظاهرها، ككائنات خرافية، غير أن سليم بركات يوظفها كأدوات تحليل رمزي للسلطة، والاقتصاد، والسيطرة. "الأرواح المستأجرة" تجسد العالقين بين الموت والحياة، وتشير في الوقت نفسه إلى الإنسان المعاصر المعلق بين قبضة السلطة وشبح النسيان، بين تاريخ مسروق وحق مهدور في التمثيل.

تنخرط الرواية في نقد خفي لمنطق الامتلاك، امتلاك الأرض، والذكريات، وحتى الموتى أنفسهم. في عالم تختزل فيه الكينونة إلى سلعة، تطرح الرواية السؤال الفادح: ماذا يتبقى من الروح عندما يتحول الغياب إلى صفقة؟

الأرواح المستأجرة" تجسد العالقين بين الموت والحياة، وتشير في الوقت نفسه إلى الإنسان المعاصر المعلق بين قبضة السلطة وشبح النسيان

تتجاوز الرواية حدود النوع الأدبي التقليدي، فهي رواية تتكون من فسيفساء سردية تنصهر فيها المقاطع الفكرية والتدوين الغرائبي، والسيرة المحورة، والقصيدة المتخفية. هذا التداخل ينتج شكلا جديدا للقراءة، يوجه الانتباه إلى الصوت بدل الحبكة، وإلى الرجفة الداخلية للكلمة بدل العقدة. وهكذا، يبدو سليم بركات، يكتب من خارج التصنيفات السردية المعهودة، ويعيد اختراع الرواية بوصفها عملا حرا، منفلتا، وخطرا في آن واحد، "كل عمق سيغدو ضحلا، وكل ضحالة ستغدو عمقا كل ثانية من الوقت. ستكون ذاكرة الإنسان ذاكرة كل شيء وكل حي آخر: ذاكرة المعدن، وذاكرة الصخر، وذاكرة الحيوان، وذاكرة النبات، في دورة من التعاقب كل ثانية. ستكون الثانية الزمنية سياقا بلا خصائص: الزمن وما يكونه، والزمن وما لا يكونه، هما جوهر أوحد في القادم من الألفية الثالثة".

في ضوء مشروع بركات

منذ "الريش" (1990) و"فقهاء الظلام" (1985)، مرورا بـ"الجندب الحديدي، سيرة الطفولة" (1980) و"السلالم الرملية" (2007)، انشغل سليم بركات بإعادة خلق اللغة كحاضنة للهوية والمنفى. لكن "استئجار الأشباح" تمثل ذروة هذا المشروع. فهي الأكثر تجريدا والأشد انسحابا من المرجعية الواقعية، والأقرب إلى الكتابة الكونية التأملية.

سليم بركات، 1986

تشكل ذروة لغوية وروحية في مساره، لا مجرد انتقالة، "إدارة الغضب كإدارة الحروب، يا إيكولا، تلزمها براعة الهدوء"، يقول بركات.

في قلب الانهيارات السورية، حيث أصبح الإنسان شبحا حرفيا، تكتب الرواية صوت الغائبين، ليس لتأبينهم، ولكن لإعادة حضورهم في لغة لا يمكن محوها. تشكل "استئجار الأشباح" استجابة جمالية للتحولات، ومقاومة ميتافيزيقية في وجه المحو. تؤمن الرواية بأن الأرواح، وإن محيت من السجلات، تظل قابلة للاستدعاء في جملة، في اسم، في رعشة يحركها السرد.

يبلور بركات مشروعه السردي، المرتكز على استعادة الغائب وإعادة تشكيل المعنى في عالم يتآكل فيه الثبات ويتوارى فيه اليقين

هي رواية تنبع من الأرواح وتكتب بلغتها، نص يشبه الممر بين الحياة والمحو، بين الإدراك والعمى، بين الحضور الكامل والغياب الفادح. يضع بركات القارئ في متاهة تدربه على الإصغاء إلى الحفيف، بعيدا عن الصوت المباشر والفهم الجاهز.

تنتهي الصفحات، وتبقى الرواية معلقة في الجملة الأخيرة، في الرجفة التي تخلفها، وفي الأسئلة التي تواصل انفتاحها. في "استئجار الأشباح"، يبلور بركات مشروعه السردي، المرتكز على استعادة الغائب وإعادة تشكيل المعنى في عالم يتآكل فيه الثبات ويتوارى فيه اليقين. تتجنب الرواية الانغلاق على تأويل بعينه، وتبقي أبوابها مشرعة لاحتمالات فهم متعددة لا تحدها نهاية. تتجلى كنص يقيم في القارئ ويمنحه مساحة للتورط الوجودي، نص يعاش بكل ما فيه من ارتدادات، لا يمر عليه القارئ مرورا عابرا.

رغم تواري صاحب "الجمهرات" خلف لغته، يمسك بخيوط الواقع عبر مجازات حية تحاكي مآزق الإنسان المعاصر، الضياع، التهجير، فقدان المعنى، ومحو الفرد في آلة السلطة. تشكل "استئجار الأشباح" إضافة متقدمة في مسيرته، تمثل ذروة جديدة في خريطة إبداعه، وتذكرنا بأن الرواية قد تكون شكلا من أشكال الإنصات العميق إلى ما لا يقال. إنها كتاب عن العابرين في الذاكرة، وعن الشخصيات التي لم تمنح فرصة الوجود الكامل، فكتبهم بركات بلغته كي يبقوا في السرد، وفي الروح.رواية عن الأرواح، تقاربها من منظور كوني دقيق يعيد طرح الأسئلة الجدلية حول الوجود والسلطة والذاكرة والمحو

font change

مقالات ذات صلة