ينتمي سليم بركات (من مواليد مدينة القامشلي السورية عام 1951) إلى فئة الكتاب الذين يتجاوزون مجرد كتابة النص، إذ يبتكرون اللغة من جديد. فمنذ بداياته الشعرية، مرورا بتجربته الروائية الغنية، اتخذ من اللغة حقلا للتجريب والتفكيك، ومن الهوية موضوعا للنبش والتأمل المستمر، بعيدا من التثبيت والجمود.
ينأى بركات بنفسه عن الانتماء إلى مدرسة محددة، ويبتكر عوالمه الخاصة، المفعمة بالأسطورة والتاريخ والطفولة والمنفى. وتتسم أعماله بكثافة لغوية عالية، وتداخل سردي يتجاوز المفهوم التقليدي للرواية، ليصوغ ما يشبه "أنساق الوعي" على الورق.
في عمله الروائي الأحدث "استئجار الأشباح"، الصادر عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت (2025)، يواصل بركات مشروعه السردي المغاير، حيث تتحول الكتابة إلى مختبر لغوي وفلسفي يستقصي حدود الهوية والغياب والتمثيل، فيشيد عالما سرديا متعدد الطبقات، تتقاطع فيه الأجناس الأدبية وتتداخل، وتنهض اللغة بوصفها بطلا أساسيا نابضا يشكل جوهر الحكاية ويوجه مسارها. ينصت إلى النص كما ينصت إلى نفس كائن غريب يعيد تشكيل الوجود في كل جملة. في هذا السياق، لا تلاحق الحبكة بقدر ما يستقبل النص ككشف متواصل للكينونة، حيث تتحول الأرواح أداة لاستنطاق المسكوت عنه، ويغدو الغياب مادة روائية مكثفة تعري السلطة والتاريخ وشبح النسيان.
محاكاة كائن حي
في هذه الرواية، ثمة نص يحاكي كائنا حيا يتحرك في الظل، ينحت المعنى من الغياب، ويؤرخ لما لم يحدث، لكنه لا يتوقف عن التكرار في المخيلة الجمعية. إنها رواية عن الأرواح، تقاربها من منظور كوني دقيق يعيد طرح الأسئلة الجدلية حول الوجود والسلطة والذاكرة والمحو، مبتعدة عن قوالب "الرعب" و"الغموض" المعتادة.
تدور أحداث الرواية في منعطف زمني بالغ الحساسية: الانتقال من الألفية الثانية إلى الثالثة، وتحديدا في "الصيف الأول من العام الأول في الألفية الثالثة، المنتسبة قياسا إلى عمر إله بشري قتل ولم يقتل". تنطلق الرواية من لحظة عبور كونية تتقاطع فيها الهواجس الفردية مع التحولات الشاملة، وتبدأ من قبو واسع تسكنه يانتيل، التي تجمع تسع نساء لتبادل النبوءات ومراودة الزمن تحت تأثير حشيشة الكيف، في طقس أشبه بالتجلي الطقوسي لوعي مهلوس. تندفع الشخصيات في تخيل عالم ينقلب فيه الزمن، وتتحرك فيه الذاكرة الجماعية كبنية حسية متحولة، حيث "كل عمق سيغدو ضحلا، وكل ضحالة ستغدو عمقا"، وتغدو "ذاكرة الإنسان ذاكرة كل شيء وكل حي آخر".