يستجيب الثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج في معرضهما "ذكرى النور" الذي يستضيفه "متحف سرسق" في العاصمة اللبنانية بيروت حتى الرابع من سبتمبر/ أيلول 2025 لعناصر التفكير "الجذموري". وكان الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز ورفيقه فيليكس غواتاري ابتكرا ذلك المفهوم في كتاب "ألف هضبة: الرأسمالية والفصام" بهدف إنشاء نسق فكري يناقض البنى السائدة في التفكير الغربي المنحاز للتقسيمات الهرمية والتقابل الثنائي ومحاولة إنشاء منهج جديد للبحث المعرفي وعلاقة الجمهور بالعمل الفني. فالجذمور يعني في أصله نوعا معينا من النباتات التي تنمو أفقيا تحت التربة، ويمكن أن تنتج تفرعات انطلاقا من أي نقطة فيها.
يدافع هذا المفهوم الذي يتبناه الفنانان عن فن لا ينطلق من مركز محدد ويعادي التركيبات الهرمية ويقوم على التواصل والتشعب واللاخطية والتعددية. إنه كما يفسره دولوز، فكر الاتصال والتداخل والتعدد، وليس فكر التدرج والمركزية والانغلاق.
يقدم معرضهما فنا يلتقط اللحظة العابرة ويبحث عن علاقات غير مباشرة بين الأحداث ويتجنب التفسيرات المحكمة والنهايات، ويحرص على إشراك المتلقي في بنية العمل عبر نظام علاقات تفاعلي. يستوعب التناقض والتشظي والانفتاح على الاحتمالات ويدمج مؤثرات بصرية وصوتية مختلفة ويوظف مجالات هندسية وأركيولوجية لبناء نظام علاقات جدلي وإشكالي مع التاريخ والحاضر والذاكرة والذات والمكان، فيبدو كل شيء خاضعا لنظرة تسائله وتكشف عن الكامن والمجهول فيه والاحتمالات اللانهائية لقراءته.
يجمع معرض "ذكرى النور" أعمالا تضم خلاصة نتاج الفترة من 2016 إلى 2025 ويشمل تجارب بصرية ومنحوتات وتجهيزات فنية في 14 قسما تتبع جميعها منطق ملاحقة الغائب والمنسي والاحتمالات الرحبة الكامنة والغزيرة التي تولدها علاقات الضوء والمكان والذاكرة والحدث.
التاريخ ليس مجرد تسلسل خطي منتظم، طبقة فوق طبقة، بل هو على العكس، قصة تتخللها قفزات وانقطاعات
تتلاقى في المعرض أصداء كثيفة قادمة من تشابك عناصر متباينة، تخضع لسطوة الضوء بما هو كشف ومساءلة وتوضيح وتبدد وتلاش وإعادة إنتاج وترميز في الآن نفسه. تطرح أسئلة الجغرافيا القلقة والماضي الدائري والمستقبل السحيق الذي قد يكون عبر أمامنا من دون أن نلتقطه، وتنفجر كذلك فكرة النسيج والحفر والتراكم والمسح كنظام علاقات مقترح مع الذاكرة والخريطة وكذلك مع الذات التي يصر الفنانان أن مرجعياتها دائمة الاتساع بقدر ما في العالم من خصب ورحابة.
هذا حوار مع الثنائي الفني حول معرض "ذكرى النور"، توحد فيها صوتهما للتعبير عن أبعاد عملهما المشترك.
الأثر والتاريخ
تحفران في طبقات الأرض بحثا عن ذاكرة غير مروية. هل الزمن في أعمالكما أثر محسوس أم فجوة نعيش فيها؟
تقوم علاقتنا بالتاريخ على مشاركة عميقة. لفهم هذه العلاقة، وفهم هذا التاريخ، نحن بحاجة إلى الزمن الطويل وإلى الزمن القصير، وإلى الكثير من التفاصيل والشكل، وإلى الصورة الكاملة. وهذا بالضبط ما نحاول أن نتحدث عنه، كيف يمكننا أن نفهم تاريخنا، كيف أننا، في كامل حياتنا، نحاول من خلال أعمالنا أن نعود إلى الطريقة التي يكتب بها هذا التاريخ، كيف تبقى الذاكرة، وكيف تتحول تخيلاتنا إلى شيء قد نصبح في لحظات رهائن له؟ وكيف يمكننا أن نتحرر منه؟
جوانا حاجي توما وخليل جريج
حين اكتشفنا هذه العلاقة بين الأثر والتاريخ، اكتشفنا شيئا أجمل بكثير مما كنا نعمل عليه. تبين لنا أن التاريخ ليس مجرد تسلسل خطي منتظم، طبقة فوق طبقة، بل هو على العكس، قصة تتخللها قفزات وانقطاعات. وفي بعض المواضع، إذا حفرت في الماضي، يمكنه أن يسبق الحاضر، ويصبح الحاضر أعمق من الماضي.
هل تريان أن التكسير، بدل أن يكون مجرد فعل هدام، يمكن أن يكشف إمكانات جديدة لإعادة التفكير في المدينة والتاريخ؟
ما دفعنا الى العمل في ذلك الوقت هو شعورنا بأن هناك مشكلة في علاقتنا مع الماضي، مشكلة تمنعنا من عيش حاضرنا. وكنا نقول دائما: إذا كنا نعاني من مشكلة في السيرة، فكيف نروي القصة؟ إن مشكلتنا هي في التاريخ ذاته، وهذا ما دفعنا إلى الكتابة.
كنا نؤمن أن العنف والحروب التي عايشناها، كانت تمنعنا من كتابة التاريخ. لكن هذا التدمير سمح أيضا بتكوين معرفة حول ما هو موجود تحت الركام. كل هذه الآثار التي نتحدث عنها، موجودة في أماكن اندلعت فيها الحروب، ولكن حيث توجد مشاريع إعمار، هناك تكسير لما كان موجودا قبلها. وهذا التكسير، يسمح في الوقت نفسه ببناء معرفة جديدة، ويعيد تشكيل الصورة التي كانت لدينا عن المدينة وعن التاريخ الذي نملكه.
الحدث والغياب
الضوء في عنوان المعرض ليس حضورا بل استدعاء. ماذا يعني "تذكره"؟ هل هو تعويض عن غياب لا يمكن استعادته؟
الغياب له أشكال متعددة. هناك غياب قد نظنه غيابا، لكنه في الحقيقة حضور كامل. هناك أشياء موجودة، مثل الأشباح، لا تراها، لكن في ظروف معينة يمكنها أن تظهر مجددا. فنحن مثلا صورنا في المتحف الوطني خلال فترة انقطاع الكهرباء، وقد قرر المديرون في تلك الفترة أن يبقوا المبنى مفتوحا ليستطيع الناس رؤيته. وكان هذا الفعل أيضا نوعا من المقاومة، أو الصمود في وجه المحو. وفي الوقت نفسه، عندما تضيء، أنت تخلق أيضا مساحات من الظلام، حيث يمكن الأشباح أن تظهر مجددا. نحن نستدعي الضوء ليعود.
نعيش في زمن كثيف الظلمة، ولكن هناك ضوء، وهذا ما نحاول إظهاره. القصص المدفونة تعاود الظهور. نضيء عليها مجددا، نعيد تذكر الصورة التي نسيت، نعيد المدينة المطمورة إلى السطح. وهناك أيضا ضوء نبقى نتذكره، حتى في أكثر الأوقات قسوة. والشعر أيضا يؤدي دورا في ذلك.
في أعمالكما تغيب الصورة الصادمة لصالح الأثر الهامس. ما الذي يمكن التلميح أن يقوله أكثر مما تقوله الوثيقة؟
لم يكن هدفنا البحث عن الصدمة، فنحن لسنا صحافيين. الصحافة، غالبا، تهتم بالحدث الآني، أو مباشرة بعد وقوعه. أما نحن، فاهتمامنا ينصب على السؤال حول كيفية استخدام الصورة، وأين ستعرض، وكيف سيتلقاها الجمهور ويتفاعل معها.
القصص المدفونة تعاود الظهور. نضيء عليها مجددا، نعيد تذكر الصورة التي نسيت، نعيد المدينة المطمورة إلى السطح
أعمالنا تحتاج إلى زمن مختلف، إلى وقت لا يشبه لحظة الصدمة. الصدمة مرتبطة بالحدث. نحن لا نقول إننا نرفض فكرة الصدمة، بل ننتقل منها إلى مكان آخر. نحن مجبرون على الذهاب إلى ذلك المكان، لأن الصور التي لدينا اليوم، لا يمكننا أن نقول عبرها ببساطة "اصبر، لا بأس". نحن نكافح كل شيء، ولكن ماذا نفعل بعد ذلك؟ كيف نكمل؟ كيف نستمر؟
عالم ما بعد الانفجار
بعد انفجار بيروت، كيف تغيرت علاقتكما بالأشياء، بالأرشيف، بالعرض؟
كنا نسكن في منطقة محددة، فما الذي بقي؟ ما الذي اختفى؟ لقد خسرنا الاستوديو، وخسرنا البيت، وكان ذلك صعبا جدا. بالتأكيد، تغيرت علينا الأماكن كثيرا. انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس/ آب أظهر لنا، وللكثيرين منا، أن هذه الصدمة كانت كبيرة جدا، واستغرقت وقتا طويلا ليس فقط لفهمها، بل للاستمرار بعدها.
معرض "ذكرى النور"
لقد فقدنا استوديو العمل الخاص بنا، وكان ذلك الاستوديو يحتوي على الكثير. لكن، بالطبع، لم تكن الخسائر مادية فقط. بل بدأت تطرح أفكار حول الصورة، وحول العمل الفني، كأشياء تشبه الأجساد البشرية، تشبه الأبنية، تشبه جغرافيا المدينة. جميعها تتأثر. وهذا التأثير لا يزال في داخلنا.
المواجهة والحداد
هل المتحف مكان للمواجهة أم مساحة للحداد؟
المتحف مساحة مشتركة، مكان للقاء بالزمن وبالمكان. وربما هو الفسحة الوحيدة التي نتمكن من خلالها من خلق معنى. بمعنى أننا نخلق السياسة. نحن نقول إننا من نصنع السياسة، وليس السياسيون وحدهم. نعود إلى المجتمع، لأن المجتمع هو الذي يعود ليبحث عن الأحاسيس المشتركة، هو الذي يعيد خلق المعنى، وبلورة التأثيرات المشتركة، والعلاقة مع التاريخ والمكان. وهذه أمور لا يمكن أن تحدث إلا في هذا النوع من المساحات العامة. سواء كان المتحف أو غيره من الأماكن العامة، حيث نستطيع أن نعيش تجربة جماعية.
هل ما تصنعانه اليوم هو فن ما بعد الكارثة؟ أم فن يحاول القبض على لحظة ما قبل الانهيار؟
نحن، إذا أردت الدقة، نعمل في علاقة مباشرة مع الحدث. نعمل على الحدث نفسه. وهذا بحد ذاته نوع من المعرفة. نعمل اليوم على الحدث، وعلى الزمن، وإذا كانت هناك ثوابت، فنحن نعمل عليها أيضا. لكننا لا نرى أنفسنا ضمن خانة "فن ما بعد الكارثة". الفن، بالنسبة إلينا، يجب أن يفكر في التاريخ، ويجب أن يفكر أيضا: ما الصورة التي نريد أن نعطيها عن الحالة؟ وعن "الميميزيس" (مصطلح يعني المحاكاة)، أي التشابه، الذي نخلقه مع واقعنا. إذا فكرت في المجتمع، فهو مجتمع يحمل "ميميزيس" خاصا به. لا يمكننا أن نعرف ما إذا كانت الكارثة كارثة فعلا. الكارثة هي الزمن، هي كيفية تأثيرها على الصورة، على السيرة، على الطريقة التي نروي بها الحكاية.
استخراج الأشباح
يشكل التفكير في العلاقة بين الجمال والخراب عنوانا عريضا لمشروعكما. هل الجمال عندكما خلاص فردي أم شكل من أشكال المقاومة؟
علينا أن ننتبه إلى فكرة الجمال. لا يمكننا تجميل الأمور، لأن هذا يتعلق بنظرة حرمنا منها كثيرا. هناك جمال في الآثار، كما يمكن أن يكون العكس أيضا. الجمال لا يعني أننا نبحث عن شيء معين، بل قد يكون في قلب الدمار. لا نعتقد أن في هذا المعرض "خرابا". بل فيه "آثار". آثار لخراب أحيانا، وآثار لغير ذلك أحيانا. لكنه أيضا يحتوي على آثار تاريخية موجودة هنا، ترتبط بزمننا نحن. ونرى أن الآثار أكثر أهمية من الخراب. هناك ما يبقى، وهذا الشيء الذي يبقى هو ما نحتفظ به. أحيانا يكون ما نحتفظ به خرابا، وأحيانا يكون شيئا آخر. أحيانا تكون العلاقة مع الشعب. في كل مرة، هناك شيء مختلف.
المجتمع هو الذي يعود ليبحث عن الأحاسيس المشتركة، هو الذي يعيد خلق المعنى، وبلورة التأثيرات المشتركة، والعلاقة مع التاريخ والمكان
والجمال ليس هو الهدف الأعلى. الأهم أن تخلق شيئا جديدا، أن تكون في حالة ابتكار دائم. بالنسبة للفن، يجب أن تضع نفسك، أو تصور، أو تعرض، بطريقة مختلفة. لا يجب أن تكتفي بإعادة شيء موجود. بل يجب أن تفكر: ما الذي يشبهني؟ ماذا أفعل هنا؟ ما هو بحثي الفني؟ ما هو البحث أصلا؟ إذا كنا نتحدث عن التاريخ، فنحن في الحقيقة نحفره. نظهر كل ما هو موجود، من أشباح، لكن لا نتوقف عندها فقط. نستخرج الشعر، نستخرج الأشباح.
ما يولد فجأة
هذا الخواء، أو الفراغ، الذي تتحدثان عنه، هل هو في الحقيقة مجموعة من "التنهدات"؟ هناك تنهدات فرح، تنهدات حزن، تنهدات عنف... كلها تختلط. هل هذا ما تحاولان إظهاره في المعرض؟ هل هذه الطبقات التي تريدان إيصالها؟ طبقات التاريخ، التراث، الشعر، والإنسانية؟
نعم، نحن نريد أن نظهر هذا التعقيد. لم نعد نحاول أن نبني صورة متكاملة أو مغلقة عن أنفسنا. يجري في توقيت معرضنا "مؤتمر آمار"، وهي مجموعة تعمل على الفن والموسيقى، وتبحث في مفهوم "الطرب". والطرب ليس نوعا موسيقيا فقط، بل هو علاقة مع الموسيقى.
معرض "ذكرى النور"
لا يمكنك أن تعرف مسبقا متى سيحدث الطرب. هو ليس علما. يمكنك أن تجمع العناصر، وتجهز حفلة، لكن لا طرب فيها. وفجأة، تجد الطرب يأتي دون مقدمات. حتى لو لم يكن الصوت جميلا، يمكن أن يولد الطرب. الطرب يأتي من مكان ما، من توتر ما، من علاقة حية. وهذا ينطبق على الشعر أيضا. ليس دائما الشاعر العظيم يكتب القصيدة. الشعر يظهر فجأة، في لحظة، في ثانية، ويختصر كل الوضع الذي تعيشه. نحن أيضا، في هذا المعرض، نتحدث عن الشعر بطريقة مختلفة. نستخدم الشعر لمواجهة الحاضر. هذا الشعر يساعدنا، يفتح لنا المجال، يوسع الأفق.
والشعراء هم الأشخاص الذين يستخدمون اللغة بطريقة تجعلهم قادرين على فتح أعيننا على صور كاملة، غامضة، تظل مخفية. وكل واحد منا، في موقعه، يكمل الشعر بطريقته الخاصة. ولهذا أعتقد أن الشعر موجود لمساعدتنا في مواجهة كل تلك المسائل التي تحدثنا عنها.
مدن بلا صور
تتنقلان بين مدن مثل بيروت وأثينا وباريس. هل هذه الجغرافيا المجزأة تمثل هوية مركبة؟ أم أنها فضاء للتجريب لا للانتماء؟
نعم، عملنا على المدن التي كانت لنا علاقة بها، خصوصا المدن الفرنسية التي عشنا فيها. نشتغل، إن شئت الدقة، على المخيلة وليس على الواقع المباشر. ولكن بالنسبة إلينا، المخيلة أيضا هي جزء من الواقع، أو بالأحرى، هما متداخلان. ولهذا نعتقد أنه من المهم الجمع بين الوثيقة والتخيل. التخيل في أحيان كثيرة يستخرج من الوثيقة، عندما تنظر إلى حجر، تنشأ لديك حالة تخيل، تتصور أن هذا يعود إلى الحقبة العثمانية، أو إلى البيزنطية، وتبدأ في إعادة تركيب أفكار سابقة عن مدينة تعيش فيها، لكنك لم تفهمها بعد.
الأمر شبيه بالبحر الذي تراه كل يوم، ولم تسأل نفسك ماذا يخفي وراءه. في الفيلم الذي أنجزناه، تناولنا المرحلة العثمانية، حيث كانت المدينة موجودة فقط في الذاكرة. ربما تستطيع من خلال ذلك بناء علاقة مع مكان لم تولد فيه، ولكنك تحاول خلق هذه العلاقة.
المفاجأة تفتح بابا لابتكار معنى جديد، وصورة جديدة، أو حتى علاقة جديدة مع العالم
على سبيل المثل، كان جدي يروي لنا قصصا عن المدينة، كان يتحدث طوال الوقت عنها. ولكننا لم نرها، لم نرها أبدا، حتى في مخيلتنا. أعتقد أن هذه المدينة، شيئا فشيئا، تتحول إلى مدينة بلا صور، مدينة موجودة فقط عبر الحكايات، حيث لا تعرف إن كانت حقائق أم لا. أحيانا يروي لنا أشخاص قصصا شاهدوها أو سمعوها أو مروا بها، ونحن لم نر شيئا منها. نحن لا نعرفها، ولكننا نكون عنها تصورا.
المكان والسرد
كيف يفكر الفن في الوطن، خصوصا عندما لا يكون الوطن مجرد جغرافيا، بل يصبح حكاية، وسردا؟
الفن يفتح أبوابا، يكتشف طبقات، قد تكون جميلة، وقد تكون مؤثرة، وقد تكون شعرية. ولكن، بالنسبة لي، يجب ألا يكون الشعر منقطعا عن السياسة. ليست السياسة اليومية بالمعنى الحزبي، بل السياسة بمعناها العميق: كيف تؤثر فكرة ما على وجودنا؟ كيف تصوغ المدينة هويتنا؟ كيف نكون نحن أعضاء منها؟ وكيف نعود لنروي قصصها ونكمل بناءها؟
في أعمالكما، نرى تداخلا بين الفيلم، والتركيب الفني، والوثيقة، والقصيدة. هل هذا اختيار جمالي، أم أن الوسيط الواحد لم يعد كافيا؟
أحيانا تبدأ بفيلم وثائقي، ثم يتحول إلى تركيب، ثم إلى قصيدة، ثم إلى عمل بصري. لا يوجد خطة مسبقة. نحن نبدأ بالتساؤل، ولا نعرف إلى أين سننتهي. عملنا على الصواريخ "مشروع بطاقات بريدية من الحرب"، وعلى سوريا، وعلى حكايات شخصية. دائما نبدأ من السؤال، وإذا لم يكن هناك سؤال، لا يوجد عمل. لحظة انعدام التساؤل هي لحظة الانتهاء.
معرض "ذكرى النور"
هذا التساؤل، في بعض الأحيان، يجعلك تستيقظ كل يوم بشيء جديد. أوافق على فكرة أنه لا يوجد الآن مرجعية محددة. نحن نعيش في عالم متشظ، ولذلك، لا يجب على العالم أن يتبع خطا واحدا، بل أن يحاول إعادة تركيب نفسه، انطلاقا مما يعيشه ويشاهده. أثر الفن لا يكون دائما لحظيا. قد ترى العمل اليوم، وبعد أسبوع يتفاعل معك بشكل مختلف، وربما بعد سنة أو سنتين، يظهر تأثيره.
خصوبة التعدد
اشتغلتما مع الشعر، ومع الغواصين. ما أهمية التفاعل مع مجالات متعددة ومختلفة بهذا الشكل الكبير؟
الاشتباك مع مجالات متعددة يمنحك فرصة لولادة شيء جديد. هذا التداخل لا يولد فقط تنوعا، بل يخلق لحظات من المفاجأة، ومن خلال هذه المفاجأة، قد تجد شيئا آخر لم يكن في الحسبان. المفاجأة تفتح بابا لابتكار معنى جديد، وصورة جديدة، أو حتى علاقة جديدة مع العالم من حولك. لذلك، لا نرى في تعدد الحقول تشتيتا، بل مصدرا للخصوبة.
لمن توجهان أعمالكما؟ من تخاطبان في النهاية؟ من هو المتلقي؟
نحن لا نوجه أعمالنا إلى شخص محدد. حين تصنع عملا فنيا، فأنت تضعه في العالم، ولا تدري إلى أين ستصل رسالته. ترسل الرسالة، لكنك لا تعرف من سيتلقاها، من سيفتحها، من سيقرأها، ومن قد يعيد إرسالها الى شخص آخر. العمل يخرج منك، لكنه لا يبقى لك. هو يسير وحده، يصنع مساره، وقد يفاجئك بمن يصل إليه. وهذه المفاجأة جزء من معنى أن تخلق فنا: أن تتفاجأ بمن تأثر، بمن فهم، بمن حمله إلى أبعد مما تخيلت.