متى يهدأ "غضب الأهالي"؟

متى يهدأ "غضب الأهالي"؟

استمع إلى المقال دقيقة

في مسرحية زياد الرحباني "شي فاشل" التي عرضت في واحدة من أحلك مراحل الحروب اللبنانية، يكتشف أهالي القرية التي تدور فيها أحداث المسرحية (أو المسرحية داخل المسرحية)، أن "الغريب" قد سرق "الجرة" فيقفون موقف تحد.

تطلّب الموقف المذكور أن يبدل الممثلون ثيابهم لتتلاءم مع هول جريمة السرقة وارتدوا ملابس تناسب الظرف، ما دفع المنتج إلى الاحتجاج من أن "غضب الأهالي كلف عشرة آلاف ليرة" وهو مبلغ باهظ في أوائل ثمانينات القرن الماضي. فشراء ملابس جديدة للوقوف موقف تحد "للغريب" الذي يمثل في المخيال السياسي القروي اللبناني (السائد حتى اليوم) كل من لا ينتمي إلى المجال الطائفي– الجهوي الضيق، إفراط في الإنفاق على شيء غير مفهوم، من وجهة نظر المنتج وهو تاجر أقمشة رغب في تجربة حظه في الإنتاج المسرحي، وفوق ذلك، هو لا يعرف ماذا في هذه "الجرة" التي استدعت سرقتها، غضبا مكلفا على هذا النحو.

هوية "الغريب" في السياسة اللبنانية التقليدية متقلبة. حينا هو المسلم أو الفلسطيني أو السوري أو حتى المسيحي الذي لا ينتمي إلى نطاق الزعامة المحلية. تماما مثلما تشير صفة "الانعزالي" إلى المسيحي واليميني والمؤيد للغرب وكل من يخرج عن خطاب قومي– بعثي– إسلامي– يساري، ترك إرثا من العداء لكل مظاهر الدولة اللبنانية واستقلالها وسيادتها.

أسلوب التفكير الذي أدى إلى خسارة "الحزب" في حرب خريف 2024، لم يتغير ولم يرتق إلى مستوى استيعاب خسارته الآلاف من مقاتليه وكامل قيادته والقسم الأكبر من عتاده العسكري

وربما لم ينتبه "حزب الله" والناطقون باسمه إلى أنهم بدفعهم مؤيديهم لاعتراض دوريات قوات الأمم المتحدة العاملة في لبنان "اليونيفيل" التي تتجول في مناطق عملها في الجنوب، يكررون اعتراض "الأهالي" في مسرحية الرحباني، وبكلفة تفوق كثيرا ثمن الثياب الجديدة للممثلين. 
وتصاعدت حالات اعتراض "الأهالي" لدوريات "اليونيفيل" بعد حرب يوليو/تموز 2006، عندما زاد مجلس الأمن الدولي صلاحياتها وعزّز عديدها، طالبا منها منع انتشار مسلحي "حزب الله" جنوب نهر الليطاني. وتحول "غضب الأهالي" الموالين لـ"الحزب" إلى حالة شبه أسبوعية حيث يجري اعتراض الدوريات الدولية كلما حاولت المرور في قرية ما لم تكن قد نسقت مع الجيش اللبناني الذي يبلغ "حزب الله" بدوره عن قرب مجيء دورية دولية. بعض الحالات أسفرت عن صدامات لم يتردد فيها الأهالي من استخدام السلاح كما حدث يوم قتل عنصر من القوة الأيرلندية على يد أحد مؤيدي "حزب الله".  
بعد الحرب الأخيرة، استأنف "الأهالي" عادتهم القديمة وراحوا يوقفون الدوريات التابعة للأمم المتحدة لتدور مناوشات لفظية وجسدية لم تستخدم فيها القوة القاتلة بعد. لكن الأمور قد تتجه نحو مسار وخيم العواقب إذا لم تتدارك الدولة اللبنانية– أولا- ما يجري. 
وجلي أن الممارسة هذه تعكس عدم قدرة بيئة "حزب الله" على الاعتراف بأبعاد الهزيمة التي حلت به وعجزها عن التسليم، أمام نفسها في المرتبة الأولى وأمام كل اللبنانيين- الذين ترى فيهم أعداء متربصين- ثانيا، أن الحاجة ماسة اليوم إلى حضور دولي فاعل في جنوب لبنان لمنع تجدد العدوان الإسرائيلي خصوصا وسط موجة من الشائعات عن اتفاق بين حكومة بنيامين نتنياهو والولايات المتحدة على إنهاء دور "اليونيفيل" في لبنان. 
عدم القدرة والعجز هذان يشيران، بدورهما إلى أن أسلوب التفكير الذي أدى إلى هزيمة"الحزب" في حرب خريف 2024، لم يتغير ولم يرتق إلى مستوى استيعاب خسارته الآلاف من مقاتليه وكامل قيادته والقسم الأكبر من عتاده العسكري. وأن الاعتقاد بإمكان إعادة بناء القدرات العسكرية في ظل رقابة إسرائيلية برية وجوية على لبنان، لا ينتمي إلى عالم الواقع. بل هو أقرب إلى الأوهام وتضليل المؤيدين البسطاء واللعب على عواطفهم التي حطمها عنف الهجوم الإسرائيلي. 

يبدو أن البيئة و"الأهالي" و"الحزب" يريدون الشيء ونقيضه في وقت واحد. وليتحمل كل اللبنانيين ثمن أخطائهم، مثلما تحملوا كارثة "حرب الإسناد"

من هنا، تشبه فكرة استعادة القوة العسكرية السابقة، "الجرة" في مسرحية الرحباني: لا أحد يعلم ما الذي كانت تحتويه ولا كيف يمكن استعادتها إذا لم تتحد القرية ضد "الغريب". وهذه كلها عوامل غير متوفرة في "قرية" لبنان الحالي.
وقد يبدو محقا التساؤل عن معنى تشابه موقف "الأهالي" الرافض لنشاط القوات الدولية مع الموقف الإسرائيلي المعترض دائما على وجودها. وبغض النظر عن الأدوار الاقتصادية والصحية والتنموية التي تؤديها "اليونيفيل" في مناطق عملها، فإن الخسارة الكبرى في حال انسحبت، ستكون في تجريد لبنان من المدخل إلى الشرعية الدولية والبقاء وحيدا في مواجهة السياسة الإسرائيلية العدوانية. 
وإذا كان "حزب الله" وأنصاره لا يرغبون في استئناف القتال ولا يستطيعونه لأسباب معروفة، وهو غير مؤهل عسكريا لاسترجاع التلال الخمس التي ما زالت إسرائيل تحتلها، وليس لديه أية مقومات للعودة إلى ما كان عليه قبل 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فإن ذلك كله لا يمنعه من الاعتراض على أي دور لـ"اليونيفيل" لا يمر تحت إشرافه، مع إدراكه أن اتفاق وقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، الذي وافق عليه "الحزب" وفوّض حليفه نبيه بري بالتوقيع عليه، انطوى على الكثير من النقاط التي تمنعه من التحرك جنوب الليطاني وتعلق كل نشاط مسلح يقوم حتى إشعار آخر، خلافا لما يقول المتحدثون باسمه. 
مع ذلك كله، يبدو أن البيئة و"الأهالي" و"الحزب" يريدون الشيء ونقيضه في وقت واحد. وليتحمل كل اللبنانيين ثمن أخطائهم، مثلما تحملوا كارثة "حرب الإسناد". 

font change