الرواية التي تقض مضجع الحراس

الرواية التي تقض مضجع الحراس

استمع إلى المقال دقيقة

من لوكيوس أبوليوس صاحب "الحمار الذهبي"، إلى جيمس جويس صاحب "يوليسيس"، في كلاسيكيات النصوص السردية الكبرى حول المدن، من منطلق تخييلي صرف، يمتد ويتشعب تاريخ مثير من الصدام بين الرواية كعمل فني تخييلي، وبين محفل التلقي الذي يمرر خيط ما يقرؤه من عين إبرة أخلاقية صرفة.

على هذا النحو جوبه هؤلاء من طرف حراس هذه المدن، بموجة تنديد هائلة ذات نزوع أخلاقي ركيك في العلن، لكنها تحمل ضغائن مستعرة في المضمر، في حالة لوكيوس أبوليوس، نجد تجاسره التخييلي على مدينة هيباثا مثلا، وهو ليس منها، ما أثار حفيظة من ينصبون أنفسهم أوصياء عليها، من علية أهلها حتى رعاعها، فكان التنديد والتهديد هو رد الفعل في الزوبعة الأخلاقية التي لحقته، حد تفاقم المتابعة في نصوص أخرى، بل في تجربة حياته، طعنا في زواجه من سيدة تنتمي إلى أعيان المجتمع، بلغ أوار نارها أن حوكم في قضية شهيرة، بادر إلى الدفاع فيها بشجاعة عن نفسه كمحام، في ما يسمى قضية دفاع صبراتة، واستطاع أن يفحم من رفعوا القضية ضده بتهمة السحر.

والشيء نفسه بصورة من الصور، لكن في نسق معاصر، تكبده جيمس جويس، في حالة مدينة دبلن، بعد نشره لنصه الروائي المطول، ذي التعقيدات الدامغة، "يوليسيس" المثير، في مجلة "ذي ليتل ريفيو" الأميركية، وكانت المضاعفات على غير المتوقع. حملة أخلاقية ضده، انتهت بمحاكمة شهيرة حرضت عليها جمعية نيويورك لقمع الرذيلة بتوجيه تهمة الفحش ضد محررتي المجلة مارغريت أندرسون وجين هيب. وقس على ذلك عشرات الروايات التي خلدت أكثر، لهذا السبب وذاك، مثل وصمة الفحش في "مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير، و"المخرج الأخير إلى بروكلين" لهوبرت سيلبي جونيور، و"المختل الأميركي" لبريت إيستون إليس، و"لوليتا" لفلاديمير نابوكوف، و"مدار السرطان" لهنري ميلر.

في المسرد العربي نجد نماذج لاذعة، لروايات شقية، أو سير/روائية، لاقت ذات المصائر السوداوية والكاريكاتيرية في آن، من حراس هكذا مدن، مثلما حدث مع "وليمة لأعشاب البحر" للروائي السوري حيدر حيدر إزاء مدينة عنابة الجزائرية، وسيرة "الخبز الحافي" لمحمد شكري إزاء مدينة طنجة، ورواية "الثعلب الذي يظهر ويختفي" لمحمد زفزاف إزاء مدينة الصويرة، على سبيل المثال، لا الحصر.

تهمة التدنيس الملفقة

يحدث إذن، أن تكتب رواية عن مدينة لم تولد فيها، أو لست منها بالأحرى، فينبري لك حراسها أو من ينصبون أنفسهم أوصياء عليها، وقد ألم بهم سعار الذود عن شرفها، إذ لا تعدو كتابتك أن تكون جريمة اغتصاب لها، نعم، فالمدينة ليست حكرا على أبنائها وحسب، بل هي شيء مقدس، لا يجوز للغريب أن يتجاسر على الدنو منها، مهما كان عمله جماليا خالصا على نحو تخييلي، فهو إنما يدنسها أولا وأخيرا.

لو أن هذه الردود الشوفينية، جاءت من أهلها العاديين، لحسبت الأمر مسألة طبيعية، وصحية فوق ذلك، لكن أن يأتي الزعيق من المبدعين أنفسهم، فتلك المفارقة أو الدعابة السوداء.

في عرف هؤلاء، أنت ترتكب خطيئة لا تغتفر، بالتجرؤ على شيء يتوهمون امتلاكه ملكية خاصة، بشكل عصبي، لا يخلو من نزوع قبلي عرقي فج.

لا تعدو قراءتهم لروايتك أن تكون تحريا ورصدا للهفوات المفترضة سلفا، عن سبق نية، يتقدمها حكم جاهز بإعدامك وعملك معا، يروجون له قبل اكتشاف الرواية.

بل إن بعضهم يتحاشى قراءة الرواية، خشية أن تصدمه جماليتها الدامغة، وإبداعيتها الخلاقة، وقدرتها على الابتكار، فتقض مضجعه وتؤرقه على نحو مزمن، إذ تخيب توقعاته السيئة، مبهرة إياه على نحو مبطن، وهذا ما لن يعلنه أبدا أو يفصح عنه كما تقتضي الموضوعية، وبخلاف ذلك سيتجاهلها عن قصد في ألطف الأحوال، والسبب نزوع عصبي، تلهب شرارته رياح حقودة طاعنة في سم الضغائن. هكذا يصرف هذا البعض النظر عن القراءة، ولو اكتفى بذلك، فيحق له ولا مشكلة إطلاقا. لكن هؤلاء لا يلتزمون بهذا الحد اللبق، منحازين إلى التسلح عمدا بالحكم الجاهز، العدمي المسبق عن افتراء وتلفيق، ويرومون بهكذا هجوم غير شريف، أن يغتالوك وروايتك عن سبق الإصرار والترصد.

ستشفق على نوع من الكتاب، يسقط في فخ هؤلاء، إذ يعتنق المبدأ الركيك الآنف، محاولا الحصول على رضا الجميع، بأن ينجز عملا سرديا يطابق واقعية المكان

وأما بعضهم الآخر إذ يقرأون الرواية، فإنما ليعددوا قائمة المفارقات بين تخييل المدينة في نصك، وبين حقيقة المدينة التي يعرفونها وحدهم بيقين، معرفة مطلقة، بالنظر إلى أنهم من أبنائها الأحقاق، وتلك هي الشرعية التي تخول لهم وحدهم دون غيرهم، أحقية الكتابة أو الكلام عنها. كتبوا إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وهذا ممتنع عليهم في غالب الظن أو لم يكتبوا وهذا تحصيل الحاصل، فلا حق يبيح لك التجاسر على بلدتهم السعيدة، كما لو أنك تتجاسر على أبكر نسائهم.
الأفدح من ذلك، عندما يخضعون عمودية تخييل روايتك المنزاح، إلى أفقية واقع مدينتهم على نحو تسجيلي وتوثيقي وتقريري. أن تخرج روايتك على عروض المدينة- كما يحيطون بمعرفتها على نحو واقعي وتاريخي وذاتي كل حسب ذاكرته الخاصة- يجعل من مغامرة روايتك التخييلية محض نص زائف، بلا قيمة أو معنى، والسبب أنها جانبت مألوف مدينتهم كما اعتادوها، وانزاحت إلى تخييل غير مألوف، فنجاح الرواية في تصورهم القاصر، يستند إلى شرط وحيد لا شريك له، أن تكون على مقاس واقعية مدينتهم التي يمتلكون أسرارها بالنظر إلى انحدارهم الأصيل والحقيقي منها. وغير ذلك فالرواية فاشلة، وبخاصة إن كانت محض تخييل مارق، خارج على نمطية ما يعلمونه علم اليقين، والتهمة عمل لا واقعي، يهين تاريخ المدينة الرسمي، وذاكرتها الممتنعة على غير ناسها.
كيفما أقمت في مدينتهم، وراكمت فيها تجارب وجودية، ومغامرات حيوات على مر سنوات، ثم ألفيت نفسك من حيث لم تخطط، قد استوفيت شروط الكتابة عن المدينة بالاحتكام إلى مغامرتك الشخصية في أغوارها، واكتشاف خرائطها المتجددة، كخلفية لبناء عمارة روايتك، وفق رؤيتك الخاصة ذات النزوع الكوسموبوليتي، ومجازفة خيالك ذات النزوع الفانتازي، وقبل هذا وذاك، المدينة إذ تسترعي انتباه واهتمام الرواية، فتقرر هذه أن تكون تلك في صلب خرائطها، فإنما المدينة تغدو مضاعفة أضعافا في تخييل الرواية، على نحو جمالي، ورمزي، ومجازي. ومع ذلك، لا تعدو روايتك في نظرتهم الشزراء أن تكون جريمة، والتهمة هي التجاسر على صنمية المكان بلا شرعية الانتساب إلى شجرته المقدسة، إذ أنت مجرد غريب، زائرا كنت أو مقيما، الأمر سيان.
وإن تلطفت هذه الشرذمة وزعمت الاختلاف على مضض، فالمبدأ الذي يبرر أحكامهم البليدة: على المدينة في الرواية أن تكون هي نفسها بالضرورة كما في الواقع. على هندسة المدينة في الرواية أن تطابق هندسة المدينة في الواقع. وإن جئت بكتابة مفارقة لهذا المبدأ الأحمق، فأنت لا تخرقه وحسب، بل تقترف جناية في حق المكان وأصحابه فوق ذلك. 
ستشفق على نوع من الكتاب (هم كتاب سياحة في أرقى الأحوال)، يسقط في فخ هؤلاء، إذ يعتنق المبدأ الركيك الآنف، محاولا الحصول على رضا الجميع، بأن ينجز عملا سرديا يطابق واقعية المكان، بحسب ما تراه هذه الشرذمة، لا بحسب ما يراه هو، والعواقب فادحة، إذ ما أن يقدم على نشر عمله المتسرع الذي توسم به حصاد الإعجاب والرضا، فكأنما رمى بحجر مرغوب إلى عش دبابيرهم، فيزايدون على تقريرية عمله، بأن يبطلوا مصداقية واقعيته، بالنظر إلى ما يحترفون علمه من تاريخ المكان وذاكرته، سيرته وحوادثه وحقبه وأسمائه، علما يظل تسجيليا وتوثيقيا. بذا يخسر هذا النوع من الكتاب أنفسهم قبل أن يخسروا العالم.

font change