النقد المفتوح

النقد المفتوح

استمع إلى المقال دقيقة

النقد الأدبي حقل مفتوح على مختلف حقول الثقافة. وفي مساءلته الأدب من شأنه أن يستقرئ القيم الجمالية والحضارية في لغة معينة في زمن معين. وقد يستطيع انطلاقا من مساءلته تلك أن يرسي نظريات تنمّ عن رؤى شاملة إلى مختلف البنى الاجتماعية والثقافية في مجتمع معين. لهذا، يستفيد النقد الأدبي من حقول الثقافة الأخرى، ينفتح عليها، ويستمد منها ما يغني وسائله وآفاقه.

وهذا الأمر واضح بالنسبة إلى الاتجاهات الغربية في النقد الحديث، فجميع المناهج النقدية الحديثة تستند إلى فلسفات أو أيديولوجيات أو خلفيات فكرية.

ولا نستثني من هذه المناهج تلك التي تدعو إلى استنطاق النصوص الأدبية دون معايير جاهزة أو مسبقة، ونقصد بها المناهج "الوصفية" التي تحتكم إلى معايير داخلية، تُستنبط من داخل النصوص الأدبية، ثم تتغير من نص إلى آخر. فحتى في مثل هذه المناهج، لا يجد الناقد نفسه مكتفيا بعلاقته بالنص الأدبي الذي هو موضوع تحليله أو دراسته، وإنما يجد نفسه منطلقا من النص الأدبي إلى ما يتجاوز الأدب، إلى رؤى ثقافية عامة.

منذ القديم، لم ينقطع الجدل حول ماهية النقد الأدبي ووظيفته وأهدافه. فوجوده متعلق بوجود الأدب، قائم عليه. ولكنه- مع ذلك- يسعى دائما إلى تجاوز الأدب للتعبير عما هو أشمل. ولعلنا نجد في ذلك إحدى مفارقات النقد. ولكن ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى انفتاح النقد الأدبي على مختلف حقول الثقافة، فكيف ننظر إلى حالة الانفتاح هذه في النقد الأدبي عند العرب؟

فترة ازدهار النقد العربي كانت في القرنين الرابع والخامس الهجريين. ولعل السبب في ازدهاره هذا هو انفتاحه على الغنى الثقافي بمختلف وجوهه في هذين القرنين. لقد ارتكز هذا النقد أولا على البلاغة وغيرها من العلوم العربية، ولكنه أقام في الوقت نفسه علاقات مع علوم وافدة أبرزها الفلسفة والمنطق.

لقد جسد النقد العربي القديم رؤية ثقافية شاملة، تمثلت في النظرية النقدية الشهيرة "عمود الشعر". ويبدو واضحا من اسم النظرية أن النقد العربي كان نقدا للشعر، فن العرب الأول. وتلك الرؤية الثقافية التي جسدها النقد دخلت في حالة من الصراع مع الشعر. ففي الوقت الذي حاول النقد فيه أن يرسم حدودا للشعر، وأن يضع له معايير ومقاييس صارمة، كان الشعر يعمل على الإفلات من كل محاولة تسعى إلى تقييده أو تحديد آفاقه. ولهذا كان الشعراء يخرقون النظرية النقدية كلما عمل النقاد على إحكامها.

النقد العربي الحديث يعاني من مشاكل كثيرة، ولعل إحدى مهماته الأساسية التي ينبغي له الاضطلاع بها أن يحسِن إقامة علاقات له بحقول ثقافية متنوعة، فيها التراثي وفيها المعاصر

ولكن في الجهتين، جهة النقد وجهة الشعر، كان هنالك جو ثقافي تصب فيه الروافد من كل جانب، وتتعدد فيه الاتجاهات من كل نوع. فكما أن الشعر حاول أن يعبر عن ثقافة العصر وعن آفاقها المستقبلية، كذلك لم يكن في إمكان النقد أن يظل بعيدا عن تلك الثقافة ومستجداتها. لقد كانت حركة النقد الأدبي عند العرب تتبلور وتنمو متزامنة مع تبلور علوم البلاغة ونموها. وكانت في الوقت نفسه تستفيد من نمو وتطور في علوم الكلام والفقه والنحو والعروض... إلخ. ولكي تعمل حركة النقد هذه على إحكام النظرية، راحت تستعين بطرق التأويل والمنطق والبرهان التي وقعت عليها في مؤلفات  يونانية تمت ترجمتها إلى العربية. وهكذا وجدت حركة النقد نفسها في علاقة وثيقة مع جهود الفلاسفة العرب، بل إن هذه الجهود ساهمت مساهمة فعالة في إغناء هذه الحركة، وقد فاقت في أحيان كثيرة جهود النقاد أنفسهم.
نشير هنا إلى حالة فريدة في النقد العربي، هي حالة الناقد والبلاغي عبد القاهر الجرجاني، الذي كان همه الأساسي البحث عن سر الإعجاز القرآني.
ولكنه أعطى- ربما من حيث لم يقصد- الصورة المتقدمة لعلمي "المعاني" و"البيان" في كتابيه المشهورين "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة". كما أنه قدم- ربما من حيث لم يقصد أيضا- الآراء الأكثر تقدما في النقد العربي، وهي الآراء التي اختلفت عن نظرية "عمود الشعر"، فابتعدت عنها حينا  وناقضتها حينا آخر.    
كلمة أخيرة عن النقد العربي الحديث، فهو يعاني من مشاكل كثيرة، ولعل إحدى مهماته الأساسية التي ينبغي له الاضطلاع بها- لكي يكون قادرا على مساءلة الأدب- أن يحسِن إقامة علاقات له بحقول ثقافية متنوعة، فيها التراثي وفيها المعاصر. وليس عليه في ذلك أن يكون ناقلا أو مرددا لمقولات من هذا الحقل أو ذاك، وإنما عليه أن يأخذ من تلك الحقول ما يجده نافعا في صقل وسائله وتجديدها، نافعا في مساءلة الأدب مساءلة عميقة ومثمرة، نافعا في تكوين رؤى ثقافية عامة.

font change
مقالات ذات صلة