طوني قبطي لـ"المجلة": الثقافة في فلسطين حقل ألغام

فيلم "المهربون" يروي معاناة السكان الأصليين للحفاظ على إرثهم

طوني قبطي

طوني قبطي لـ"المجلة": الثقافة في فلسطين حقل ألغام

يعد الحفاظ على الهوية الفلسطينية في الأرض المحتلة عام 1948 مهمة شاقة يشوبها الكثير من المتاعب. يعود ذلك إلى القيود الصارمة التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي، والتي تصادر أحقية الفلسطيني، صاحب الأرض، في ممارسة نمط عيشه، والحفاظ على إرث أجداده.

عرض أخيرا في مدينة يافا، الفيلم الوثائقي "المهربون"، للمخرجين طوني قبطي ويانيف بيرمين، الذي يعالج أزمة الكتب العربية في الداخل المحتل، من حيث ندرة وجودها، وصعوبة الحصول عليها، وخضوع محتواها وعناوينها للرقابة التامة من الاحتلال. كما يتناول الفيلم الذي يتضمن جولات مختلفة محلية ودولية لتأمين الكتب، حوارات مع مثقفين فلسطينيين حول أزمة اللغة العربية، والمنهجية التي يتبعها الاحتلال لاستبدالها بلغته ولغات أخرى.

كما يسلط المخرجان الضوء على سرقة المكتبات الفلسطينية الموجودة في يافا قبل النكبة، وإخفاء أثرها. حول تلك المحاور، حاورت "المجلة" المخرج طوني قبطي.

يبدو “المهربون” محاولة لاستعادة المكتبة الفلسطينية، هل كنت ترى الكاميرا أداة لإنقاذ ذاكرة مدينة تتآكل؟

بالتأكيد. الذاكرة عنصر حيوي في هويتنا، والحفاظ عليها أمر بالغ الأهمية، سواء كان ذلك من خلال القصص المنقولة جيلا بعد جيل أو عبر التوثيق البصري. أؤمن بأن الكاميرا تملك قدرة فريدة، فهي لا توثق فحسب، بل تحتفظ بالمواد في الأرشيف، وتجعلها متاحة للأجيال المقبلة.

فجوة

هناك مشاهد تظهر الصعوبة التي يواجهها عرب الداخل للتعبير بالعربية، كيف ترى هذه الفجوة بين الفلسطيني وهويته اللغوية؟

للأسف، الاحتلال ليس فقط احتلالا جغرافيا، بل هو أيضا احتلال للثقافة ومحاولة مصادرتها، واللغة هي جزء جوهري منها.

الألم الحقيقي يكمن في أولئك الشباب الذين يدركون ما سلب منهم – لغة أسلافهم – لكنهم لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم بشكل كامل

هناك فلسطينيون يعيشون هنا ولا يدركون ثراء لغتهم، بل يتخلون عنها أحيانا. لكن الألم الحقيقي يكمن في أولئك الشباب الذين يدركون ما سلب منهم – لغة أسلافهم – لكنهم لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم بشكل كامل، لأنهم لم يُمنَحوا الفرصة لدراستها بعمق في المدارس. إنه ظلم تعليمي وثقافي جوهري.

ملصق الفيلم الوثائقي، "المهربون"

في لحظة معينة من الفيلم، يقول أحد المثقفين إن كل بيت عربي قبل النكبة كان يضم مكتبة. ما الذي يخبرنا به هذا عن المكانة التي كانت تحتلها الثقافة في الحياة اليومية الفلسطينية؟

لقد قام الفلسطينيون قبل عام 1948 بتنمية ثقافة حيوية وغنية ومنفتحة. الإنسان الذي لا يعيش تحت القمع، يسعى دائما لتوسيع معرفته. والدماغ البشري متعطش للمعرفة ولحرية التعبير. لكن الواقع تحت الاحتلال أو الاستعمار يخنق تلك القدرة. فبدلا من تشجيع الإبداع والثقافة، نجد أنفسنا في مواجهة عقبات تجعل وجودنا الثقافي معقدا. وكل محاولة للإبداع، تتصادم مع منظومة من القمع.

حصار ثقافي

من الواضح أن "المهربون" ليس فيلما عن الكتب فقط، بل عن الحصار الثقافي كأداة استعمار. كيف ترى استخدام إسرائيل للرقابة الثقافية كوسيلة لإضعاف الهوية؟

تمارس الرقابة الثقافية أحيانا بشكل ظاهر وأحيانا بشكل خفي. مثل عدم توفر بعض الكتب على الرفوف، أو حين تمنع وزارة التربية تدريس الثقافة الفلسطينية (خاصة الأدب الفلسطيني) والتاريخ الفلسطيني، وتروج لسردية تاريخية بديلة، مما يؤدي إلى نشوء أطفال فلسطينيين بهوية مشوهة. إنها طريقة متقنة لكنها مدمرة لقطعنا عن جذورنا. كما تصاحبها محاولات ترهيب وقمع تزيد الإضرار بالهوية الوطنية.

بوصفك ابن مدينة يافا، كيف تحمل هذا التناقض: أن تولد في مدينة كانت عاصمة الثقافة الفلسطينية، ثم تكبر على أنقاض مكتباتها؟

هذا أمر مؤلم للغاية. فقد كانت يافا مدينة مزدهرة ثقافيا، واليوم نجوب أنقاض ماضيها. ولكنني أؤمن وأرجو أن نتمكن من إعادة بناء ما اختفى. ما دام هناك أنقاض تلوح في الأفق، فهناك دائما إمكان لإعادة الترميم والتجديد.

أشرت ضمنيا إلى منع تصاريح المشاركة في المعرض، وإلغاء الأنشطة الثقافية. كيف تؤثر هذه السياسات على تشكل مشهد ثقافي فلسطيني حر داخل الخط الأخضر؟

السياسات الرسمية تشكل عقبة حقيقية، ولكن للأسف ثمة أيضا مسؤولية داخلية: في بعض الأحيان، لا يتجاوب جمهورنا أو يشارك في الفعاليات الثقافية.

لكي ننشئ ساحة ثقافية حرة ومزدهرة، نحتاج أيضا إلى تفاعل ومشاركة من الجمهور والمجتمع والأهالي والمربين

لكي ننشئ ساحة ثقافية حرة ومزدهرة، نحتاج أيضا إلى تفاعل ومشاركة من الجمهور والمجتمع والأهالي والمربين. 

تراجع الفضاء العام

في أحد مشاهد الفيلم، نرى مهرجانا للكتب في يافا لا يحضره سوى قلة. كيف تقرأ هذا الغياب؟ هل هو نتيجة قطيعة ثقافية؟ أم خوف؟ أم شيء أعمق من ذلك؟

بالتأكيد، هذا الغياب ينبع من عوامل عدة. أولا، الجهاز التعليمي لا يشجع على التفكير المستقل أو على التمكين الشخصي والجماعي. أولادنا لا يتعرفون بشكل كاف الى ثرائهم الثقافي. كما أن هناك شرخا ثقافيا عميقا يتفاقم منذ سنوات، مما يبعدنا عن جذورنا وعن حبنا لثقافتنا. 

AFP
من اليسار إلى اليمين: رئيس لجنة التحكيم لوكا غوادانيينو والممثلون توفيق دانيال، منار شحادة، الكاتبة منى قبطي، جريس قبطي، وطوني قبطي، يتسلّمون جائزة النجمة الذهبية عن الفيلم الفلسطيني "عطلة سعيدة"

في يافا، المدينة ذات الماضي الثقافي الغني والجذور العميقة في الإبداع والتعبير الفلسطيني، ليست الثقافة مجرد مسألة ترفيه – بل هي فعل هوية، وبقاء، وإصرار على الوجود. ولكن إلى جانب الصعوبات السياسية، والمحاولات التاريخية للمحو، والنقص في البنية التحتية الثقافية المحلية، هناك أيضا قوى معاصرة تثقل كاهل ازدهار مشهد ثقافي حي. يضاف إلى ذلك العالم الرأسمالي الذي نعيش فيه، وعالم الإعلام، اللذان يدفعان معظم الناس بعيدا من فضاءات استهلاك الثقافة نحو استهلاك سريع، سطحي، وأحيانا خال من المعنى.

في يافا، أكثر من أماكن أخرى، يحس هذا الصراع بشكل واضح: الرغبة في التواصل مع الجذور، وفي إنتاج لغة ثقافية أصيلة وجريئة، تصطدم ليس فقط بعوائق خارجية، بل أيضا بلامبالاة داخلية تراكمت على مدار سنوات.

المعرفة تعتبر خطرا من قبل النظام الإسرائيلي، لأن المعرفة تخلق وعيا، والوعي يؤدي إلى تغيير، والتغيير يهدد من يستفيد من الوضع الراهن

الفلسطينيون في الداخل يعيشون في حالة بقاء، ويخشون من التعبير الزائد أو من إظهار هوية قد تفسر على أنها تهديد. كانت الانتفاضة الثانية نقطة انكسار حاسمة، كسرت روح الكثيرين وزرعت شعورا عميقا بالخوف لا يزال قائما حتى اليوم.

مشهد من الفيلم

لم تكن التبعات سياسية أو أمنية فقط، بل تسللت أيضا إلى المجال الثقافي: تراجع الناس عن الفضاء العام، ابتعدوا عن الفعاليات الثقافية، ودخلوا في دائرة من الصمت والاختباء. فعندما يصبح مجرد التحدث بالعربية، أو الكتابة، أو القراءة، أمرا قد يعتبر مخاطرة، تتحول الثقافة نفسها إلى حقل ألغام. وهذا الصمت، الذي بدأ كخوف، تحول مع مرور السنوات إلى واقع طبيعي.

صوت يافا

تضمينك لأغاني الفنان تامر نفار بدا انعكاسا لنبض المدينة، وليس مجرد خلفية موسيقية. ماذا أضاف برأيك الى صوت الفيلم؟ وهل كنت تبحث عن هوية موسيقية ليافا؟

بالتأكيد. أنا أحب موسيقى تامر، فهو صديق وصوت تعبيري مهم يجمع بين الغضب والألم والرؤية. كنت أبحث عن صوت يضيف، وأظن أن الراب نجح في نقل مشاعر المقاومة والنقد بطريقة حادة وقوية، وهو يناسب روح يافا تماما.

ظهر في الفيلم أن الوصول إلى كتاب عربي في الداخل المحتل يشبه تهريب المخدرات أو السلاح. هل قصدت أن تسائل النظام الذي يساوي بين المعرفة والخطر؟

برأيي، المعرفة تعتبر خطرا من قبل النظام الإسرائيلي، لأن المعرفة تخلق وعيا، والوعي يؤدي إلى تغيير، والتغيير يهدد من يستفيد من الوضع الراهن. لذا، بالنسبة الى المؤسسات الرسمية، الكتب تمثل تهديدا. وأنا أراها فرصة للتحرر.

GettyImages
يانيف برمين (يسار) وطوني قبطي على السجادة الحمراء لفيلم "مدينات هجاماديم – أرض الأشخاص الصغار" خلال مهرجان روما السينمائي الحادي عشر

في مشهد شبه كاريكاتوري في نهاية الفيلم، نراك وميشال كأنكما مهربان حقيقيان تطاردان بسبب كتاب. لماذا قررت أن تقارب الرقابة الإسرائيلية بهذه الصورة الساخرة؟ هل وصل الأمر فعلا الى اعتبار الكتب تهديدا أمنيا؟ 

الكتب هي أكثر من مجرد صفحات وحبر، هي مفتاح للوعي. وفي مجتمع مقموع، الوعي يصبح سلاحا مهما. السخرية هنا تظهر سخف الواقع: أن كتابا قد يعتبر تهديدا أمنيا. لكنها تحمل في طياتها الحقيقة العميقة: المعرفة هي القوة التي يمكنها أن تحرر المقموعين من قيودهم. 

font change

مقالات ذات صلة