عزالدين بوركة: الفوتوغرافيا تفكير بصري وجهاز تمثيلي للسلطة والثقافة والذات

عن أحدث أعماله "كتابة الظل: الفوتوغرافيا من النشأة إلى المعاصرة"

عزالدين بوركة: الفوتوغرافيا تفكير بصري وجهاز تمثيلي للسلطة والثقافة والذات

مع صدور كتابه الجديد "كتابة الظل: الفوتوغرافيا من النشأة إلى المعاصرة" (2025)، يواصل الناقد الفني المغربي عز الدين بوركة انشغاله العميق بالفنون البصرية وأسئلتها الجمالية والثقافية. بوركة، الذي عرف بمزجه بين النقد الفني والتحليل الفلسفي، يقدم في هذا العمل تأملات تنفتح على أبعاد متعددة للصورة، من نشأتها التقنية إلى دورها المعاصر في تشكيل الوعي الثقافي.

سبق هذا الإصدار كتاب "نوافذ هنري ماتيس: المغرب شرقا بين الألفة والغرابة" (2024)، الذي تناول فيه تجربة الرسام الفرنسي في المغرب من زاوية نقدية تسائل العلاقة بين الفن والمكان والتمثيل الثقافي، بعيدا من القراءة الاستشراقية المباشرة.

في هذا الحوار، نتوقف مع بوركة عند أهم قضايا الصورة، وواقع الفن التشكيلي المغربي، وتحديات النقد الجمالي في سياق عربي يتغير بسرعة، ويبحث عن موقع للفن وسط التحولات التقنية والاجتماعية المتسارعة.

صدر اخيرا كتابك "كتابة الظل: الفوتوغرافيا من النشأة إلى المعاصرة"، ما الذي دفعك الى تأمل الفوتوغرافيا بهذا الشكل المعمق؟ وكيف ترى أهمية العودة إلى الصورة كمجال للتفكير الجمالي اليوم؟

كتابة هذا الكتاب هي نوع من عملية عودة إلى ما سكن العين منذ نشأة الضوء، وبروز النقيض: الظل، وتحوله إلى طاقة-لغة ولغة-حركة. فالفوتوغرافيا ليست مجرد تقنية توثيقية كما شاع، إنما هي عملية التفكير في الزمن، ووسيط للتأمل الإستطيقي في لحظة الوجود، وأداة لالتقاط الماوراء في ما هو ظاهر. في عصر تشظت فيه الحقيقة، وتكدست فيه الصور حتى غطت على الوجود ذاته، صارت العودة إلى الصورة ضرورة فكرية. نحن لا نرى الأشياء، بل نرى صورها. وكل صورة هي خطاب، أثر، واختزال للزمن في لحظة عابرة-باقية.

ليست الفوتوغرافيا (الفنية) اليوم، فن التمثيل، وأداة إظهار ومباشرة، بل فن التساؤل والإبراز بالإضمار. من هنا جاء هذا الكتاب كشكل تأملي لا لقول ما تعنيه الصورة فقط، أو تتبع مسارها التاريخي، إنما لسبر صمتها، وسؤال قدرتها على أن تعيد تشكيل وعينا. فكل صورة تفتح سؤالا لا جوابا، وهي مرآة لما نخفيه، بقدر ما هي توثيق لما يظهر.

ما دفعني بقوة إلى كتابة هذا الكتاب، هو هذا القلق الإبستمولوجي الذي بدأت أشعر به تجاه ما أصبح يسمى اليوم بـ"الواقع المصور" المدجج بالعرض الاحتفالي، والواقع المضاعف بالصور المتخمة بالاجترار، والذي صار طاغيا على إدراكنا للعالم.

تأملات شذرية

الكتاب يتخذ صيغة "تأملات شذرية"، وهو أسلوب غير شائع في الدراسات النقدية العربية، خاصة في موضوع تقني بصري كالفوتوغرافيا. لماذا هذا الخيار؟ وهل ترى أن هذا الشكل يمنح حرية أكبر في تناول المفاهيم المعقدة المتعلقة بالصورة؟

إن الفوتوغرافيا، كما أراها، هي كتابة بالظل (وبالضوء)، لكنها في الآن ذاته كتابة بالزمن، وبالغياب، وبالحنين. لذلك أردت أن أعطي هذا الوسيط حقه التأملي، بعيدا من التسطيح الإعلامي، أو الاختزال التقني. كتابي هو، من هذا المنظور، محاولة للإجابة عن السؤال: ما هي الصورة في زمن الصورة؟ وهل ما نراه هو الحقيقة أم إعادة تشكيل لها؟ وكيف يمكن أن نتأمل الظل لا بوصفه غيابا للضوء، إنما كتابة تصويرية، انعكاس للغياب الذي يصير حضورا وللحاضر الذي يخلد في لحظة رغم غيابه (لعل هذا الأمر الأخير الذي جعل، في بدايات ظهور هذه التقنية-الفن، تيارا مسيحيا غربيا يهاجمها، ومن ثم تيارات فقهية في عالمنا الإسلامي تحرمها: كيف للوجه أن يبقى خالدا في غياب/موت صاحبه؟).

الفوتوغرافيا تتضمن مفارقة فلسفية: هي التي تظهر، لكنها أيضا تخفي. تلتقط اللحظة، لكنها تجمد الزمن. تحفظ ذاكرة ما، لكنها في كل مرة تعرض، تعيد إنتاج معنى جديد

ثم إن الفوتوغرافيا، بحد ذاتها، تتضمن مفارقة فلسفية: هي التي تظهر، لكنها أيضا تخفي. تلتقط اللحظة، لكنها تجمد الزمن. تحفظ ذاكرة ما، لكنها في كل مرة تعرض، تعيد إنتاج معنى جديد. هذه الفجوة بين الممثل والتمثيل هي ما يثيرني باعتباري باحثا يشتغل على تقاطعات الفن بالفلسفة.

غلاف كتاب "كتابة الظل"

لهذا، فالشكل الشذري (أو التشذيري) في هذا الكتاب ليس مجرد اختيار جمالي فحسب، فهو ضرورة منهجية وفكرية فرضت نفسها في زمن الكتابة وفي عملية التفكير في الموضع. والفوتوغرافيا في حد ذاتها هي فن الشذرة: لحظة خاطفة، صورة مقطوعة عن الزمن، تجمد ما لا يجمد. فكيف يمكن أن نكتب عن فن كهذا بلغة متواصلة نسقية؟

كيف تنظر إلى تطور الفوتوغرافيا من كونها أداة توثيق إلى فضاء تعبيري وفلسفي؟ وهل يمكن اعتبار الصورة اليوم خطابا بصريا يتجاوز الإطار الجمالي إلى البعد الثقافي والسياسي؟

بدأت الفوتوغرافيا كعين ميكانيكية، ثم تحولت إلى عين ثقافية. وقد دخلت عالم التعبير والتشكيل والرمز، منذ أن تخلت عن وظيفتها المحضة بوصفها توثيقا وأداة سياحية يعلقها السياح على أعناقهم لالتقاط لحظات عابرة في ذاكرتهم السياحية.

أصبح للفوتوغرافيا اليوم خطاب يتجاوز الجماليات التقليدية، فهي تدخل في صميم الصراع الثقافي والسياسي، تمثل الأقليات، تفضح الأنظمة، تستنطق الصمت، تزعزع المركز. منذ نموذج- داغير إلى الفوتوغرافيا التشكيلية، ومن حرب فيتنام إلى ربيع العرب، وصولا إلى مأساة غزة اليوم، لعبت الصورة الفوتوغرافية دور الشاهد، وأحيانا دور القاضي، ودور الصحافي الذي يطارد الواقع لتبيانه، وكثيرا دور الفنان الذي يعمل على مساءلة الحقيقة. الصورة لم تعد تقف على الجدار، فقد اقتحمت الفضاء العمومي، تعيد رسم ذاكرتنا، وتعيد بناء وعينا السياسي. اليوم، الصورة تنتج وتستعمل وتروض وتقاوم، في الآن نفسه. إنها ساحة معركة رمزية. كل فوتوغرافيا تحمل وجهة نظر، بل هي فعل مقاومة، حين تضعنا وجها لوجه أمام ما لا يقال. من هنا، أصبح للفوتوغرافيا راهنيتها الثقافية والسياسية، ولا يمكن اختزالها في جمال بصري فقط.

زمن الإشباع البصري

إلى أي حد لا تزال الصورة الفوتوغرافية، في زمن منصات التواصل والإشباع البصري، تحتفظ بقيمتها الجمالية؟ وهل تعتقد أن هذا الزخم الرقمي يضعف حضور الصورة كأثر فني؟

لا يعني الإشباع البصري بالضرورة موت الإستيطيقا، إنما تحولها. صحيح أن الصور تنتج بكم هائل، وبنقرات عشوائية، لكن في المقابل، ارتفعت حساسية المتلقي للصورة، وأصبح التمييز بين "الصورة الأثر" و"الصورة الضوضاء" مهما. فالصورة الفوتوغرافية الحقيقية اليوم، ليست تلك التي تلتقط، فهي التي "تصنع" والتي "تصنع": بوصفها عملا فنية، وباعتبارها ذريعة تأملية. إذ تنبني على رؤية، وعلى وعي جمالي ومعرفي.

كل فوتوغرافيا تحمل وجهة نظر، بل هي فعل مقاومة، حين تضعنا وجها لوجه أمام ما لا يقال. من هنا، أصبح للفوتوغرافيا راهنيتها الثقافية والسياسية

لهذا يمكن القول إن هذا الزخم الرقمي هو ما يجعل الفوتوغرافيا فنا أعمق، لأنها صارت تتطلب وعيا مضاعفا. في مواجهة الاستهلاك البصري، تظل بعض الصور قادرة على التسلل إلى الروح، وإحداث أثر لا يمحى. إنها ليست مجرد صورة، بل تجربة وجودية. من هنا، لا يمكن فقدان الثقة في الفوتوغرافيا، إنما نرى أن التحدي اليوم هو كيف نصنع صورا تقاوم النسيان وسط هذا الطوفان البصري. الصورة لم تمت، فنحن نحتاج إلى تدريب عيننا على رؤية أثرها الحقيقي. وذلك في زمن التحولات الكبرى التي بات يؤطرها بشكل فعلي ومتسارع الذكاء الاصطناعي.

ماتيس والمغرب

في كتابك السابق "نوافذ هنري ماتيس: المغرب شرقا بين الألفة والغرابة"، تقترب من تجربة فنية غربية في فضاء مغربي. ما الذي لفت انتباهك في تجربة ماتيس المغربية تحديدا؟ وكيف تقيم تمثيله للشرق من موقعه كرسام فرنسي؟

كانت تجربة ماتيس في المغرب لحظة مفصلية في مساره الفني، لكنها أيضا لحظة محملة توترات رمزية. لقد رأى المغرب لا كما هو، إنما كما أراده أن يكون: شرقا متخيلا، ضوءا خالصا، زخرفة منفصلة عن سياقها. فلم يتبع ماتيس خطى استشراق دولاكروا أو أثر شرق جيروم، بل اتبع حدس الرؤية، أي البحث عن شرقه المنزوع من أي طابع غرائبي إلى الحد الكبير، لهذا ابتكر "رؤية شرقية" (Orientalité) -مثلما يخبرنا بيار شنايدر- لا استشراقية (orientaliste). لهذا لم يكن استشراقيا بالمعنى الإيديولوجي الكولونيالي، فقد كان يبحث عن التحرر البصري.

غلاف كتاب "نوافذ هنري ماتيس"

لم ير ماتيس المغرب كأرض غرائبية ومدعاة استشراقية استعمارية، وامتداد وحشي لما بعد الأرض الأوروبية، إنما رآه كحالة لونية، كفضاء للانفلات من تقاليد الرسم الأكاديمي، ومصوغ جمالي لنقلته الفنية، فهو "الشرق الذي يأتيه منه الإلهام". من هنا كانت نوافذه مرايا مزدوجة: تطل على الداخل كما على الخارج. لكنه مع ذلك، لم يفلت من منطق التشييء، من تحويل المكان إلى صورة فنية محايدة، في بعض الأعمال، وهذا ليس عيبا كبيرا في تجربته الغنية التي أثر فيها المغرب خاصة والشرق عامة.

تفتح تجربته، بشكل عام، أسئلة عن كيف يرى الغرب الشرق، وعن حدود التمثيل، ومتى يصير الإعجاب استعمارا جماليا. لقد أردت في هذا الكتاب أن أفتح نافذة لا فقط على تجربة ماتيس، بل على صورة الشرق كما تبنى في أعين الآخر.

الصورة لم تمت، فنحن نحتاج إلى تدريب عيننا على رؤية أثرها الحقيقي. وذلك في زمن التحولات الكبرى التي بات يؤطرها الذكاء الاصطناعي

كيف ترى العلاقة بين الفنان الغربي والمكان الشرقي في السياقات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية؟ وهل نستطيع إعادة قراءة هذا النوع من التجارب بعيدا من الرؤية الاستشراقية التقليدية؟

تعد العلاقة بين الفنان الغربي والمكان الشرقي علاقة مركبة، مشحونة بالخيال، والسلطة، والانبهار. فمنذ القرن التاسع عشر، لم يكن "الشرق" بالنسبة إلى الفنان الغربي فضاء جغرافيا فحسب، إنما خزانا للصور، ومسرحا للفتنة، وحقل إسقاط لرغبات دفينة، ولم يكن الشرق يعني البلاد العربية فحسب، ففي فترات عدّت أفريقيا شرقا وروسيا شرقا، لهذا فهو جغرافيا متحولة باستمرار يصعب تحديدها بالشكل الدقيق.. لهذا فقد كان الشرق، كما قال إدوارد سعيد، "اختراعا" غربيا أكثر منه واقعا موضوعيا. هنا لا نكون أمام "اكتشاف"، بل أمام إعادة تشكيل بصري وثقافي. ولذا، حين يرسم إنغر أو دولاكروا أو حتى ماتيس الشرق، فإنهم لا يرسمون إلا ما يتمنونه منه: المتعة، اللون، الجسد، اللازمن، والانفلات من العقل الأوروبي.

لكن هذا لا يمنع أن بعض الفنانين وجدوا في الشرق لحظة انعتاق حقيقية، مثلما نتلمس في حالة ماتيس بالشكل الكبير على امتداد تجربته "الشرقية-المغربية"، وكما نلمح في أثر الشرق في تجربة كل من بول كلي وكاندينسكي. فـ"المكان الشرقي" لم يكن فقط موضوعا، بل محفزا جماليا، ومختبرا لتجارب جديدة في اللون، في النور، في التكوين. ومع ذلك، تبقى العلاقة غير متكافئة، لأن الغرب كان دائما هو الراوي، والشرق هو الموضوع. الفنان الغربي غالبا ما مارس سلطة البصر على المكان الشرقي، حوله إلى صورة قابلة للامتلاك. من هنا، فإن العلاقة بين الطرفين ليست بريئة، إذ ينبغي مساءلتها: هل كانت علاقة تأمل، أم علاقة استملاك رمزي؟ وهل الشرقي حاضر في هذه الصور كذات، أم كظل لتخيلات الغربي؟ في هذا التوتر تتأسس جذور الكثير من التمثلات الفنية المعاصرة.

تقاطعات

تنطلق كتاباتك عموما من تقاطع بين النقد الجمالي والفكر الفلسفي. كيف تصوغ هذه العلاقة بين الفن والتفكير؟ وهل ترى أن الناقد الفني اليوم يحتاج إلى أدوات فلسفية لفهم تحولات الفن المعاصر؟

ليس الفن مجرد تعبير بصري، فهو تفكير متجسد، لكونه تفكيرا بالجسد وعن الجسد وانطلاقا منه، أي التفكير في العالم: عبره وفي صلبه وحوله وعنه. والفلسفة ليست سوى فن مفكر، إن صح لنا هذا التعبير. ومن هنا، أرى أن العلاقة بين النقد الجمالي والفكر الفلسفي هي علاقة تكاملية، حيث يغني كل منهما الآخر. أسعى في كتاباتي إلى استنطاق العمل الفني ليس فقط من حيث شكله ومضمونه، إنما من حيث ما يثيره من أسئلة وجودية ومعرفية. لا أرى أي انفصال إبستمولوجي بين التفكير الفلسفي والتفكير في الفن أو حتى بالفن. فكل منهما له المسعى ذاته، تأمل الوجود والتفكير في العالم جسدا وذاتا وعقلا وحتى "روحا"، من مناح متعددة منها الإيتقي والعلائقي والإنساني والبيئي والأنطولوجي، وحتى الميتافيزيقي في منحى معين.

الفنان الغربي غالبا ما مارس سلطة البصر على المكان الشرقي، حوله إلى صورة قابلة للامتلاك. من هنا، فإن العلاقة بين الطرفين ليست بريئة

أنت من الأصوات النقدية التي تشتغل على قضايا الفن والسوق، الفن والسلطة، والفن والمجتمع. ما هو التحدي الأكبر الذي يواجه اليوم، الفنان المغربي خصوصا والعربي عموما، ضمن هذه المعادلات؟

أحد التحديات الكبرى التي تواجه الفنان المغربي والعربي اليوم هو التوفيق بين التعبير الفني الأصيل (أي امتلاك بصمة خاصة وأسلوب خاص) والضغوط الاقتصادية والسياسية. ففي ظل هيمنة السوق الفنية العالمية، يجد الفنان نفسه مضطرا للتكيف مع متطلبات العرض والطلب، مما قد يؤثر على حريته الإبداعية.

غلاف كتاب "الحساسيات البصرية المفرطة"

كما أن العلاقة بين الفن والسلطة تظل معقدة، حيث قد يستخدم الفن كأداة للدعاية أو المقاومة. أما على المستوى المجتمعي، فإن الفنان يواجه تحديات تتعلق بتلقي الجمهور لأعماله، ومدى فهمه وتقديره لها. لذلك، أرى أن التحدي الأكبر يكمن في الحفاظ على استقلالية الرؤية الفنية، مع الانخراط الواعي في السياقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المحيطة. وهذا الانخراط ليس بمعنى الالتزام السياسي، إنما هو انخراط إنساني في قضايا وأحداث وسياقات ومتغيرات العالم.

الراهن

كيف تقيم وضع النقد الفني في المغرب والعالم العربي؟ وهل ترى أن هناك مساحة حقيقية لتطور خطاب نقدي مستقل وعميق وسط الهيمنة المؤسساتية والإعلامية على الحقل الثقافي؟

النقد الفني في المغرب والعالم العربي يعاني من إشكاليات عدة، أبرزها ضعف التكوين الأكاديمي المتخصص، فكل النقاد والباحثين في الجماليات هم ذوو تكوين ذاتي في الفن والنقد الفني، مدفوعين بالغيرة الجمالية والبحث العصامي في الفن وآليات تأمله، منهم من أكمل الدراسة الجامعية في التخصص الجمالي ومنهم من كون لغته وعينه وذاته بشكل "عصامي" خارج أسوار الجامعات العربية، التي يكاد يغيب عنها البحث الجمالي، حيث غرقت جامعاتنا في التجريدي النظري والفكري الذي لا يعمل على مساءلة العين... ولكن هذا لا يلغي عن هؤلاء النقاد والباحثين جدتهم وحسن ذوقهم وأصالة طروحاتهم، فقد ساهموا وأسسوا بنصوصهم وكتاباتهم لنقد عربي جمالي. وأيضا يعاني عالمنا العربي من شبه غياب المنابر المتخصصة التي تحتضن الخطاب النقدي العميق، مع بعض الجرائد والمنابر الإلكترونية والمجلات الشاملة والمتخصصة القليلة التي تقاوم وتحتضن المسألة الجمالية.

المؤسسات الثقافية العربية بحاجة إلى تحديث آلياتها، وتبني استراتيجيات رقمية تواكب هذه التحولات

في ظل تسارع التحولات الرقمية وظهور وسائط جديدة للعرض والتلقي، كيف تتغير العلاقة بين العمل الفني والجمهور؟ وهل تعتقد أن المؤسسات الثقافية العربية تواكب هذه التحولات بما يكفي؟

أحدثت التحولات الرقمية ثورة في طريقة عرض وتلقي الأعمال الفنية، حيث أصبح الجمهور أكثر تفاعلا ومشاركة في العملية الفنية. مع ذلك، فإن هذه التحولات تفرض تحديات على المؤسسات الثقافية العربية، التي غالبا ما تفتقر إلى البنية التحتية الرقمية، والتكوين المتخصص في هذا المجال.

أرى أن المؤسسات الثقافية العربية بحاجة إلى تحديث آلياتها، وتبني استراتيجيات رقمية تواكب هذه التحولات، من خلال إنشاء منصات إلكترونية، وتقديم محتوى فني متنوع وجذاب. كما يجب تعزيز التكوين في مجال الفنون الرقمية، وتشجيع الفنانين على استكشاف هذه الوسائط الجديدة، بما يساهم في تطوير المشهد الفني العربي.

أنجزت مجموعة من الدراسات التي تناولت التحولات البصرية والمفاهيمية للفن في المغرب، مثل كتاب "الحساسيات البصرية المفرطة". كيف ترى المسار الذي يسلكه الفن التشكيلي المغربي اليوم؟ وهل هناك حساسية فنية مغربية مستقلة يمكن الحديث عنها فعليا؟

يشهد الفن التشكيلي المغربي تطورا ملحوظا ومهما، حيث تتعدد التجارب الفنية وتتنوع الأساليب والتقنيات، مع بروز دور عرض جديدة تهتم بالمعاصرة، ومزادات علنية وصالونات دولية... مع ذلك، فإن هذا التنوع لا يعني بالضرورة وجود حساسية فنية مغربية مستقلة، إذ لا تزال العديد من التجارب متأثرة بالاتجاهات العالمية، دون أن تتمكن من بلورة هوية فنية مغربية متميزة. غير أن تجارب فنية معاصرة لم تعمل على اتباع سبل الاستلاب الهوياتي، فقد عملت على بلورة مساراتها الفنية ضمن أبعاد جمالية وبصرية تهتم بأسئلة الذات والمحلية والهوية المتحركة، دون إحداث قطيعة مع الماضي أو إقامة جدران أمام كل ما هو غربي، إذ وظفت آليات الفن المعاصر في استشكال قضايا الراهن المغربي والعربي، فرديا وجماعيا، اقتصاديا ودينيا وثقافيا وسياسيا وحتى تجاه الموروث والحاضر والمستقبل.

font change

مقالات ذات صلة