في طبرقة التونسية حيث اختبأ "العندليب" في خميلة الزهور قبل 57 عاما

أرض "الجاز" والطرب والمرجان الأحمر

خاص المجلة تصوير إبراهيم توتونجي
خاص المجلة تصوير إبراهيم توتونجي
اشتهرت مدينة طبرقة بمهرجان الجاز الذي ذاع صيته على ضفة البحر الابيض المتوسط قبل أن يتوقف

في طبرقة التونسية حيث اختبأ "العندليب" في خميلة الزهور قبل 57 عاما

طبرقة - تونس: يقع حي "الدشرة" على تلة مواجهة للبحر. من شرفات منازله التي يعود بناء بعضها الى مائة عام، بالامكان التمتع بمناظر بانورامية لمدينة طبرقة ، على الساحل الشمالي الغربي لتونس. تبعد المدينة، التي عرفت "مجدا" متوسطيا خاصا، دمج الرياضات المائية مع موسيقى "الجاز" والطرب العربي، بدءا من منتصف ستينات القرن الماضي، حتى بداية الثمانينات، عن العاصمة التونسية، حوالي 180 كم.

تتواتر المشاهد الطبيعية الجاذبة على طول الطريق، التي تتوقف على جوانبها قرب الاستراحات، جرارات زراعية، تتدلى منها أكواز الثوم، إضافة إلى أصناف من "الغلة" (كما يسمي التونسيون الفاكهة) وكذلك أصناف منوعة من الخضار مثل "البسباس" (ثمرة الشمر) التي يعشقها التونسيون ويأكلونها مع وجباتهم الغذائية. قد تخلو معروضات الخضار في مرات كثيرة من البطاطس.

المذياع في الحافلة، يتنقل بين أغان تونسية ومصرية، وبين "توك شو" الصباح الذي يسرد بعض مشاكل البلاد الاقتصادية، ومنها اختفاء البطاطس الذي يثير الجدل بين الحكومة والمعارضة، فالأولى ترده إلى الاحتكار وجشع التجار، والثانية ترده إلى خلل في السياسات الزراعية وسلاسل التوريد. يذكر أحد ضيوف البرنامج الصباحي أن "الفرد التونسي يستهلك 30 كيلوغراما من البطاطس كل عام" وأن "التغير المناخي والجفاف الذي يضرب مناطق زراعية كثيرة في الشمال التونسي الذي يعتبر سلة غذاء رئيسية للبلاد، مسؤول أساسي عن هذه الأزمة". تغني مليحة التونسية ثم نانسي عجرم، قبل أن تصل الحافلة الى وسط المدينة.

بانوراما المكان

من نافذتها، في بيت "الدشرة"، تستطيع منيرة أن ترى معالم عدة من وسط المدينة، بما فيها: موقف الحافلات، مطحنة الحبوب، التكوينات الصخرية ذات العمر الجيولوجي السحيق (والتي تعتبر علامة فارقة للمدينة)، القلعة الحصن التي بناها الإيطاليون خلال حقبة تاريخية احتلوا فيها المدينة للسيطرة على تجارة المرجان الأحمر الكثيف في عمق بحرها، والسوق الذي تعرض فيه بضائع جزائرية بأسعار أرخص من المنتج التونسي، كون غالبيتها يدخل عبر الحدود القريبة، في عمليات تهريب لا تخضع للرسوم الجمركية. هناك أيضا "السوق الليبي" المسقوف الذي يبيع ملابس واحذية معاد استخدامها، بما يطلق عليه التونسيون "الفريب". في هذا السوق، بوسعك أن تشتري حذاء جلديا شتويا، ينفع لتفقد الغابات القريبة في "عين دراهم" و"بني مطير" لقاء 7 دولارات. يقبل أهالي طبرقة، وكثير من أهالي الشمال، الذي يرزح أبناؤه تحت معدلات بطالة عالية، على مثل هذه الأسواق لسد احتياجاتهم البدائية. تنتشر المقاهي بشكل لافت، حول مسرح "البازليك"، وقرب الميناء، ويتكدس عدد كبير من الشباب على مقاعدها، يتابعون مباريات كرة القدم ضمن دوري الأندية الأفريقي.

تنتشر المقاهي حول مسرح "البازليك"، وقرب الميناء، ويتكدس عدد كبير من الشباب على مقاعدها، يتابعون مباريات كرة القدم

لم يكن المشهد على هذا الجمود قبل عقود، وكانت أم منيرة، لا تجد حرجا في إيجاد المواد الغذائية الأولية، لطبخها مع اللحم، الوافر الذي يجلبه زوجها القصاب في مختبر البلدية، إلى البيت، كل يوم تقريبا. ربيا عائلة مديدة من الإناث والذكور، أكبرهم قارب عتبة السبعين اليوم، وقد انتشر بعضهم بين الدول الأوروبية، وبين ولايات تونسية أخرى، وبقيت أميرة، في مبنى من ثلاث طبقات، تنتظر الزوار من الأخوة والأحفاد، وتحضّر "العصيدة" (مزيج ساخن من الدقيق والزبدة والسكر يقدم لوجبات الصباح) أو المعكرونة أو الكسكسي مع الخضار مثل الجزر والكوسا والتوابل الحارة. تتفقد أيضا صور بعض رحلاتها في زمن الصبا إلى باريس، وفي مرات، تمسح الغبار عن أشكال فنية معروضة في البيت صنعت من مادة الفلين، أو "الخفاف" كما يسميها التونسيون، والذي شكل استخراجه من الغابات الكثيفة المحيطة على مدى عقود، صناعة وتجارة، مزدهرين، أمنتا وظائف كثيرة لأهل المدينة، واستقطبتا مستثمرين أجانب، من البرتغال وإيطاليا وفرنسا، لضخ أموالهم فيها.

خاص المجلة تصوير إبراهيم توتونجي
عرفت المدينة ازدهارا ثقافيا سابقا مرتبطا بامكانات اقتصادية تتعلق بالسياحة واستخراج المرجان الأحمر وصناعة الفلين

"كنت عاملا في مصنع الخفاف، وكذلك زوجتي، تعارفنا هناك، وربطتنا قصة حب، وتزوجنا". يقول عبد الحميد، الأخ الأوسط لمنيرة، لـ" المجلة"، بينما تشير زوجته إلى قطع أثاث صالون فريدة، مصنوعة من الفلين المغطى بطبقة من الورنيش اللماع. لم تعد الزوجة امرأة عاملة واكتفت في البقاء في البيت مثل كثر من نساء المدينة.

مسرح الزهور الذابلة

يقف عبد الحميد في الفضاء الذي شغله ذات يوم أحد المسارح الهامة على مستوى تونس وشمال أفريقيا، وتحول اليوم بقعة فارغة يملؤها طين الشتاء القاسي بفعل عاصفة صقيع هبت من الاتجاه الإيطالي. كان في ما مضى يسمى "مسرح الزهور"، واستقطب مطربين كبارا من تونس والعالم العربي لإحياء حفلاتهم التي حضر أحدها عبد الحميد،  وكان يافعا. يتذكر بشكل خاص تواجد المطرب المصري، الذي حقق شهرة واسعة في العالم العربي كله بين خمسينات وسبعينات القرن الماضي، عبد الحليم حافظ، في طبرقة، في ذلك الصيف نهاية الستينات.

كان ذلك تحديدا في صيف 1968. كان مرّ عام على هزيمة جيوش عربية في حرب خاطفة مع إسرائيل، ما روّج له في الأدبيات السياسية والثقافية مباشرة، وإلى يومنا هذا بوصفه "عام النكسة". قد يشير المصطلح في اللغة إلى فعل الهمود أو السقوط "الطارىء"، وإن كان من غير المستحيل تداركه، من أجل "انطلاقة" متجددة. في الوقت ذاته، لم يكن كبد أحد مغنيي القومية العربية والاشتراكية الناصرية الأشهر، أي العندليب، على أفضل حال، رغم حالة الفرح التي أحاطت بوجوده في تونس، واستقباله من قبل رئيسها ومؤسس نهضتها الحديثة ما بعد الاستعمار، الحبيب بو رقيبة.

على "مسرح الزهور"، حاول "العندليب" أن يقنّع كبرى الهزائم، بابتسامة تبدو بريئة، لكنها، من عمق الأسى، تتوسل النجاة

فحليم، في ذلك الوقت كان في زخم رحلة تلاش بيولوجي مستمرة، وخلفت ستون عملية جراحية، الكثير من الندوب في جسده النحيل، كما زادت من احساس "البارانويا" المقيم عنده، منذ اليتم الأول، بأنه ذاهب إلى نهاية محتمة لحياة قصيرة، وإن مجيدة، لذلك يتوجب عليه، كما في رحلة الأفيال السائرة بخطى واثقة إلى مدافنها، أن يمشي لكهفه مرفوع الرأس، منتصرا، وملكا متوجا، بلا هزيمة وبلا انكسار.

خاص المجلة تصوير إبراهيم توتونجي
لم يعد مسرح الزهور الذي احتضن نشاطا فنيا موجودا وتمت ازالته وحلت مكانه الاسواق الشعبية

على "مسرح الزهور"، يحاول أن يقنّع كبرى الهزائم، بابتسامة تبدو بريئة، لكنها، من عمق الأسى، تتوسل النجاة.

تظهره لقطات أرشيفية، متاحة على منصة "يوتيوب" اليوم، صوّرت لبرنامج زيارته، الذي تضمن البروفات واللقاءات الإعلامية والزيارات السياحية للشاطىء والجبل، مهللا، فرحا، يمشي بخطى حماسية قافزة. لكنه، مترنّحا بين مقام موسيقى "أثر كرد"، وبين دقته الملحاحة التي عرفت عنه، في جلسات بروفات الأغاني مع العازفين، يخلط فائض المودة مع فائض القلق والتركيز. ربما يحفر في صدره إحساس دفين، بأن تونس، خلطة الجمهور المحب وجمال الطبيعة، والتوجه الرسمي الذي يتعاطى بخفة مع المشاعره القومية النارية، ويعادي بوضوح الفكر الناصري، قد تمنحه استراحة "محارب" يحتاج إليها لكي يرمم فجواته النفسية، ويتأمل في مفاهيم كثيرة معقّدة وقاسية، قد يكون ثقلها أكبر بكثير، من قدرة جسده الواهن على التفاعل معها (الخيانة، الصداقة، المذلة، الأمل، الوهم، الحياة نفسها)...

في قاعة البروفات في المسرح، سوف يعود إلى صورته القلقة، بعيدا عن أثر "الزهور"، فيما يمرّن أعضاء الفرقة على توزيع موسيقى القصيدة. بجسد متشنّج، وعينين تطلان بشجاعة من وجهه النحيل، بفعل الاثارة والانضباط ومسؤولية النجاح، يحدد حليم الايقاع الذي يجب أن يتردد حول وصف حالة بطل الاغنية، بعد انهياره، على اثر الهزائم:

•شك: حليم يشير بيديه إلى أسفل، إلى شيء ما ينبع من العمق، ويتوجب عليه أن يبقى هناك. مدفونا للأبد. يشفّر هذا الاحساس الذي يغلف الكلمة بمقطع صوتي. يبدو كمدرّس يستخدم الإشارات والأصوات لكي يوصل فكرته إلى تلامذته في الفرقة. ينطق مصمما على "الدفن": "با".

•ضباب: يطلب حليم هنا ايقاعا أعلى. مع لفظ كلمة "ضباب" يمدّ ذراعه عاليا، إلى هناك، حيث تسبح الغيوم ويهيم الدخان. في سديم الانتصارات المشوّشة التي ساهم العندليب، لأكثر من عقد من الزمان على الترويج لها، قبل مجيئه لـ"مسرح الزهور". مشهد، غالبا، يذكرنا بانفعال الذراع الممتشقة كتحية ممنهجة ومؤطرة ومروجة. عصبية قد تخلو من أي عاطفة أصيلة، هدفها تحية القائد، صانع الانتصارات. إن كثرة مدّ تلك الأذرع في الهواء، من الجائز أن تولّد تخديرا عصبيا يؤثر على وظائفها على المدى الطويل، ويغدو من الصعب على صاحبها، أن يطوّعها بشكل ممتع، طمعا بأحاسيس غامرة، مثل ضم خصر سعاد حسني، أو التربيت باخلاص على كتف رفقاء الطريق، أو تقليص الألم المتأتي عن فردها المتكرر على أسرّة المستشفيات. في الضباب، وبذراع مرفوعة، أشبه بذراع تمثال الحريّة، صنع حليم تمثاله وشكّل واحدة من أجمل ذاكراتنا الموسيقية الشرقية، بموازاة عمله الدؤوب بنحت تمثال للقائد.

غنّى نجم طبرقة في ذلك الصيف، وارتدّت اصداء أغنيته عن "الشك والضباب والحطام" على مشهد مدينة، بدأت رحلة ذبولها

•حطام: عند هذا الوصف، يطلب حليم، أثناء البروفة، من فرقته، أن تمدّ الإيقاع. إنها لحظة الحقيقة الوحيدة ربما في البروفة، أو خلال برنامج زيارة طبرقة في ذلك الصيف. فعلى الرغم من اللون الأبيض المشعّ في أزرار الفلّ ومن المراكب البيضاء المفرودة على موج المتوسّط، والضحكات النابعة من قلب المتمايلات ومزاج الرجال، فإن ذلك الزمن الذي تلا "نكسة" الصيف السابق على الحفل، كان لا ينذر بغير الحطام، وعلى كافة المستويات. غنّى نجم طبرقة في ذلك الصيف، وارتدّت اصداء أغنيته عن "الشك والضباب والحطام" على مشهد مدينة، بدأت رحلة ذبولها، مع الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية، التي عصفت بالمنطقة وتونس، بما فيها معضلة سني الفساد، ثم التشدد، ثم التحديات الاقتصادية، وغيرها من الاستحقاقات التي واجهتها تونس على مدى عقود.

خاص المجلة تصوير إبراهيم توتونجي
حلت مشغولات القش التذكارية الخفيفة مكان الصناعات التذكارية القيمة المعتمدة على المرجان والفلين

بعد مرور 57 عاما من تلك اللحظة، التي ربطت المصير الشخصي لواحد من أهم مغني مصر والعالم العربي في القرن العشرين بالمصير الجماعي لازدهار الفنون في الحواضر العربية، ليس هناك وجود اليوم لصالة "الزهور" التي توقفت منذ زمن عن العمل، ولم يعد هناك ضرورة للحفاظ على ذكرى العندليب، والعشرات غيره من الفنانين الذين زاروا هذا المسرح، فاتخذ القرار بإزالته.

تكسرت زهور الأنغام، كما تكسرت الأحلام في "غابات الفلين" الطبرقية.

الأيل يغادر غابته

" جاء البلاستيك وقتل كل شيء. لم يعد أحد يرغب بالفلين، كما في الوقت السابق"، يقول عبد الحميد.

خلال السنوات الماضية، انخفض الطلب على مادة الفلين، التي كانت تصنع منها سدادات أنواع كثيرة من المشروبات. على إثر ذلك، أهملت غاباته، وارتفعت الشجيرات الضارة القصيرة اللئيمة بين أشجارها. الأمر الذي أدى إلى زيادة معدلات اشتعال الحرائق. جف العسل في قفران النحل التي يدسها المربون في المساحات المفتوحة في عمق الغابات، وهرعت "الأيائل البربرية"، وهي سلالة باتت نادرة من "الأيائل الحمراء" لطالما رعت في غابات الفلين في شمال أفريقيا، بين تونس والمغرب والجزائر، إلى مصير انقراضها الصامت. في غياب موائلها الطبيعية.. حيث كانت، على مدى قرون، تتخفى وتأكل الفاكهة والنبات البري، وتتغذى إناثها على نبات "النفلة" ونبات "السلة" المدرين للحليب طيلة 226 يوما من الحمل، لكي تنجب "فونا" واحدا (ابن الأيل).

يقدر الخبراء أنه خلال 6 سنوات من اليوم، ستقضي الحرائق على أكثر من 180 ألف هكتار من غطاء تونس الغابي

يقدر الخبراء أنه خلال 6 سنوات من اليوم، ستقضي الحرائق على أكثر من 180 ألف هكتار من غطاء تونس الغابي.

حب على الشاطىء

لكن الصورة ليست قاتمة تماما. لا يزال شباب المدينة يحلمون بالحب و"الجاز"، ولا يزال قوس قزح، يخرج فوق البحر، راسما خلفية لأحد أبهى شواطىء الضفة الشرقية للبحر المتوسط.

خاص المجلة تصوير إبراهيم توتونجي
لا يزال شاطىء المدينة مقصدا للشباب الذي يقضون عليه اوقات هادئة مع غياب ملحوظ للنشاط الثقافي

صباحا، صوت مغنية تؤدي لأم كلثوم "يا حبيبي.. كل شيء بقضاه" يأتي من صوب "النادي البحري" ونورس يلهو فوق صفحة المياه، ويافعون يتراكضون خلف الكرة بين نخلات باسقات في الساحة التي تفصل الواجهة البحرية عن الحي الداخلي.

انزوى عاشقان أسفل بناء مهجور، أمام مرجة خضراء نما فيها زهر أصفر متعجّل، احتفى بسقيا المطر والحرية. يبتسم الشاب. "تحشم" (تخجل باللفظ التونسي) الصبية. يظهر قوس قزح فجأة فوق البحر. مثل سحر ينعكس على مرآة الوجود، ليذكّر أن ما من أسطورة لا تتحقق، وما من لون رمادي لا تقزحه الألوان.

يخبر العاشق أن قوس القزح، باللغة الأمازيغية، يشير إلى حكاية "عرس الذيب" أو تّريذ أو ووشّن. عن ذئب لم يشأ أن يتزوج، وحين الحت عليه "عشيرته"، تهرّب، ثم وضع شرطا، ظنّ أنه عصي على التحقق: فقط حين يهطل مطر، وتشرق الشمس في ذات اللحظة. ظنّ الذئب أنّ هذه المعادلة، تضمن نقيضين لن يجتمعا، مقللا من شأن إعجازات الطبيعة.

وذات يوم، أطلّت شمس، من نافذة المطر، ورقصت "عروسة السماء" (ثيسليث أوجنّا) التي نسميها بالعربية "قوس قزح" رقصتها الأثيرية الملونة، فاستحق القوس اسمه جديد:" عرس الذيب". يهطل المطر. يختبىء العاشقان. تتردد من أصداء الماضي عبارة ترتبط كثيرا بالحب والمطر والدفء.

خاص المجلة تصوير إبراهيم توتونجي
تنتظر طبرقة سياسات ثقافية تعيد اليها مجدا في التاريخ الفني بات باهتا اليوم

كل هذا "الجاز"

كانت أميرة صغيرة حين انطلق "مهرجان الجاز" لأول مرة في طبرقة.

ابنة القصاب، الذي يحب الحياة والفن والموسيقى والطرب، وسمى بنتين له على اسم مطربتين مصريتين شهيرتين "نجاة" و"شادية"، كانت لا تزال تتمتع بقدرتها على السمع، قبل أن تصاب بالتهاب طارىء في الأذن، يتفاقم ويتمدد، مع الاعتماد على وصفات شعبية ضارة في علاجه.

بخلاف الحفلات التي أخبر أخوها أنه حضرها يافعا عند الشاطىء، وفي "مسرح الزهور" المنقرض، لا تتذكر أميرة عن حفلات تمكنت هي من حضورها.

تمتد المدينة، بحنين مهمل إلى ماض ثقافي أنيق، تنتظر أن يحرك عازف شجاع ما، مفاتيحها، ويضبط الصوت

علينا أن نشير هنا الى أن "الجاز"، فورة حداثة الستينات، وأحد رموز ثوريتها، لم يرحب به أبناء المدينة على الفور، وبقي المهرجان لسنوات، موجها إلى السياح والمقيمين الأجانب.

شهد المهرجان خلال عقود، دورات ذائعة الصيت، تأخر في مرات، تعثر في مرات أخرى، ولم يظهر في مرات كثيرة.

خاص المجلة تصوير إبراهيم توتونجي
اشتهرت طبرقة بصنع أثاث البيوت من خامة الفلين الذي كان ينمو بكثافة في غاباتها لكن هذه الصناعة باتت نادرة اليوم

قصة "مهرجان جاز طبرقة" في تونس، مثل الكثير من القصص، لا يمكن عزلها عن فصول الطموح والابداع، وأيضا الفساد والتربص والإهمال وحتى الثأر والانتقام. هكذا، فقدت المدينة الساحلية واحدة من فوراتها الثقافية التي ميزتها، كما فقدت، السيرك ومسرح الزهور ومسابقات المراكب الشراعية وصالة السينما، وانتشرت فيها أسواق الملابس والأحذية المعاد استعمالها، وفضاءات مهملة يعجنها طين الشتاء.

مثل ساكسفون عملاق، يبدأ أنبوبه من أعلى التل، حيث تسكن أميرة، ويتفتح جرسه، عند البحر، تمتد المدينة، بحنين مهمل إلى ماض ثقافي أنيق، تنتظر أن يحرك عازف شجاع ما، مفاتيحها، ويضبط الصوت. ينفخ، يسقط الصوت على جدار عامود الهواء، يتضخم، ينتشر مجددا في الفضاء، صادحا بتاريخ قاطني الضفة الشرقية من البحر الأبيض المتوسط، ناقلي رسائل الحضارة ومحبي النماء والخير.

في صباها، فقدت أميرة حاسة السمع لكن الله حباها ببصر نافذ، يتيح لها اليوم التقاط "كل شاردة وواردة" في بيت "الدشرة". وذات يوم، ارتبطت طبرقة، عبر ثروتها الطبيعية، بقوة البصر، عبر رمزية المرجان الأحمر الذي كان ينمو بسخاء في أعماقها البحرية. اذ يرد في كتاب التراث على لسان مملوك قبجاجي، سبي يوما في مدينة حماه في سوريا، قبل أن يتحرر ليصبح سيدا، شيئا عن فوائد ذلك المرجان. يقول: "ينفع من وجع العين ويذهب الرطوبة منها إذا اكتحل به، ويقطع اللحم الزائد في قروحها".

يبدو تردي المشهد الفني والثقافي في المدينة التي احتفت ذات يوم بأنغام الشرق والغرب بأشد الحاجة اليوم إلى من ينظر إليه اليوم مكتحلا بالأحمر.

font change

مقالات ذات صلة