التونسي محمد سامي بشير يستلهم التبريزي في ترحاله الفني

العمل المعاصر انعكاس لذواتنا وواقعنا وتاريخنا

محمد سامي بشير

التونسي محمد سامي بشير يستلهم التبريزي في ترحاله الفني

محمد سامي بشير فنان تونسي متعدد الوسائط مشغول بهم المعاصرة وجعلها في خدمة إظهار الهوية الثقافية التونسية، كما أنه ناشط على مستوى الترويج العام للتراث التونسي. بعد أن قدم معارض تشكيلية عدة تضمنت لوحات تهجس بزرقة البحر، طور نتاجه الفني حتى حقق التوافق ما بين المساحات المفتوحة التي تحاكي الصحارى، والعيون المائية المقيمة في الواحات وتلك التي تتوسع مآقيها حتى تنفتح على طول الشواطئ الساحلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط.

ولد بشير عام 1972 وحصل على دكتوراه في الفنون الجميلة من جامعة "السوربون" الباريسية، وهو عاشق لمدينة منستير وزرقة بحرها، ومسكون بأجواء مدينة تورز المتميزة بالمسطحات المائية والأودية الضيقة وواحات النخيل والأحياء القديمة والمباني ذات الطوب الملون. كما أنه فنان مشبع بمشاهد سيدي عبيد وجزيرة جربة، لؤلؤة الساحل التونسي التي هي أيضا جزء من أساطير البحر المتوسط.

في محاكاة المعاصرة

يترأس محمد سامي بشير "الجمعية المتوسطية للفنون المعاصرة" التي نشأت سنة 2011، وتهتم بالممارسات الفنية المعاصرة في تونس وتنظم لقاءات فنية وفكرية وتعنى بإنشاء فضاء مشترك تقع فيه إثارة مواضيع علمية تتصل بالممارسة الفنية المعاصرة ذات التوجهات المتعددة. على سبيل المثل، أطلعنا الفنان أن الجمعية سبق أن تناولت موضوع تعدد الاختصاصات في الفنون التشكيلية نظريا وعمليا، ومواضيع أخرى كالترحال والتحرر من حدود الجغرافيا، ودور التكنولوجيا الرقمية في الممارسة الفنية المعاصرة، وهي مواضيع تهم أجيالا مختلفة من الفنانين والباحثين على السواء في مجال الفنون التشكيلية المعاصرة.

لا أبحث عن التنصيص بالمعنى المباشر، بقدر ما أحاول أن أضمن أعمالي أبعادا تسعى إلى مساءلة الأثر

في وهج هذا العمل الثقافي الناشط برز محمد سامي بشير من خلال أعماله الفنية المعاصرة التي  تشبه أشعارا مرسومة بخطوط دقيقة وغليظة ومتداخلة بشكل كبير. غير أنها أشعار بصرية لم يقتبسها من قصائد الشعراء بل استقاها من أجواء عالم الشعر الواسع. ليس من الغريب العثور على هذه النفحة الشعرية في مجمل أعمال الفنان ولا سيما الأخيرة التي تبشر باستمرار عنصر الماء سيالا كالروح في أجسادها.

المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر تونس

يذكر بشير لـ"المجلة" أنه لا يكتب الشعر "لكنني أستسيغه وأنجذب إلى عالمه كمصدر إيحائي شديد الغنى. في الحقيقة هناك قنوات عديدة ومتشعبة تقيم تداخلا بديعا بين الفنون، لذلك لا يمكن أن نعزل الشعر عن الفنون الأخرى. ففي الشعر الكثير من البحث عن المعاني الجديدة وعن الأفكار والمشاعر المحركة للغة، فالفرق بين اللغة الحية واللغة الميتة أو المندثرة، هو في قدرة الشعر والنثر على تجديد المعاني فيها. فكما تكون اللغة حية من خلال الشعر كذلك الأمر في الفنون. هناك بعض الخطوط في لوحاتي تبدو كتابة لكنها ليست كذلك بالمعنى المباشر. هي خطوط مرئية لا تقرأ إلا باللغة البصرية، وهذا جوهري بالنسبة إليّ، لأنني لا أبحث عن التنصيص بالمعنى المباشر، بقدر ما أحاول أن أضمن أعمالي أبعادا تسعى إلى مساءلة الأثر ومعناه في تجلياته المختلفة".

المد والجزر

يستخدم الفنان تقنية التواتر ما بين النافر والمقعر، وهو نوع من الخداع البصري أراد من خلاله إنشاء أبعاد توحي بكثافة المادة اللونية في خدمة تظهير عالم خافق بالخيال ومتجانس مع الواقع على السواء. تتراوح المواد اللونية التي يستخدمها ما بين كونها مواد مسطحة لا كثافة فيها وتشكيلات قوامها النتوءات المحسوسة. هذه المرواحة بين الحالتين خلقت شيئا من الخداع البصري ووهم ثلاثية الأبعاد. وحين سـألنا بشير إن كان هذا الخداع البصري الذي ركن إليه، له نقطة انطلاق محددة، أجاب: "الحقيقة أن عملي ليس له بداية محددة. لا نقطة ثابتة أو واحدة أنطلق منها في تنفيذ العمل الفني. أبدأ أحيانا بتكثيف الطبقات اللونية ومراكمة أبعادها وظلالها ثم أجعلها مسطحة. وأحيانا أخرى أحول الطبقات الرقيقة الأولى إلى كتل لونية بارزة، وهكذا دواليك. العلاقة بين الفنان واللوحة يجب، في نظري، أن تكون علاقة يحكمها المد وجزر بين الكلمات والصور، وبين الأفكار والمشاعر، وبين الكثافة والرقة. أما بالنسبة إلى المسافة البينية التي تفصل بين نظرة المتلقي والعمل الفني فهي على عكس ما نتصورها، مسافة تفاعلية تقربه من العمل وتجعله ينسج صورا في خياله لها أصداء عميقة في نفسه".

العلاقة بين الفنان واللوحة يجب أن يحكمها المد والجزر بين الكلمات والصور وبين الأفكار والمشاعر

حركة المد والجزر العزيزة على قلب الفنان ليست فقط في علاقة الأعمال الفنية بالناظر إليها، بل هي في صميم عمله الفني الأهم حيث أرسى منحوتاته في قلب ماء البحر المتموج وعلى عتبة الصحارى الجارفة برمالها على هوى الريح و اختلاف الفصول.

محمد سامي بشير

حدود اللوحة

تنشغل أعمال محمد سامي بشير، لا سيما تلك التي تهجس بالزرقة البحرية المشرفة على ألوان الصحراء، بانفتاح الحدود المغلقة، لذا كان سؤالنا حول هذا الانفتاح، فأشار إلى أن هذا المدى وهذا الانفتاح الحاضر دوما في أعماله السابقة والحالية هما منحى فكري وفني يسعى دوما إلى تطويره: "أشتغل في حقيقة الأمر على حدود اللوحة. تهمني الحدود المعاصرة لها، وكيف يمكن أن تنفتح على مساحات غير محدودة. ومن هنا جاء مشروع 'الرؤى الإحدى والأربعون في العشق والفنون' الذي كانت نقطة انطلاقه من "قواعد العشق الأربعون" لشمس التبريزي، لكنني انتقلت فيه من مجال الروحي والمقدس إلى مجال  بصري/ تشكيلي. نزعت عن أعمالي المرتبطة بهذا المشروع صفة 'القواعد' واستبدلتها بـ'الرؤى'، وهو تعبير يناسب فكرة  التحرر من القيود، ومتصل بالفكر المنفتح على كل الاحتمالات".

فكرة المشروع معقودة على الجغرافيا المحتضنة للعمل المكون من أجزاء  تخطت أكثر من 120 قطعة فنية توزعت على منشآت تراثية مختلفة في تونس. الأعمال الفنية الكبيرة والمتوسطة الأحجام لم تكن في هذه الأماكن معزولة عما يحيط بها، بقدر ما كانت أعمالا حية تتحاور في ما بينها وتتفاعل مع الجغرافيا المتنوعة التي زرعت فيها. موقع المشروع الفني المفتوحة حدوده، كان موقعا تفاعليا بامتياز ويشبه بصريا أدب الرحلة الذي يعتبر من أهم المصادر التاريخية والجغرافية والاجتماعية إذ يستقي الكاتب سرديته من الواقع.

محمد سامي بشير

عن هذا المشروع يقول الفنان: "جاءت أعمالي بشكل نصب مرتحلة ومتحركة، أي يمكن تغيير موقعها. وقد قمت فعلا بتبديل مواقعها مرارا وإعادة تجميعها بهيئات مختلفة لتبدو مراحل متطورة من رحلة طويلة وواحدة، رحلة  فنية وبصرية في الجغرافيا والتاريخ. بذلك خرجت الأعمال على منطق الأعمال الفنية التي نجدها في الأروقة المغلقة كالمتاحف وصالات العرض. شمخت في رحاب الهواء الطلق وتحت تأثيراته وعلى مرأى من كل العابرين والقاصدين رؤيتها على السواء، إذ لم تكن مهندسة كي يراها فقط من دخل إليها عبر أبواب مراكز تحدها الجدران".

أرسم حالات تأثري بتقلبات البحر وألوانه وبخطورة تياراته وروعة السكينة العارمة التي يبثها في نفسي حين هدوئه

أما عن نصب الأعمال في مواقع أثرية وتراثية مختلفة، فيقول الفنان إنه هدف من خلال ذلك إلى طرح أسئلة دقيقة في مقدمها: "كيف يمكن أن نحدد هويتنا كتونسيين من خلال موروثنا التاريخي والتراثي؟ العمل المعاصر بالنسبة إليّ لا يكون معاصرا بالطريقة الفرنسية أو الأوروبية بل بكونه انعكاسا لذواتنا وأفكارنا وهواجسنا وواقعنا وتاريخنا كتونسيين أصحاب حضارة عريقة".

محمد سامي بشير

أفلاك الزرقة

الناظر إلى أعمال بشير يدرك أنها لا تقوم على محاكاة البحر بقدر ما على استنطاق متعدد الأوجه لبواطنه. فأفلاك الزرقة شبيهة بعيون محدقة تارة، ولواقط سحرية ترصد أحوال البحر وتلتقط أسراره تارة أخرى. كما يبدو في أحيان أخرى أن هذه الأفلاك تعاين تبدل درجات حرارة الجو وتقلباته وصولا إلى شواطئ التساؤل حول معنى الوجود بالمطلق.

يقول بشير: "البحر بالنسبة إلي هو الحياة بأعماقها غير المحدودة، وصوره لا تنفك عن أن تكون مثيرة وموحية ومحفزة على التفكير. لا أجسد البحر بأسلوب واقعي، إنما أرسم حالات تأثري بتقلباته وألوانه وبخطورة تياراته وروعة السكينة العارمة التي يبثها في نفسي بهدوئه. أما ماء البحر فيحيلني إلى أصل الحياة والولادة، وعينه الزرقاء التي تحضر بقوة في مجمل أعمالي، هي العين الفيلسوفة. اللوحات تشبه باستدارتها بؤبؤة العين والعين فيها ماء يشي بعمق اللوحة وبواطنها وكل ما يندرج ضمنها من تساؤلات وجودية بعيدة جدا عن الحكائية المباشرة".

font change