أمين معلوف وإعادة الابتكار

أمين معلوف وإعادة الابتكار

استمع إلى المقال دقيقة

اتسمت أعمال أمين معلوف الروائية، بغنى المتخيل والرؤية والذاكرة التاريخية، ليصبح معلوف أهم روائي فرنسي-لبناني "خالد" (بمعنى الانتماء إلى الأكاديمية الفرنسية التي تصف أعضاءها بـ"الخالدين") من العصر الحديث، من الكُتّاب الفرنكفونيين. فاعتقدَ البعض أنه تخلد ليس بسبب إبداعه، بل بسبب شعبيته الجغرافية الممتدة إلى لغات مختلفة. وبسبب اللغة الفرنسية التي كتب بها. محاولين إلغاء خياله ورؤيته، لذا أحِبُّ اليوم الحديث عن معلوف كمبدع كيف أسس شروط وجوده وهاجس انتسابه الإبداعي والجمالي الخاص.

فقبل سنوات دراستي في لبنان، تعرفت على أفراد من بيت معلوف، ومعظمهم كانوا أحفادا لأبناء عمومته المتفرعين من ذات الشجرة، وحسب رواياتهم أنه كان يتحدث في البيت العربية والفرنسية، لأنه نشأ في عائلة أكاديمية ناطقة بالعربية، وفي المقابل تعلم وهو شاب اللغة الفرنسية في المدرسة، هذه اللغة التي فتحت له آفاق الأدب العالمي. أما بداياته مع اللغة الفرنسية فقد كانت هي اللغة التي كتب بها أفكاره السرية، ورسائله الغرامية فقط، وفي وقتٍ لاحق، وأثناء ممارسته مهنته الصحافية، كتب مقالاته باللغة العربية، وهذا يعني أن اللغة الفرنسية لم تكن لغته الأساسية إلا بعد وصوله إلى فرنسا عام 1976، هربا من الحرب الأهلية، لتحل محل اللغة العربية. لكن البعض يؤكد أنه واجه صعوبات تعنى بحرية التعبير أثناء كتاباته المقالات باللغة العربية في بيروت، فعلى الرغم من قوته اللغوية، كان نقد المحرر له على مقالاته جارحاً قبل النشر، من حيث الصياغة والنحو، وكذلك الأفكار التي يطرحها، مروراً بالتقدير المالي الهزيل، ليترك الكتابة بالعربية إلى غير رجعة.

ولا أظن أن السبب هو عدم تقديرهم لآرائه، أو محدودية حرية التعبير في ظل الحرب، لأنه حتى بعد استقراره في فرنسا واختياره اللغة الفرنسية التي صنعت شعبيته وشهرته، لم يكتب آراءه مباشرة عن حاضره، بل أخذ يتبحر في الماضي، وينغمس فيه ليعيد ابتكاره، وكأنه يتساءل حول حاضره بسؤال الماضي، فيتأمله ثم يجدده بتقديم وجهات نظر جديدة، كما فعل في كتابه الأول "الحروب الصليبية كما رآها العرب" 1983، وهو عمله التاريخي الأول، الذي أصبح من الروائع في العالم العربي، وليس في لبنان فحسب.

رفضه المطلق للغرابة الاستشراقية التي دونها المستشرقون يوما عن الشرق، جعلته يكتب رواياته التي حددت مسار أعماله المستقبلية، وكأنه نبي شرقي ذهب للغرب كي يصحح لهم ما ارتكبه المستشرقون في حق أمته  

إذن لم تكن اللغة الفرنسية وحرية التعبير والتقدير المالي سوى أسباب صغيرة أمام سؤاله الأكبر في أعماله. فأعماله اللاحقة إلى جانب أنها تميزت بالحرية وإبداع الأسلوب، كان الأهم فيها هو رفضه المطلق للغرابة الاستشراقية التي دونها المستشرقون يوماً عن الشرق، وجعلته يكتب رواياته التي حددت مسار أعماله المستقبلية، وكأنه نبي شرقي ذهب للغرب كي يصحح لهم ما ارتكبه المستشرقون في حق أمته.  

ومن ناحية اللغة الفرنسية وقراء هذه اللغة، فقد وجدوا في موهبته ما ذكّرهم بقصص ألف ليلة وليلة... وكما يتراءى لي فإن أمين معلوف أخذ يستمع إلى آراء القراء والنقاد بعد روايته الأولى، ومن تلك الآراء انطلق في مشروعه السردي الإنساني وبشكل حازم، وأصبح توجهه أن يقدم ترددات الماضي والحاضر والعام والخاص كصدى للمستقبل، يجمعهم في سيرة ذاتية أو جماعية في شخصياته السردية المستمدة من التاريخ، وهي تصارع السلطة، كما "ليو الأفريقي" و"سمرقند" وحتى في رواية "رحلة بالداساي" يطرح معلوف أسئلته الخاصة بالمجتمعات المعاصرة.

إذن خيال أمين معلوف وبُعده الفلسفي هما سبب شهرته الواسعة ونجاحه الشعبي والنخبوي، ليكمل مسيرته في الكتابة ويصدر "الهويات القاتلة"، وكأنها امتداد لتأملاته حول الإنسانية في عصر الثقافات واللغات المشتركة، ويصل إلى الهوية في المواقع بين الشرق والغرب، يطرحها من موقعه هو، يكتب كمتأمل تارة، وكباحث وفيلسوف يطرح آراءه التي تبدو جوهرية بالنسبة له هو. ربما لم تعجب القراء العرب كتاباته حول الهوية مقارنة برواياته، بينما عدته الصحافة الغربية من الكتاب المنفتحين على العالم، على الرغم من تلك المسافة المضطربة بين رؤيته وسيرته وقلبه، ما جعله خالدا بسبب رؤيته وإعادة ابتكاره في كل ما كتب.

font change