تغريد أبو شاور لـ"المجلة": صوتي صوت كائن مبحوح أعياه النص

تؤمن بعودة القصة القصيرة عبر الوسائط الجديدة

Al Majalla
Al Majalla

تغريد أبو شاور لـ"المجلة": صوتي صوت كائن مبحوح أعياه النص

تعد الكاتبة الأردنية تغريد أبو شاور من الأصوات اللافتة في عالم القصة القصيرة المعاصرة، صوت يغوص في قضايا إنسانية كبرى بأسلوب سردي رشيق.

رغم وفائها للقصة القصيرة وإصدارها مجموعات تنتمي الى هذا الجنس، إلا أنها خاضت غمار الكتابة في فنون أدبية أخرى كالمسرح والرواية.

تحفر صاحبة مجموعة "خرز" عميقا في النفس البشرية وما يعتمل داخلها من هموم وهواجس وأوجاع وانكسارات وأحلام، وتحتل المرأة حيزا من مشروعها الأدبي لتكون شخصياتها النسائية فاعلة، منبهة إلى ضرورة تشكيل دور المرأة الواعي والمتجدد والناقد في المجتمع. هنا حوار "المجلة" معها.

ما الذي قادك إلى عالم الكتابة؟ وما الرابط بين تخصصك الأكاديمي في الجغرافيا وبين الأدب كتجربة إبداعية ميزتك لاحقا؟

الفتاة الحساسة فيّ، في فترة المراهقة وخلال نضوجها، كانت تلتقط صور المواقف الاجتماعية بطريقة غريبة، تتدارسها مع حالها وتحفر في نفسها أخدودا لم تحفر في نفس من شاهدوها معها ولم يروا فيها ما رأته، ولا استهجنوا هذه الموقف كما كانت تفعل. لذا، فإن نظرتي الى هذه المواقف كانت متناقضة مع نظرة أقراني، مما جعلني أسبر أغوار كل ما أراه فيعتمل في خاطري على الورق.

هكذا وجدتني أحفر وأبحث في جيولوجيا النفس البشرية وطوبوغرافيا نفسية الآخر... أذكر أنني عندما درست عن مراحل نمو النهر من الولادة حتى الشيخوخة، كنت أسقط ما أدرسه على البشر. فقد انتبهت إلى الحفر في الذات الإنسانية تماما كما الحفر في الأرض، فشق النهر طريقه تماما كشق الجسد طريقه في رحلة الحياة، وبالتالي فإن دراسة الجغرافيا جعلت مني أكثر حساسية للروح البشرية وطياتها وانكساراتها.

لكل كاتب صوته الخاص الذي يميزه. كيف تصفين صوتك الكتابي؟

صوتي صوت كائن مبحوح أتعبه النص وأعياه الشرح، صوت يبحث عن المشترك بين الناس، عن الحياة البسيطة التي سلبتها المدنية في غياب التمدن، وأنهكتها الحداثة في غياب إعمال العقل، واستنزفها الخضوع الأعمى للتقاليد التي تقتل الفرد لصالح الجماعة الخاضعة.

المرأة والرجل

تحضر المرأة "الفاعلة" بقوة في أعمالك، هل تمنحين شيئا من تجارب اطلعت عليها إلى شخصياتك النسائية أم تتكئين أكثر على الخيال؟

أتكئ على المرأة الحقيقية والواقعية، فكل امرأة كتبت عنها كانت صورة حية ونموذجا صارخا في الواقع، يعبر عن هم شخصي أو ثقل مجتمعي أو عبء ثقافي، أو اغتراب أو انسلاخ، من خلال تجارب نساء حقيقيات.

كل امرأة كتبت عنها كانت صورة حية ونموذجا صارخا في الواقع، يعبر عن هم شخصي أو ثقل مجتمعي أو عبء ثقافي

صحيح أنني لا أعرف أسماءهن، لكنني كنت التقيتهن في مكان ما، وتعرفت اليهن، وخبرت تجربتهن التي تخمرت في ذهني وأثرت في نفسيتي، فصغتها بطريقة تجعلهن يجدن أنفسهن في تلك القصص، وبطبيعة الحال، فأنا كأي كاتبة أو كاتب أضفت الكثير من وجهات نظري وخلاصات تجاربي الخاصة على هذه القصص.

ما الخيط الناظم لحكايات النساء في مجموعاتك القصصية؟  

الخيط الناظم هو أحداث شخصية خاصة بكل امرأة من نساء المجموعة. أحداث قد تقتل النساء دون أن يلتفت أحد إليها، تلك التي قد يعتبرونها في الغالب حدثا غير موجع ولا مؤذ.

وماذا عن الرجل؟ كيف ترسمين صورته؟ وهل تعتقدين أنه بدوره "أسير" نمطيات أدبية؟

بالعكس، كسر الأدب الحديث -بما في ذلك الرجل في قصصي- صورة الرجل النمطية التقليدية المتمثلة في "سي السيد" أو القوي أو الخبير أو صاحب الجبروت، فصارت له أدوار وملامح جديدة غير مطروقة، ومختلفة عما كان عليها في السابق، حيث نجد الرجل مرتبكا حنونا أحيانا، عاشقا بواحا في أحايين أخرى، ملهما ضعيفا قليل الحيلة، أو كئيبا، متنحيا عن الأدوار التي كانت حكرا عليه ولا تتحقق إلا من خلاله.

حاول الأدب ضمنيا تغيير ما سئمه المجتمع في الرجل التقليدي بصورة خفية وأعاده الى طبيعته وحالاته وانفعالاته المختلفة فأخرجها (أي هذه الحالات) الى الضوء، ومن ثم بدأ المجتمع بالتماهي مع صوره الحقيقية هذه.

في عبارة لك: "سأظل كحلا في مجتمع فيه المرود مكسور"، تحميل كبير لمسؤولية الكتابة عن النساء. كيف ترين دور الكاتبة في إعادة تشكيل صورة المرأة في المجتمع؟

هذه العبارة لشخصيتي المحورية في مجموعتي "كحل"، وكانت بطلة هذه المجموعة تسمى كحل، ومن اسمها أخذت قوتها وسوادها وثباتها. ليس المراد من هذه العبارة دعوة الى تحمل مسؤولية الكتابة عن النساء في متن القصة، إنما مسؤولية الكتابة عن الحياة في مجملها.

كسر الأدب الحديث صورة الرجل النمطية التقليدية المتمثلة في "سي السيد" أو القوي أو الخبير أو صاحب الجبروت

في هذه المجموعة استطعت من خلال شخصيات نسائي تشكيل دور المرأة الواعي والمتجدد والناقد في المجتمع، فالكاتبة بوصفها امرأة، هي الأقدر على إعادة تشكيل صورة المرأة في المجتمع، وهذا ما نلمسه في عصرنا الراهن الذي جعل المجتمعات في كل بقاع العالم تتواضع لتمنح المرأة حقها نتيجة إسهامات نسائية كثيرة في الكتابة الفكرية والأدبية.

في مجموعة "خرز" توجهين رسالة إلى "الرجل الذي في خاطري"، من هو هذا الرجل؟

هو الرجل الذي في خاطر كل امرأة، يظل في خاطرها حلما مستباحا بعيدا عن واقع قد يكون فيه أبعد ما يكون عن الخاطر.

مفاتيح البداية والنهاية

تميلين في عناوينك مثل "نمش" و"كحل" و"خرز"، إلى حضور أنثوي واضح. هل هو اختيار واع؟ وماذا يعني لك العنوان كعنصر فني؟

التكثيف في العنوان أحد أغراضي في الكتابة، إذ تختزل الحروف الثلاثة حيوات كثيرة مثيرة بمشاعرها ومشاكلها وانضباطها وتمردها، فكان كل عنوان يأخد مني وقتا طويلا حتى أضعه ليعبر، باقتضابه، عن الحياة الشاسعة بين نصوص العمل الذي يحمله، بمعنى أنه لم يكن اعتباطيا ولا تجاريا يساعد في الترويج للكتاب، بل كان دائما ذلك المفتاح الذي يفسح للقارئ المجال لدخول عوالم الكتاب.

عند اللجوء إلى الرمزية، هل تقدمين مفاتيح حلها أم تميلين إلى منح النص والمتلقي فضاءات للتأويل؟

هناك نوعان من القراء، قارئ يعتبر القصة ناقصة ما لم تضع أمامه حلا، وقارئ يحتاج إلى مساحة حرة في آخر فقرة ليكتب النهاية بنفسه. لأجل ذلك كنت في بعض من النصوص ألجأ إلى تقديم حلول لها متقصدة وتمثل هذا الحل في النهايات لاقتناعي بقوته ومنطقيته. وفي قصص أخرى جعلت الباب مفتوحا على مصراعيه، وتركت للقارئ صوغ نهايتها كما يشاء.

فقدان القصة القصيرة بريقها أو إشعاعها الجماهيري، لا يمكن تفسيره إلا بهروب عدد كبير من الكتاب إلى الرواية

القصة والرواية

يقال إن القصة القصيرة "فقدت" كثيرا من مكانتها لصالح الرواية في المشهد الأدبي. كيف يتفق هذا مع مزاج "الوجبات السريعة" في التلقي الذي فرضه إيقاع وسائل التواصل الاجتماعي؟

لا يمكن الجزم بذلك إطلاقا. ولكن علينا أن نتفق في البداية على أن القصة القصيرة جنس أدبي صعب جدا، وربما أصعب من الرواية، لأنه لا يحتمل الخطأ، بل إن أي خطأ، سواء كان في التقنية أو البناء أو اللغة، يظهر بشكل فادح، شأنه في ذلك شأن الفيلم القصير.

فقدان القصة القصيرة بريقها أو إشعاعها الجماهيري، لا يمكن تفسيره إلا بهروب عدد كبير من الكتاب إلى الرواية نظرا لاهتمام النقاد المعاصرين بالرواية أكثر من القصة والشعر، فضلا عن ازدياد عدد الجوائز التي ترصد للرواية مبالغ مالية كبيرة تغري أي كاتب.

في زمننا الراهن، زمن السوشال ميديا والذكاء الاصطناعي، تغيرت أشكال التلقي الأدبي والفكري، فغدا الناس يميلون إلى استهلاك العمل السريع، ويفضلونه مسموعا، يبحثون عن أفكار غير اعتيادية، هذا لا يعني أن الرواية ستفقد قراءها، فلكل فن أدبي عشاقه، لكني هنا على يقين بأن القصة القصيرة أخذت تعود بقوة عبر الوسائط الجديدة.

قلت سابقا إن الدخول إلى عالم الرواية "كمن يتنقل بين الألغام"، وها أنت تصدرين روايتك "خزانة الأحذية". ما الذي دفعك الى كتابتها؟ وما الرسالة التي رغبت في إيصالها؟

"خزانة الأحذية" جاءت ترجمة للواقع الذي يعيشه اللاجئ في العالم، على اختلاف جنسيته وانتمائه، كان الوجع الإنساني وقت كتابتي هذه الرواية لا يمكن اختزاله في مقالة أو بيان تنديدي أو في قصة، بل يحتاج إلى صفحات لا متناهية تمكنك من نقل وجع طفل لم يبق منه سوى حذاء، احتفى العالم بصورة حذائه ونسي معاناة ذلك الطفل، فكان كل سطر يجرني إلى سطر آخر ضاربة في الجرح الإنساني وصوره.

بعد الحرب قد توثق الكتابة الدمار، والفجائع، والانتصار أو الهزيمة، غير أني لا أراها وسيلة لأي تغيير

لك أيضا تجربة في أدب الفتيان عبر كتابك "اتفاق سري"، هل الكتابة لهذه الفئة "مرهقة" إبداعيا؟

إبداعيا، يمكننا أن نجد في كل مرة عشرات الموضوعات ونصوغها قصصا للأطفال أو اليافعين، لكن صعوبة الكتابة لهذه الفئة العمرية تكمن في أننا في صدد كتابة حكايات يقرؤها طفل لا ينتمي الى زمن طفولتك، فكيف يمكنك أن تسافر إلى زمن طفولته مراعيا كل المتغيرات المجتمعية التي طرأت على زمنك أنت ككاتب على مستوى التواصل، الموقف من الأخلاق، تحول القيم، التطور التكنولوجي وغير ذلك، هنا تكمن صعوبة الكتابة للطفل.

رفاهية فكرية

في ظل الحروب والأزمات، هل يمكن الكتابة أن تحدث تغييرا في وجه كل هذا الخراب؟

في الوقت الحالي لم يعل صوت فوق صوت الرصاص، وحتى وإن صدر صوت عنا، فلن يسمعه أحد وسط دوي القتل والخراب، فمسألة أن تقابل القنبلة بقلم، رفاهية فكرية لا حقيقة فيها. فما بعد الحرب قد توثق الكتابة الدمار، والفجائع، والانتصار أو الهزيمة، غير أني لا أراها وسيلة لأي تغيير.  

font change

مقالات ذات صلة