ميْته فريدريكسن... تجربة فريدة "يسارية - يمينية" في الدنمارك

يسار دنماركي ينافس الشعبوية اليمينية المتشددة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رئيسة وزراء الدنمارك، ميته فريدريكسن، تتحدث إلى وسائل الإعلام لدى وصولها إلى مقر الاتحاد الأوروبي لحضور قمة الاتحاد الأوروبي - دول غرب البلقان، في بروكسل، في 14 ديسمبر 2023

ميْته فريدريكسن... تجربة فريدة "يسارية - يمينية" في الدنمارك

صرحت رئيسة وزراء الدنمارك، ميْته فريدريكسن، عندما تولت بلادها الرئاسة الدورية لـ"مجلس الاتحاد الأوروبي" في الأول من يوليو/تموز، بأن الاتحاد الأوروبي يواجه أكبر التحديات الدولية، التي شهدها العالم منذ أربعينات القرن الماضي، وهي المنافسة الجيوسياسية والاقتصادية، مع تصاعد مستويات الصراع، ولن تكون هذه القضايا هي كل ما ينبغي على "الاتحاد" أن يتعامل معها.

وقد أثار الرئيس الأميركي دونالد ترمب في وقت سابق من هذا العام، قلق أوروبا عندما أعلن على الملأ أنه لا يستبعد إمكانية اللجوء إلى القوة العسكرية أو الإكراه الاقتصادي، للاستيلاء على غرينلاند، الإقليم شبه المستقل الذي يشكل جزءا من مملكة الدنمارك "حفاظا على الأمن القومي والأمن الدولي".

وقال ترمب: "أعتقد أننا سنحصل عليها، لا أعرف فعلا أي حق للدنمارك فيها، غير أن منعهم لنا من الحصول عليها سيكون عملا غير ودي على الإطلاق، لأننا نفعل ذلك من أجل حماية العالم الحر".

وإلى اليوم، لم يقنع هذا الطرح سكان غرينلاند البالغ عددهم 56 ألف نسمة، إذ تعارض غالبيتهم العظمى الانضمام إلى الولايات المتحدة، حسب استطلاعات الرأي، وقد أسفرت الانتخابات الأخيرة عن حكومة ائتلافية من أربعة أحزاب، للدفاع عن حق تقرير المصير.

يعد مكتب الميزانية في البيت الأبيض حاليا تقييما لتكلفة إدارة غرينلاند، وللإيرادات التي يمكن جنيها من مواردها الطبيعية. ومن بين الخيارات المطروحة تقديم دعم لغرينلاند يفوق ما تقدمه الدنمارك حاليا، بـ500 مليون جنيه إسترليني تقريبا سنويا، بينما تطلق الدنمارك خطة جديدة بقيمة 14.6 مليار كرونة (1.95 مليار يورو) لتعزيز وجودها العسكري في منطقتي القطب الشمالي وشمال الأطلسي.

فريدريكسن التي تولت رئاسة الوزراء في عام 2019، هي ثاني امرأة، وأصغر شخصية تتولى هذا المنصب في تاريخ البلاد، تقود إحدى أصغر دول أوروبا، لكنها من بين أغناها، وتشمل أراضيها إقليم غرينلاند الذي يتمتع بالحكم الذاتي، ومنذ أن أصبحت غرينلاند عرضة لتهديدات ترمب المتكررة، تركزت الأنظار على رد فعل الدنماركيين، وعلى ما إذا كانت فريدريكسن ستدافع عن بلادها بحزم.

في الأسبوع الماضي قال لارس لوك راسموسن، وزير الخارجية الدنماركي، إن تهديد ترمب التوسعي لجزيرة غرينلاند "لم ينته" بعد، مع أن التدخل العسكري لا يزال احتمالا بعيدا، وأكد عرضه بتعميق التعاون مع واشنطن، لتعزيز الأمن في هذه الجزيرة ذات الأهمية الاستراتيجية جدا.

وجاء تحذيره تزامنا مع تولي الدنمارك رئاسة "مجلس الاتحاد الأوروبي"، وتزايد دورها في سياسات التكتل. وقال راسموسن خلال مؤتمر صحافي في مدينة آرهوس: "نحن لا نرى أن الضم العسكري أمر وارد على الإطلاق، ومع ذلك، لا نعتبر هذه القضية محسومة".

وأضاف: "لقد أعدت مرارا أن علينا أن نأخذ تصريحات ترمب على محمل الجد، لكن ليس بالضرورة حرفيا، ومع الوقت، وجدت أن المسافة بين الجد والحرفي تتقلص بشكل مقلق، مقارنة بفترته الأولى، لذا نحن نتعامل مع الأمر بجدية بالغة".

ولم تخيب فريدريكسن الآمال، إذ نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي منشورا باللغة الإنجليزية خاطبت فيه الشعب الأميركي مباشرة، وكتبت على صفحتها في "فيسبوك" في أبريل/نيسان: "عندما نتلقى ضغوطا وتهديدات من أقرب حلفائنا، فإننا لا نستسلم".

وقد ازدادت صراحة فريدريكسن حدة في الأشهر التي تلت ذلك، وصرحت لمجلة "فوغ" البريطانية في أحدث عدد لها، قائلة: "اعتقدت منذ بداية هذا الجدال، أن الرئيس ترمب جاد، إنهم يريدون غرينلاند، لكننا نحن أيضا جادون ولن نتنازل".

 يصعب علينا نحن الدنماركيين، سماع هذه الكلمات تصدر عن الولايات المتحدة، فنحن معروفون في أنحاء كثيرة من العالم بأننا شريك موثوق به للغاية

"يصعب علينا نحن الدنماركيين سماع هذه الكلمات تصدر عن الولايات المتحدة، فنحن معروفون في أنحاء كثيرة من العالم، بأننا شريك موثوق به للغاية، لأن ما نقوله وثيق الصلة بما نفعله، أما الولايات المتحدة، فقد كنا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من أقرب حلفائها، لذا عندما يقول فانس، نائب الرئيس الأميركي، إن الدنمارك "حليف سيئ"، نقول: "ماذا؟ أفانت تقول عنا هذا؟".

تنتمي فريدريكسن إلى الطبقة العاملة، حيث قضت طفولتها في يوتلاند، شبه الجزيرة التي تشكل أقصى شمال البلاد، وتنحدر من عائلة سياسية، فوالدها كان عضوا فاعلا في النقابات العمالية، وكذلك جدها وجدها الأكبر.

عادت فريدريكسن من أفريقيا بعد عام قضته فيها، وكانت قد بلغت الثامنة عشرة من عمرها، فبدأت دراستها الجامعية، غير أنها سرعان ما حصلت على وظيفة في الاتحاد الدنماركي لنقابات العمال، ثم فازت بأول انتخابات لها في برلمان بلادها عام 2001، وهي في الرابعة والعشرين من عمرها. قالت لمجلة "فوغ": "لذا تركت الجامعة، لكن كان في حزبنا امرأة سياسية صارمة، سألتني ذات يوم: هل فقدت عقلك تماما؟ ليس لديك شهادة جامعية في أي مجال! عليك إكمال دراستك".

في ذلك الوقت، كانت فريدريكسن قد أنجبت طفلها من زوجها الأول، وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم من مسؤولية مقعدها البرلماني، وهي في سن مبكرة، عادت إلى الجامعة لدراسة الماجستير في الدراسات الأفريقية، وهي حامل بطفلها الثاني، ومنذ أن انتخبت رئيسة للوزراء عام 2019، لاحظ كثيرون في الدنمارك موقفها من الهجرة، الذي يراه منتقدوها موقفا انحرف نحو اليمين على نحو حاد، فقد أصبحت سياسات الهجرة في الدنمارك في ظل حكمها صارمة للغاية، حتى إن البلاد لم توافق إلا على 860 طلب لجوء في العام الماضي، وهو من أدنى أرقام اللجوء المسجلة على الإطلاق.

تنتمي فريدريكسن إلى الطبقة العاملة، حيث قضت طفولتها في يوتلاند، شبه الجزيرة التي تشكل أقصى شمال البلاد

وقد دعا حزبها "الحزب الاشتراكي الديمقراطي"، إلى وضع حد أقصى لـ"المهاجرين غير الغربيين"، وإلى سياسة "إعادة المهاجرين إلى الوطن" بدلا من اندماجهم، وإلى إجبار جميع المهاجرين على العمل 37 ساعة أسبوعيا مقابل الحصول على المساعدات، وتؤكد فريدريكسن أن الهجرة الجماعية يدفع ثمنها أشخاص يعيشون أصلا في ظروف صعبة، "وحماية حياة هؤلاء الناس هي أحد أهدافي الرئيسة، والدمج بين هذه المهمة مع ما تسببه الهجرة من مشكلات، لا يمكن أن يتعايشا، أقله من المنظور الدنماركي، وهذه هي نقطة الانطلاق".

لا شك في أن هذا الموقف قد ساهم في إضعاف الحركات اليمينية المتطرفة الشعبوية في الدنمارك، وهو ما جعل "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" بزعامة فريدريكسن أحد أحزاب يسار الوسط القليلة، التي نجت من صعود الشعبوية اليمينية في أوروبا.

أ.ف.ب
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (يسار) ورئيسة وزراء الدنمارك ميته فريدريكسن يتجمعان لالتقاط صورة جماعية قبل الجلسة العامة لقمة رؤساء الدول والحكومات في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في لاهاي، في 25 يونيو 2025

وهذا واحد من الأسباب الكثيرة التي تفسر لِمَ تحظى طريقة أداء فريدريكسن عند توليها رئاسة "مجلس الاتحاد الأوروبي" باهتمام كبير، فهي ستقود المجموعة، في وقت تهدد فيه حرب أوكرانيا مع روسيا "الاتحاد" بأكمله، تقول: "أنا سعيدة حقا لأننا نتولى الرئاسة الآن، لأنها حقا لحظة حاسمة بالنسبة لأوروبا، وهذا ما أقوله دوما لحزبي وحكومتي".

تدرك فريدريكسن تماما حجم التهديد الذي تواجهه: "فالأمر لا يقتصر على غرينلاند، وإذا قبلنا أن قوة عظمى بوسعها ترهيب الدول الأخرى، فستكون هذه نهاية كل الديمقراطيات، وهذه واحدة من اللحظات الحاسمة، التي يمر بها كل جيل، وعليك فيها أن تختار بين الصواب والخطأ".

font change