الإمضاء ليس مجرد أثر كيفما اتفق على ورق، على هامش الوثيقة، في أخمص حاشيتها بالأحرى، بل هو أثر ذاتي على نحو رمزي، وأكثر من ذلك هو أثر فني يتجاوز وظيفته القانونية أو العملية، كشهادة بالغة الخصوصية، في تفاعل حميم بين ذاتية الفرد والآخر الجمعي، بين طبيعة السلطة وإلزامية القانون، بين السرية الحميمة والإعلان المنذور للعموم.
من علامات جدار الكهف، إلى البصمة، إلى الطغراء، ومن الختم إلى التوقيع الرقمي، امتد تاريخ الإمضاء ليكون أثرا لحضارة العلامات، حاسما في منعطفات الوجود الإنساني الموجز في حركة يد، راقصة، مترنحة، صارمة أو مضطربة، رصينة أو متوترة.
مع أن القصدية من التوقيع هي فاعلية التوثيق والإثبات، إلا أن ظاهرة ممارسته غدت فنية مع اجتراحات الكتاب والفنانين والشعراء والمفكرين الذين أسبغوا على إمضاءاتهم معنى جماليا لافتا، كامتداد رمزي لهوية الشخص المبدع، بل أسلوب حياته وكتابته في آن، فضلا عن تركيب شخصيته، نزوعه الإنساني والفني في آن، موجزا في علامة تغدو معادلا موضوعيا لاسمه وكينونته.
كل هذا يكسب الامضاء معنى مضاعفا لتناغم اليد والمخيلة، اللاوعي والشخصية، الجسد والعقل، الثقافة والسلوك، وفي الوقت الذي يلتزم الكثيرون الحفاظ على أحادية التوقيع، وعدم تغييره، يجنح آخرون لتجديد إمضاءاتهم، بحسب طفرات حياتهم، ومزاجيتهم، منحازين الى تجدد الحياة نفسها.
موجز تاريخ الإمضاء
يعود تاريخ الإمضاء إلى ما قبل الكتابة، مع اعتماد بصمة الإصبع، أو الختم للتعريف بصاحب الوثيقة. ولأصوله الأولى أشكال متعددة، حملت صبغة طقوسية ودينية وسياسية وقانونية. ما وصلنا من الحضارة السومرية مثلا، اعتمادهم على أختام أسطوانية تطبع في الطين، وعدّت الشكل البدئي لتقليد التوقيع في ما بعد، وقد استخدم كصور رمزية في التجارة والمواثيق والمراسلات.