فن الإمضاء من الوثيقة القانونية إلى الأثر الجمالي مع الفنانين والكتاب

استخدمه البشر منذ فجر الحضارة

Photo by: Pictures From History/Universal Images Group via Getty Images
Photo by: Pictures From History/Universal Images Group via Getty Images
تركيا: الخط العثماني، طغراء السلطان سليمان القانوني (حكم 1520–1566)، وهي توقيع ملكي زخرفي يُستخدم في الوثائق الرسمية وعلى العملات

فن الإمضاء من الوثيقة القانونية إلى الأثر الجمالي مع الفنانين والكتاب

الإمضاء ليس مجرد أثر كيفما اتفق على ورق، على هامش الوثيقة، في أخمص حاشيتها بالأحرى، بل هو أثر ذاتي على نحو رمزي، وأكثر من ذلك هو أثر فني يتجاوز وظيفته القانونية أو العملية، كشهادة بالغة الخصوصية، في تفاعل حميم بين ذاتية الفرد والآخر الجمعي، بين طبيعة السلطة وإلزامية القانون، بين السرية الحميمة والإعلان المنذور للعموم.

من علامات جدار الكهف، إلى البصمة، إلى الطغراء، ومن الختم إلى التوقيع الرقمي، امتد تاريخ الإمضاء ليكون أثرا لحضارة العلامات، حاسما في منعطفات الوجود الإنساني الموجز في حركة يد، راقصة، مترنحة، صارمة أو مضطربة، رصينة أو متوترة.

مع أن القصدية من التوقيع هي فاعلية التوثيق والإثبات، إلا أن ظاهرة ممارسته غدت فنية مع اجتراحات الكتاب والفنانين والشعراء والمفكرين الذين أسبغوا على إمضاءاتهم معنى جماليا لافتا، كامتداد رمزي لهوية الشخص المبدع، بل أسلوب حياته وكتابته في آن، فضلا عن تركيب شخصيته، نزوعه الإنساني والفني في آن، موجزا في علامة تغدو معادلا موضوعيا لاسمه وكينونته.

كل هذا يكسب الامضاء معنى مضاعفا لتناغم اليد والمخيلة، اللاوعي والشخصية، الجسد والعقل، الثقافة والسلوك، وفي الوقت الذي يلتزم الكثيرون الحفاظ على أحادية التوقيع، وعدم تغييره، يجنح آخرون لتجديد إمضاءاتهم، بحسب طفرات حياتهم، ومزاجيتهم، منحازين الى تجدد الحياة نفسها.

موجز تاريخ الإمضاء

يعود تاريخ الإمضاء إلى ما قبل الكتابة، مع اعتماد بصمة الإصبع، أو الختم للتعريف بصاحب الوثيقة. ولأصوله الأولى أشكال متعددة، حملت صبغة طقوسية ودينية وسياسية وقانونية. ما وصلنا من الحضارة السومرية مثلا، اعتمادهم على أختام أسطوانية تطبع في الطين، وعدّت الشكل البدئي لتقليد التوقيع في ما بعد، وقد استخدم كصور رمزية في التجارة والمواثيق والمراسلات.

اعتمدت الحضارة الفرعونية الرموز كمعادل للتوقيع، بمن فيهم الكهنة والكتبة على حد سواء، بالطباعة على ورق البردي أو الحجارة

فيما اعتمدت الحضارة الفرعونية الرموز كمعادل للتوقيع، بمن فيهم الكهنة والكتبة على حد سواء، بالطباعة على ورق البردي أو الحجارة، فيما انفرد الملوك ذوو الألقاب المطولة، المنقوشة على جدران المعابد، بخلفية سلطوية ودينية، بالغة التقديس.

وفي الحضارة الصينية استعمل النبلاء أختاما شخصية مجبولة من الحجر والعاج، لكن تطبع بالحبر الأحمر على نحو خاص، واعتمدت في الوثائق الرسمية، واللوحات والرسائل.

Photo by © Historical Picture Archive/CORBIS/Corbis via Getty Images
لوحة جدارية تحتوي على كتابات هيروغليفية من المقبرة رقم 24 في الجيزة

ويلمع الأثر المكتوب للإمضاء في الحضارتين الإغريقية والرومانية، مع نقشهم أسماء المعنيين والشهود في العقود التجارية، كما استخدموا الخاتم المحفور المغموس في الشمع، كعلامة لختم الرسائل وإغلاقها، مع حملها هوية صاحب الخاتم.

أما بزوغ الإمضاء اليدوي كما تطور إلى اليوم، مع التقدم في سيرورة الكتابة الأبجدية، في العصور الوسطى الأوروبية، فبدأ مع طبقة النبلاء والملوك الذين وقعوا بأسمائهم الشخصية لتأكيد المراسيم والمواثيق، وبمرور السنوات أمسى التوقيع دليلا دامغا على هيبة السلطة وتفرد الهوية.

ومع أن الإمضاء كان مقتصرا في البداية على النخبة، إلا أنه شمل التجارة والعلوم لاحقا، خاصة في عصر النهضة، إذ شاع تقليده مع الكتاب، والتجار، والعلماء.

الامضاء في العالم الإسلامي

اعتمد الختم في الحضارة الإسلامية، بدل التوقيع، إذ ورد في سيرة متن الرسائل النبوية، ومنها الرسالة الشهيرة إلى هرقل، قيصر الروم.

لاحقا، اضطلع بالختم الخلفاء والقضاة والولاة خاصة مع الأمويين والعباسيين والفاطميين. وكان الختم الشخصي أو خاتم السلطان يحمل عبارة دينية أو اسما محفورا في قطعة فضة أو عقيق، يستخدم لإضفاء الشرعية على المراسلات.

ثم تطور في العصر الأندلسي، ليجمع بين الوظيفة الإدراية والبعد الجمالي، ومنها الختم الشخصي، والإمضاء الخطي، والتوقيع الفني الممهور في العمل الإبداعي.

كذلك انزاح جذريا في العصر العثماني، إلى ما يعرف بالطغراء، وهو توقيع مزخرف ومعقد للسلاطين، يحمل اسمهم ولقبهم ضمن تصميم فني ضالع في التنميق، ويمثل الطغراء ذروة التوقيع كفن وإعراب باذخ عن السيادة.

من القانوني إلى الفني

أضحى الإمضاء ممارسة شائعة في الأزمنة الحديثة مع رقي المنظومة التعليمية، وساد تقليده في توقيع الرسائل والعقود والشيكات والوثائق الرسمية، وغيرها.

تطور الإمضاء في العصر الأندلسي، ليجمع بين الوظيفة الإدراية والبعد الجمالي، ومنها الختم الشخصي، والإمضاء الخطي، والتوقيع الفني الممهور في العمل الإبداعي

هكذا صار الإمضاء بمثابة إثبات قانوني للهوية والموافقة والإثبات، وفق ما تكرس في التشريعات الغربية منذ القرن الثامن عشر. لكن بالتوازي مع البعد القانوني، اكتسب الإمضاء بعدا فنيا وشخصيا، خاصة لدى الكتاب والفنانين، وصار التوقيع امتدادا لأسلوب هؤلاء، بالنظر إليه كأثر جمالي، ومنهم من ابتكر توقيعات بقدر تعقيدها، هي أيضا طاعنة في الفرادة كأثر فني كما سنرى في نماذج لاحقة.

Photo by Niklas Graeber/picture alliance via Getty Images
هامبورغ، 21 نوفمبر 2024: شخص يحمل ظهر رسالة موقعة بخط يد فرانز كافكا. تُعرض الرسالة ضمن مزاد يتضمن أيضاً مخطوطة لقصة "الحزن الأول" (1922)، تقدر قيمتها بـ280 ألف يورو، الى سيناريو أصلي لأورسون ويلز مع ملاحظاته اليدوية

ومع الطفرة التكنولوجية، الرقمية، بزغ الإمضاء الرقمي، وهو توقيع مشفر، يستعمل في توثيق المعاملات الإلكترونية، ومع أنه ولادة لتطور تقني، إلا أنه يفتقد الأثر البصري، والعاطفي للإمضاء اليدوي، وفي الآن ذاته شاع استنساخه، وطرق تزويره، مما يهدد بصمة هويته وجدوى مصداقيته، في عالم القرصنة المستفحلة.

وقد تستعمل التوقيعات في علم النفس الجنائي، لكشف الطباع، وفي التحقيقات القضائية لتحديد أصالة الوثائق، أو الكشف عن الجريمة المتسلسلة، وهذا ما استثمرته السينما المؤسسة على الجرائم المتسلسلة الغامضة، يظل أبدعها إبهاما وتيها فيلم "زودياك" للمخرج ديفيد فينشر، وموجز حكايته الرسائل المشفرة التي كان يرسلها القاتل الغامض إلى الصحف، وهي محض رموز مع توقيع دائري يتضمن صليبا.

علامة سيميائية

سيميائيا الإمضاء محض علامة شخصية، ذاتية، غير محايدة، مشحوذة الإشارة، ملء دلالتها نظام نفسي وثقافي وجمالي ورمزي، قبل أن يكون نظاما لإثبات الهوية بشكل قانوني.

لدى فردينان دو سوسور الإمضاء محض دال يحيل أولا على هوية صاحبه الفعلية من جهة، ومن جهة أخرى على هويته المتخيلة، وكمؤشر خالص الأدائية، نسبة إلى حركة اليد، وهو ما يضاعفه السيميائي شارل بيرس الذي يرى في الإمضاء حضورا دامغا لفاعلية اليد احتكاما لمجمل حالة الجسد في كتابة مشحوذة ضمن علامة. علامة تتحول إلى رمز حينما يرتبط بهوية عامة أو مكانة اجتماعية، أو إلى أيقونة في توقيع الكتاب والفنانين والشعراء، بالنظر إلى الدال المفعم مسرحة.

قد تستعمل التوقيعات في علم النفس الجنائي، لكشف الطباع، وفي التحقيقات القضائية لتحديد أصالة الوثائق، أو الكشف عن الجريمة المتسلسلة

الإمضاء إذ يعلن، هو في الآن ذاته مركب داخلي، يضمر، ويؤشر الى ما هو باطني. لذا، تحظى توقيعات الكتاب والشعراء والفنانين، بقراءة ممعنة الخصوصية، إذ تقع بارتياب في المسافة المتوترة بين الذاتي والعام.

سيتخطى التوقيع بذلك حدود الذاتي، ليتحول إلى أسطورة وفق رولان بارت، إذ يغدو إمضاء الفنان أيقونة تمثله في المتخيل الجمعي، وبذا استوجبت القراءة الممعنة في أثر التوقيعات، الالتفات إلى طبيعته كقناع أيضا، على هذا النحو يمكن قراءة توقيع سلفادور دالي المبهرج، كقناع للزخرفة المبالغ فيها، كعلامة ممعنة في التكلف، تفصح عن جنون العظمة، عن أسطورة ما هو عبقري، غرائبي، أو فانتازي.

Photo By DEA / G. DAGLI ORTI/De Agostini via Getty Images
حضارة سومر، الألفية الثالثة قبل الميلاد: ختم أسطواني تعود طبعته الى حاكم مدينة نفر

فيما يمكن قراءة توقيع جيمس جويس، كاستعارة لأسلوبه المتشعب، المعقد والتجريبي، كما لا يمكن صرف النظر عن شرارة القلق وندبة الاغتراب في التوقيع الحاد لفرانز كافكا، كتطابق بين الانشطار الداخلي، وبين حركة اليد المتوترة، وهكذا دواليك.

إمضاءات طبقت شهرتها الآفاق

في طليعة من ذاع صيت توقيعاته الممهورة رموزه البصرية بكائنات هجينة، أو خارقة، بين بين، إنسانية وحيوانية، الرسام الهولندي هيرونينوس، وكذلك عرف الفنان الأميركي هارينغ كينغ بكلب نابح مرافق لتوقيعاته. وغير بعيد، حرص المخرج تيم بيرتون على التوقيع مصحوبا برسم لعنكبوت أو مخلوقات فانتازية، شبه حيوانية، وهذا ما استبقه الشاعر الإنكليزي وليام بليك الذي كان يوقع قصائده ورسائله مرفقا بحيوانات ضارية وطيور أيضا. الشيء نفسه دأب عليه غارثيا لوركا في توقيعاته مع إضافة رسم طائر أو قمر مجنح، وإرنست همينغواي كان يوقع مع إضافة رأس كلب، وجان كوكتو يمهر توقيعاته بوجوه قط أو رؤوس خيول أو ملائكة، وسلفادور دالي كان يضيف الى توقيعاته المبهرجة كائنات سوريالية تحيل على النمل أو أفيال بأرجل طويلة، وأحيانا يضع تاجا أو نجمة، أو شاربه الشهير.

إمضاء الفنان يغدو أيقونة تمثله في المتخيل الجمعي، وبذا استوجبت القراءة الممعنة في أثر التوقيعات الالتفات إلى طبيعته كقناع

وجعل الرسام الألماني فرانز مارك من الحيوانات توقيعا أثيرا، خاصة الخيول الزرق، والغزلان، وممن تضمنت توقيعاتهم ثيرانا هائجة وجماجم حيوانات، الفنان الأميركي جان ميشال باسكيا، وغالبا ما كان مارك شاغال يضمن توقيعاته الديك الطائر أو الحصان المجنح، وكان الرسام الفرنسي بنجامين لاكومب يضمن توقيعات لوحاته بأثر أرنب أو قط أو خفاش، ووقع فريديرك نيتشه بعض رسائله باسم ديونيزوس أو المصلوب، ووقع اللورد بايرون بأسماء مستعارة مثل نويل بايرون أو برموز مثل الصليب والخنجر، وكانت الفنانة اليابانية يايوي كوساما تحف توقيعاتها بأشكال أخطبوطية أو كائنات متعددة الأرجل، واشتهر مارسيل دوشان بتوقيع المبولة (النافورة) باسم مستعار هو الآخر:R.Mutt، وأحيانا يوقع باسم نسائي على سبيل السخرية Rrose Selavy، وهي تحوير لغوي على سبيل اللعب وتعني: Eros, c'est la vie. وكان غابرييل ماركيز يستبق لقبه غابو بزهرة برية في بعض توقيعاته الاستثنائية، وينزاح محمود درويش بتوقيعه إلى منحى تفعيلي كما لو ينثر اسمه على سلم عروض موسيقي، ما يشبه أثر رياح تهسهس في سنبلة مفردة.

font change

مقالات ذات صلة