المئة يوم الأولى: هل وضعت الحكومة السورية الأسس اللازمة؟

المئة يوم الأولى: هل وضعت الحكومة السورية الأسس اللازمة؟

استمع إلى المقال دقيقة

مرت مئة يوم منذ تولّت الحكومة الانتقالية السورية مهامها. وعلى الرغم من أن هذه الفترة أقصر من أن تكون كافية لإحداث تحول جذري في بلد أنهكته أربعة عشر عاما من الحرب والانهيار الاقتصادي والتفكك المؤسسي، فإنها تمثل مع ذلك محطة مهمة لتقييم الاتجاه العام ومدى التماسك في الأداء الحكومي.

في هذا السياق، لا ينبغي قياس أداء الحكومة بالنتائج التقليدية فحسب، بل بما إذا كانت تضع الأسس اللازمة لدولة شرعية وقادرة على العمل. فالتحدي الحقيقي لا يكمن في شغل المناصب أو إصدار المراسيم، بل في عكس مسار التدهور المؤسسي، واستعادة ثقة الجمهور، وتهيئة الظروف لانطلاقة وطنية جديدة.

وعند النظر من هذه الزاوية، تكشف المئة يوم الأولى عن إشارات على وجود نية للإصلاح، لكنها تكشف في المقابل عن هشاشة بنيوية عميقة، وزخم غير متسق، وافتقار إلى إطار استراتيجي موحّد يوجّه العمل الحكومي. وإذا أرادت الحكومة تحسين فرص نجاحها، فعليها أن تتجاوز أسلوب إدارة الأزمات وردود الفعل، وتواجه التحدي الأكبر وهو بناء المؤسسات.

قبل الشروع في تقييم أداء الحكومة الانتقالية، لا بد من إدراك حجم التحدي الذي ورثته عن النظام السابق. فسوريا ليست فقط دولة ما بعد نزاع، بل هي دولة ما بعد الدولة

قدّم الرئيس السوري أحمد الشرع حكومة مكوّنة من 23 وزيرا، وُصفت بأنها شاملة وتكنوقراطية، لا سيما مقارنة بالحكومة السابقة. ضمت التشكيلة شخصيات من خلفيات متعددة، من قادة سابقين في المجتمع المدني، إلى تقنيين متمرّسين، إلى أفراد على صلة بـ"هيئة تحرير الشام".

وفي كلماتهم الافتتاحية، تعهد عدد من الوزراء باستعادة وظائف الدولة، والمضي في الإصلاح الإداري، وتأسيس نماذج جديدة للحوكمة تقوم على الشفافية والمساءلة. وقد أسهمت هذه التوجهات في إحداث قدر من التفاؤل الحذر في الداخل، وحصدت الحكومة اعترافا دوليا ملحوظا، وهو إنجاز مهم في ظل الخروج من عزلة طويلة.

على أن هذا التنوع لم يتحوّل تلقائيا إلى أداء فعّال، ففيما أظهرت بعض الوزارات حيوية واضحة، ظلت أخرى راكدة، مكبّلة بتفويضات غير محددة، وموارد محدودة، وتنسيق ضعيف بين الجهات الحكومية.

قبل الشروع في تقييم أداء الحكومة الانتقالية، لا بد من إدراك حجم التحدي الذي ورثته عن النظام السابق. فسوريا ليست فقط دولة ما بعد نزاع، بل هي دولة ما بعد الدولة. تكاد تكون الأنظمة العامة جميعها، من اقتصادية وقانونية وإدارية وعسكرية، قد فقدت مهمتها ومعناها بسبب تدهورها أو تسييسها أو تفكيكها من أجل البقاء.

الكثير من المؤسسات الأساسية لا تزال هشة أو أنها غير قائمة. البيروقراطية مجزأة وغير متطورة. الهياكل الأمنية موحدة في حدها الأدنى. الجيش يفتقر إلى الانضباط واللوجستيات والقيادة المتماسكة. أما ثقة الجمهور فقد تآكلت بفعل عقود من القمع والإفلات من العقاب واستغلال الدولة.

في ظل هذه الظروف، حتى الإصلاحات الصادقة تجد نفسها مقيدة من البداية. يعمل الوزراء بصلاحيات محدودة، وموارد مالية غير منتظمة، وقدرة تنفيذية ضعيفة، فيما تتراجع آليات التنسيق البدائية بين الوزارات. ولا يزال الدعم الدولي، رغم رمزيته، محدودا ومجزأً.

إلى جانب التحديات البنيوية، أظهرت الحكومة ضعفا داخليا أثّر في أدائها المبكر. إذ تصرّفت في الغالب كجسم انتقالي محدود، يتعامل مع التحديات بمنطق ردّ الفعل لا وفق رؤية مبرمجة، وينقصها استراتيجية وطنية جامعة– إطار سياسي وإداري يرشد عمل الوزارات، ويضبط الأولويات، ويحدد معايير النجاح.

من غير الواقعي افتراض أن مرحلة التأسيس قادرة على إحداث تحولات كبرى في هذا الزمن القصير، خلال المئة يوم الأولى، خاصة في دولة خارجة من انهيار مؤسسي شبه تام

بدلا من ذلك، ترى وكأن كل وزارة تتصرف على هواها، مطلقة مبادرات منفصلة تفتقر إلى تنسيق أو رؤية مشتركة. التنسيق بين الوزارات ظل غير منتظم. وفي ظل غياب هيئة تخطيط مركزية فعالة، انزلقت الحكومة إلى إدارة قصيرة الأجل وقرارات محكومة بالرمزية الإعلامية أكثر من المردود المؤسسي.

ولم تُحرَز خطوات ملموسة في الملفات الإصلاحية الجوهرية، كإحياء الخدمة المدنية وتعزيز المساءلة وتحسين الحوكمة، تقدما يذكر. ويُعزى ذلك إلى غياب عقيدة إدارية مشتركة ونقص في القيادة التنفيذية. كثير من الوزراء يفتقرون إلى السلطة السياسية أو المهارات الفنية اللازمة لدفع التغيير البنيوي.

نتيجة لذلك، طغت ثقافة بيروقراطية استعراضية، تتوسل الإعلانات الكبرى بدلا من الخطط التنفيذية المدروسة: بيانات صحافية، وفعاليات عامة، ومراسيم رمزية تحل محل التخطيط المدروس وتقييم الأثر. ورغم ظهور بعض مظاهر الطموح، فإنها نادرا ما تُترجم إلى نتائج ملموسة.

ونكرر: من غير الواقعي افتراض أن مرحلة التأسيس قادرة على إحداث تحولات كبرى في هذا الزمن القصير، خلال المئة يوم الأولى، خاصة في دولة خارجة من انهيار مؤسسي شبه تام. لكن كان من الممكن أن تكون هذه الفترة لحظة فارقة تشير إلى انطلاقة جديدة. إذ لم يكن المطلوب قفزة نوعية شاملة، بل بوصلة استراتيجية واضحة تعبّر عن القطيعة مع منطق الحكم السابق.

وهذا يقتضي التحوّل من إدارة ارتجالية إلى بناء نظام مؤسسي، أي: وضع رؤية جامعة للحكم، وتمكين الوزارات بصلاحيات وأدوات فعالة، وترسيخ الشفافية والمساءلة في صلب مؤسسات الدولة.

لن تكون هذه المهمة سهلة، لكنها لا تحتمل التأجيل. فإذا كانت السلطات الانتقالية تأمل في تحويل شرعيتها الرمزية إلى حوكمة فعلية، فعليها أن تنتقل من الصورة إلى الجوهر. فالمئة يوم الأولى لم ترسم ملامح المستقبل، ولكنها كشفت، مع ذلك، بوضوح عما ينبغي تغييره لبناء مسار أكثر مصداقية واتساقا.

font change