استقبل السوريون سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024 بارتياح غامر، وسرعان ما امتدت هذه المشاعر إلى مختلف الأطراف الإقليمية الفاعلة، الحريصة على طي صفحة ممارساته الإجرامية التي زعزعت استقرار المنطقة بأسرها، بدعم مباشر من مؤسسات الدولة. وعلّقت آمالا عريضة على هذا السقوط ليعلن نهاية تجارة الكبتاغون السورية، ذلك المخدر شديد الإدمان الذي اجتاح الأسواق الإقليمية عبر الأردن في عهد الأسد.
إلا أن واقع مرحلة ما بعد الأسد لم يرقَ إلى حجم التوقعات، رغم التحسن النسبي في بعض الجوانب. وتؤكد العمليات المتكررة التي تنفذها السلطات الأردنية لمكافحة التهريب– والتي أُعلن عن أحدثها في 7 مايو/أيار– أن المشكلة ما زالت قائمة.
لقد أدى انهيار النظام السابق بالفعل إلى وقف تجارة المخدرات المدعومة من الدولة، لكنه لم يُنهِ عمليات التهريب. ويعكس هذا الاستمرار قدرة المهربين على التكيف، من خلال استغلالهم لهشاشة الحدود واستمرار الطلب الإقليمي. وفي غياب استراتيجية شاملة لمعالجة هذه الدوافع الأساسية، من المرجح أن يبقى تهريب المخدرات عنصرا ثابتا في المشهد السوري بعد الأسد.
استمرار تدفق المخدرات
على الرغم من انهيار نظام الأسد، لا تزال شبكات تهريب المخدرات في سوريا نشطة. ففي 7 مايو، أعلن الجيش الأردني إحباط محاولة تهريب كميات كبيرة من المخدرات من الأراضي السورية، في أحدث حلقة من سلسلة حوادث مماثلة لا تزال تتصدر عناوين الأخبار.
ووفقا لبيانات منظمة "إيتانا" السورية، سُجل ما لا يقل عن 25 محاولة تهريب عبر الحدود إلى الأردن في الفترة ما بين رحيل الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول ومنتصف يناير/كانون الثاني. وبالرغم من عدم توافر بيانات عن المحاولات اللاحقة، تشير مراجعة التقارير الإعلامية الأخيرة إلى أن هذا النمط ظل ثابتا. صحيح أن هذه المحاولات أقل من المحاولات الخمس والستين المسجلة خلال الفترة نفسها في عامي 2023 و2024، إلا أن النشاط المستمر يسلِط الضوء على المرونة الدائمة لشبكات التهريب في سوريا.
للحفاظ على نجاحهم، واصل المهربون تنويع أساليبهم وتكتيكاتهم. وشملت محاولات التهريب الأخيرة نقل المخدرات سيرا على الأقدام عبر معابر غير شرعية نائية
والمرونة هذه ليست بالأمر المفاجئ نظرا إلى قدرتها على التكيف بسرعة. فعلى الرغم من فقدانهم الحماية الرسمية، سرعان ما استغل مهربو المخدرات في سوريا فراغ السلطة الذي خلفه سقوط النظام، واستغلوا ضعف السيطرة الأمنية، فنقلوا أصولهم المرتبطة بالمخدرات لحماية معدات إنتاج الكبتاغون والإمدادات المخزنة. وتشير التقارير إلى أن المهربين نهبوا أيضا مواد مخدرة وآلات من مواقع النظام، وخاصة تلك المرتبطة بالمخابرات العسكرية والفرقة الرابعة في جنوب سوريا وريف دمشق.
شبكات مسلحة ومجهزة
بالإضافة إلى تأمين البنية التحتية للإنتاج، حافظت شبكات التهريب على إمكانية الوصول إلى مخزونات كبيرة من المخدرات المتراكمة قبل سقوط النظام. وهذا الاحتياطي يسمح للمهربين بمواصلة عملياتهم رغم الاضطرابات السياسية. ولم تكتف تلك الشبكات بوضع يدها على ذلك المخزون، بل تواصل توريد المزيد من المخدرات- وخاصة الحشيش والميث الكريستالي- من لبنان والعراق لتعويض أي نقص في الإمدادات.
إلى جانب الحفاظ على سلاسل الإمداد، سعى المهربون داخل سوريا إلى تعزيز قدراتهم العملياتية أيضا. فمع فرار القوات الموالية للنظام على عجل من جنوب سوريا، نهب المهربون القواعد العسكرية ومستودعات الأسلحة المهجورة، وسيطروا على الأسلحة والمعدات العسكرية. وهو ما عزز قدرتهم على توفير غطاء مسلح لعمليات التهريب عبر الحدود، مما جعل جهود مكافحة التهريب أكثر خطورة وصعوبة.
تكتيكات تهريب متنوعة
للحفاظ على نجاحهم، واصل المهربون تنويع أساليبهم وتكتيكاتهم. وشملت محاولات التهريب الأخيرة نقل المخدرات سيرا على الأقدام عبر معابر غير شرعية نائية، وخاصة عندما تسمح الظروف المناخية بذلك. كما اعتمد المهربون بشكل متزايد على الطائرات المسيرة لتجنب اكتشافهم. تتوفر هذه الطائرات على نطاق واسع في جنوب سوريا، ويمكن الحصول عليها بسهولة من متاجر الهواتف المحمولة، حيث تباع بأسعار تتراوح بين 4000 و8000 دولار أميركي. وقد سهلت إمكانية الوصول إليها على المهربين نقل كميات صغيرة من المخدرات عالية القيمة وخفيفة الوزن مثل الميث الكريستالي.
ينبغي أن تنصب جهود مكافحة تهريب المخدرات على الحد من الطلب الإقليمي عليها، ذلك أن استمرار تدفق الأرباح سيبقى المحرك الأساسي لهذه التجارة
أفادت التقارير بأن هذا المزيج من التكتيكات سمح للمهربين بالحفاظ على معدل نجاح مماثل لمستويات ما قبل الانهيار. ووفقا لبيانات إيتانا، نجحت ثماني محاولات تهريب من إجمالي المحاولات حتى الآن، أي بنسبة نجاح بلغت 32 في المئة. كما أن الأرباح التي تدرها هذه العمليات، إلى جانب هشاشة الاقتصاد السوري، ستحافظ على مكانة تجارة المخدرات كمصدر رئيس للدخل. وفي ظل الضعف الذي أصاب البلاد نتيجة سنوات من الصراع، والعقوبات الدولية القاسية، والفرص الاقتصادية المحدودة، من المرجح أن يظل تعافي البلاد بطيئا وصعبا، حتى في مرحلة ما بعد الأسد. ومع قلة فرص العمل المشروعة، سينجذب الكثير من الشباب إلى الأعمال غير المشروعة كمصدر رزق مربح وجذاب، مما يعمق ويرسخ دور سوريا في شبكات المخدرات الإقليمية.
قدرة محدودة على المواجهة
إن محدودية قدرات السلطات السورية الجديدة أتاحت للمهربين استغلال الثغرات الأمنية. وقد أدى الاستيلاء السريع لـ"هيئة تحرير الشام" على مساحات شاسعة في أعقاب انهيار النظام إلى استنزاف مواردها بشكل كبير، مما أضعف قدرتها على الحفاظ على هيكل قيادة مركزي لأمن الحدود. وبالنتيجة، أصبح الكثير من مواقع النظام السابق على طول الحدود السورية الأردنية تحت سيطرة فصائل محلية تفتقر إلى الموارد والتنسيق اللازمين للمراقبة المنهجية. وهذا بدوره منح المهربين حرية عملياتية أكبر، ولا سيما في المناطق النائية.
وعلى نحو مماثل، أعاقت القدرات المحدودة للسلطات الجديدة الجهود الرامية إلى تنفيذ عمليات منهجية لمكافحة المخدرات. وفي حين أن تلك السلطات اكتشفت منشآت صناعية لإنتاج وتعبئة المخدرات في مواقع مختلفة، ومن بينها ريف دمشق، فإن هذه الجهود لا تزال غير متسقة، ولاسيما في الحد من التهريب إلى الأردن. وفي ظل غياب نهج منسق ومستدام، يستمر المهربون باستغلال الثغرات في تطبيق القانون، مما يضمن مرونة تجارة المخدرات غير المشروعة.
مما لا شك فيه أن سقوط الأسد أنهى رعاية الدولة لتجارة المخدرات، إلا أنه لم يلغِ دور البلاد في تهريب المخدرات إقليمياً. ولمعالجة هذه المشكلة المستعصية لا بد من تضافر الجهود الدولية، وتعزيز التدابير المتخذة لضمان أمن الحدود، وتقديم برامج تنمية اقتصادية نوعية لتوفير بدائل ناجعة للتهريب.
وينبغي أيضا أن تنصب جهود مكافحة تهريب المخدرات على الحد من الطلب الإقليمي عليها، ذلك أن استمرار تدفق الأرباح سيبقى المحرك الأساسي لهذه التجارة. وفي غياب استراتيجية شاملة ومنسقة، ستظل سوريا بعد الأسد ساحة خصبة لشبكات التهريب، ما يُبقي المنطقة رهينة دوامة من الفوضى وعدم الاستقرار.