أثار سقوط نظام الأسد آمالا واسعة بأن زمن الندرة والعوز في زمن الحرب قد ولى. لكن الأمل بدأ يتلاشى بسرعة في السويداء. فمع أن القتال النشط في المحافظة قد تراجع إلى حد كبير، فإن المعاناة لم تنته، حيث يدفع الشح في الغذاء والوقود والدواء المدينة إلى حافة الانهيار. وبينما ينحى السكان باللائمة في حصار المحافظة على الحكومة الانتقالية، تنفي السلطات ذلك وتشير إلى دخول المساعدات الإنسانية، وتحمّل مسؤولية النقص لمخاوف التجار من دخول المحافظة بسبب انعدام الأمن. لكن بعيدا عن تبادل الاتهامات، يتفق الطرفان على حقيقة واحدة: الوصول المقيد يخنق الاقتصاد المحلي ويفاقم الأزمة الإنسانية.
وعلى الرغم من أهمية المساعدات، فإنها لا تكفي. ولا بد من إعادة فتح طرق التوريد التجاري المنتظمة، لأنها السبيل الوحيد لإنهاء النقص وتخفيف المعاناة. ومسؤولية الحكومة الانتقالية تقتضي أن تمتد الحماية التي توفرها للقوافل الإنسانية لتشمل الشحنات التجارية، بما يضمن وصول السلع إلى السويداء بشكل آمن ومنتظم.
هذه المسألة لا تتعلق بالغذاء والدواء فقط، بل بإعادة بناء الثقة والاستقرار والوحدة في بلد ما زال يكافح لإعادة تجميع نفسه.
ويرسم السكان المحليون والعاملون في المجال الإنساني والصحافيون صورة قاتمة للوضع في السويداء.
وفي تحقيق نشر مؤخرا لـ"هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي)، استنادا إلى مقابلات مع أشخاص داخل السويداء وأقاربهم، ورد أن الرفوف فارغة، وحليب الأطفال والخضراوات الطازجة اختفت من الأسواق، والنظام الصحي يئن تحت الضغوط. ويقول السكان إنهم ينتظرون ساعات طويلة في طوابير الخبز بسبب التوقف شبه الكامل لشحنات الدقيق والوقود. هذه ليست مؤشرات على سلسلة توريد تعمل بكفاءة، بل أعراض انهيار كامل.
وتستمر السلطات في نفيها فرض حصار، مشيرة إلى وصول قوافل إنسانية بالتنسيق مع وكالات دولية. ومع أن السويداء قد لا تكون تحت حصار عسكري تقليدي، فإن الواقع على الأرض يحكي قصة أخرى. فالحركة ممكنة نظريا– إذ يستطيع الناس الدخول إلى المنطقة أو الخروج منها، وإن بصعوبة– لكن تدفق السلع الأساسية مقيد بشدة.
وسواء أكان ذلك نتيجة سياسة متعمدة، أم خلاصة ظروف أمنية أو عوائق بيروقراطية، فالنتيجة واحدة: ظروف أشبه بالحصار. الطريق السريع الرئيس من دمشق إلى السويداء، الذي كان شريان حياة المدينة، لا يزال مغلقا. ولا يمكن الدخول أو الخروج إلا عبر ممرات إنسانية محددة، وبعد تنسيق مسبق مع السلطات، وهي عملية تزيد المشقة وتطيل زمن الوصول.
وعلى الرغم من أن الحكومة تسمح بدخول المساعدات إلى السويداء، فإن ما تسمح به قليل وغير قابل للاستمرار. وتحذر المنظمات الإنسانية الدولية، ومن بينها "اللجنة الدولية للصليب الأحمر"، من أن السكان يواجهون نقصا حادا في الغذاء والماء والدواء، وتؤكد أن ما يصل إلى المحافظة من مساعدات أقل بكثير من الحد الأدنى المطلوب لتلبية الاحتياجات في ظل الحجم الكبير للأزمة.
وقد فاقم الوضع موجة النزوح الداخلي الواسعة نتيجة القتال الأخير، ما دفع البنية التحتية المحلية إلى حافة الانهيار، وزاد اعتماد السكان على المساعدات الإنسانية التي تأتي بشكل غير منتظم وغير كاف.
السويداء تراقب، والعالم يراقب معها. الخيارات التي تُتخذ الآن ستحدد ما إذا كان البلد يسير نحو مستقبل موحد وعادل أم يعيد تكرار أخطاء الماضي
ببساطة: المساعدات ضرورية، ولكنها لا تكفي. الإغاثة الإنسانية هي مجرد ضماد مؤقت، وليست حلا طويل الأمد. التمويل محدود والتسليم متقطع، بينما الاحتياجات تتزايد بسرعة. لا يمكن لعدد محدود من القوافل الإنسانية أن يحل هذه الأزمة. إن استعادة طرق التوريد التجاري بالكامل إلى السويداء هي وحدها الكفيلة بمعالجة نقص السلع الأساسية وفتح الطريق نحو الاستقرار.
ورغم أن الحل السياسي الشامل ضروري لمعالجة جذور أزمة السويداء، فإن الناس لا يستطيعون الانتظار حتى تحقق مفاوضات السلام نتائج ملموسة تضع الخبز على موائدهم. الوضع الإنساني يتدهور يوما بعد يوم، ولا شك في أن الحكومة الانتقالية هي الأقدر على التحرك السريع، وعليها أن تفعل ذلك الآن.
وبحسب مسؤولين في دمشق، فإن توقف عمليات التوريد يعود إلى مخاوف التجار من دخول المحافظة بسبب المخاطر الأمنية. إذا كان هذا صحيحا، فالحل واضح: كما توفر السلطات الانتقالية ممرات آمنة للقوافل الإنسانية، عليها أن تمنح الحماية ذاتها للشحنات التجارية، بالتنسيق مع الفاعلين المحليين المسيطرين على الأرض في السويداء لضمان وصول السلع بأمان ودون انقطاع.
المسألة لا تتعلق بالخبز والوقود وحدهما. فالمصالحة الوطنية الحقيقية لن تتحقق بالخطب أو بالشعارات، بل تعتمد على إجراءات ملموسة تنطلق من مبدأ بسيط: لا يجوز معاقبة أي مجتمع أو تهميشه. إن ضمان حرية تدفق السلع إلى السويداء هو فرصة للحكومة الانتقالية لتأكيد التزامها الشامل برفاه جميع السوريين، بغض النظر عن الجغرافيا أو المواقف السياسية.