مظاهرات الساحل السوري... وما تحمله من رسائل

مظاهرات الساحل السوري... وما تحمله من رسائل

استمع إلى المقال دقيقة

قد تكون مظاهرات الساحل التي اجتاحت محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص وحماة الأسبوع الماضي محدودة، ولكنها كشفت عما يتجاوز ما يوحي به الإقبال المتواضع الذي شهدته.

كانت تلك المظاهرات التعبير الأوضح عن حجم الإحباط لدى الطائفة العلوية منذ تولي السلطات الانتقالية الحكم في البلاد، وصرخة تعلن أن الاحتقان بلغ غايته وأن المظالم المتراكمة داخل مناطق العلويين في سوريا قد بلغت حد الانفجار.

لم تبرُز الاحتجاجات بسبب مطالبها التي نادت بالأمن والتوظيف والمساواة في المعاملة وحسب، وإنما أيضا بسبب طريقة تعامل قوات الأمن معها، التي وصفها مراقبون بأنها كانت احترافية ومدروسة وتركز على خفض التصعيد. وفي بلد طالما كان ضبط الحشود فيه يعني الإكراه واللجوء إلى العنف، فإن ما شهدته تلك المظاهرات كان تحولا جذريا يستحق التقدير.

باختيارها السماح للتجمعات بالاستمرار بدلا من قمعها، نجحت السلطات في احتواء الموقف. غير أن الهدوء كان حذرا وهشا. وما لم تعمل السلطات على إيجاد حلول جدية للضغوط الاقتصادية والسياسية والأمنية الكامنة التي دفعت الناس إلى الشوارع، فإن لحظات الهدوء هذه لن تدوم طويلا.

وانطلقت شرارة المظاهرات بدعوة من غزال غزال، رئيس المجلس الإسلامي العلوي المُشكّل حديثا، الذي حث على الاعتصامات السلمية للمطالبة بوقف العنف والدفع نحو الإصلاح. وجاءت دعوته إثر هجمات انتقامية على الأحياء العلوية في حمص انخرط فيها مسلحون من قبيلة بني خالد، بعد مقتل زوجين من الطائفة السنية في بلدة زيدل، وهي جريمة وصفت بأنها طائفية. وخلق هذا الهجوم الطائش المتسرع على أحياء بأكملها صدمة كبيرة في أوساط العلويين، وعمّق شعورهم بالضعف والهشاشة.

باختيارها السماح للتجمعات بالاستمرار بدلا من قمعها، نجحت السلطات في احتواء الموقف. غير أن الهدوء كان حذرا وهشا

بيد أن حمص لم تكن السبب الحقيقي، وإنما كانت الشرارة فقط. ومنذ شهور عديدة، تعاني مناطق العلويين من انعدام الأمن، حيث تشهد عمليات خطف وقتل وحلقات انتقامية. وفي الوقت نفسه، فُصل عشرات الآلاف من العلويين على حين غرة من الأجهزة الأمنية والمؤسسات المدنية بعد سقوط النظام السابق، مما ترك عائلاتهم بلا أي مصدر للدخل أو الدعم. وما زاد الطين بلة الشعور المتزايد بالتهميش السياسي وعدم اليقين بشأن العملية الانتقالية والاتجاه الذي تسير نحوه.

وانعكس ذلك في اللافتات التي رفعها المتظاهرون. ودعا بعضها إلى استعادة الأمان والمساءلة، ورُفعت مطالب بإعادة الموظفين المفصولين إلى وظائفهم. بينما طالبت لافتات أخرى باللامركزية الإدارية والفيدرالية. تحكي هذه المطالب قصة مجتمع لا يرفض الانتقال السياسي، لكنه يتساءل عما إذا كان له مكان ضمن هذا الانتقال أصلا.

تعاملت السلطات مع الاحتجاجات بطريقة مغايرة كليا لما كان سائدا في عهد الأسد. فقد أكدت منذ البداية على التزامها بحماية الحق في التجمع السلمي. وانعكس هذا الالتزام في سلوك جهاز الأمن العام، حيث انتشرت القوات بأعداد كبيرة إلا أنها تجنبت الاحتكاك مع المتظاهرين أو التصعيد.

وسمحت تلك القوات للمظاهرات بالمضي، ولم تتدخل إلا عند اندلاع الاشتباكات. ووصف أهالي اللاذقية وطرطوس حضور قوات الأمن بأنه مدروس ومنضبط، وهو تحول لافت في بلد لم تُقابَل فيه المعارضة إلا بالقوة الغاشمة على مر عقود طويلة.

ساعد هذا الانضباط في الحفاظ على سلمية الاحتجاجات، التي كانت محدودة في حجمها أصلا ولم تستمر طويلا. غير أن الشوارع شهدت مظاهرات مضادة مؤيدة للحكومة في عدة مدن، من بينها طرطوس، حيث اندلعت اشتباكات متفرقة قبل أن تتدخل قوات الأمن.

أما أخطر أعمال العنف خلال الاحتجاجات فقد كانت من نصيب اللاذقية، حيث ألقى المسؤولون باللوم على جماعات مسلحة مرتبطة بشبكات النظام السابق في إطلاق النار وتخريب مركبات الشرطة، مما أدى إلى وقوع إصابات في صفوف المدنيين وعناصر الأمن على حد سواء. وبحلول الليل، تفرقت معظم تلك التجمعات.

وصف أهالي اللاذقية وطرطوس حضور قوات الأمن بأنه مدروس ومنضبط، وهو تحول لافت في بلد لم تُقابَل فيه المعارضة إلا بالقوة الغاشمة على مر عقود طويلة

تسلط المظاهرات، وردود الفعل التي أثارتها، الضوء على ديناميكيات تمتد إلى ما هو أبعد وأعمق من الأحداث نفسها؛ ثمة تحول بدأ ينضج داخل المجتمعات العلوية. فقد بلغ الإحباط حدا تغيرت فيه الحسابات الخاصة لتلك المجتمعات، فتكلفة الصمت اليوم تفوق تكلفة الكلام.

وعلى الرغم من تواضع نسبة المشاركة، فإن الاحتجاجات المنسقة عبر مدن متعددة توحي بظهور شخصيات قادرة على حشد شرائح من المجتمع، وإن بأعداد خجولة في الوقت الحالي.

من جانبها، ثمة ما يشير إلى أن السلطات تدرك أكثر فأكثر التكلفة السياسية الباهظة للعنف، وتدرك في الوقت نفسه الحاجة إلى اتخاذ تدابير أمنية وقائية. وقد تجلى ذلك في حجم الانتشار الأمني ​​وقرار الاعتماد على وحدات منضبطة مدرَّبة بدلا من المجندين الجدد الأكثر عرضة لاقتراف الانتهاكات.

لكن العبرة الأساسية تؤكد أن الانضباط وحده لا يكفي. لا يمكن لأحد أن ينكر أن السماح باستمرار الاعتصامات وعدم التصدي لها لعبا دورا هاما في تجنب المواجهة الفورية، إلا أن المظالم التي دفعت الناس إلى الشوارع في المقام الأول ما زالت بلا حل. وإذا لم تتمكن السلطات الانتقالية من معالجة الأسباب العميقة للسخط، فسوف يستمر مرجل الغضب بالغليان منذرا باندلاع اضطرابات أوسع نطاقا.

الكرة الآن في ملعب السلطات الانتقالية: هل ستأخذ تلك المظاهرات في الاعتبار وتتخذ خطوات جدية قبل حلول الأزمة التالية، أم إنها ستكتفي بالاستعداد لها؟

ليست مظاهرات الساحل رفضا للسلطات الانتقالية، بل هي خارطة طريق للإصلاحات التي تحتاجها البلاد إذا كانت تأمل في استعادة استقرارها. إنها تدق ناقوس الخطر لكن الأوان لم يفت بعد، إذ ينبغي قراءتها كتحذير وفرصة في آنٍ واحد. فرسالة الشوارع كانت واضحة ولا تحتمل التأويل: لا يمكن الاستمرار بالمسار الحالي، وتكلفة التقاعس عن إيجاد حلول جذرية آخذة في الارتفاع، وهامش الخطأ يضيق بسرعة.

وفي الوقت نفسه، تتيح هذه اللحظة للسلطات فرصة حقيقية كي تثبت أن النظام السياسي الذي تبنيه يختلف اختلافا جذريا عن النظام الذي حل محله. وهذا يتطلب أكثر من بضعة رسائل، إنه يتطلب حكومة متجاوبة، وشفافية في اتخاذ القرارات، وحماية متساوية لكل المواطنين على اختلاف أطيافهم ومشاربهم وانتماءاتهم.

قدمت المظاهرات تحذيرا ووجهة ومهلة نهائية. والكرة الآن في ملعب السلطات الانتقالية: هل ستأخذ تلك المظاهرات بالاعتبار وتتخذ خطوات جدية قبل حلول الأزمة التالية، أم إنها ستكتفي بالاستعداد لها؟

font change