في الذكرى الأولى للإطاحة بنظام الأسد، لم تكن دمشق تشبه في شيء المدينة التي عرفتها ذات يوم. تدفقت الحشود إلى الشوارع حتى ساعات متأخرة من الليل. صدحت الموسيقى من المقاهي، وتسللت من السيارات التي جابت شوارع المدينة بلا كلل أو توقف، وارتفعت من منصات مؤقتة، جاذبة المحتفلين إلى رقصات عفوية، لتضفي على المدينة أجواء احتفالية. وللحظة وجيزة، بدا وكأن السوريين يحاولون إطلاق العنان لعقود من الفرح المكبوت دفعة واحدة.
ومع ذلك، وسط كل هذا الضجيج والفرح، شق الهواءَ هتاف واحد بدا مميزا ولافتا خلال عرض عسكري رسمي، توعدت مجموعة من الجنود بأن تراق دماء عدوها فتجري كالأنهار، في إشارة واضحة إلى إسرائيل. وكان لتلك الكلمات وقع أكثر حدة من الاحتفال المحيط بها.
قبل عام واحد فقط، ما كان لهذا الهتاف أن يجذب أي انتباه أو يثير أي اهتمام. فقد كانت سوريا وإسرائيل تعيشان في حالة من "العداء المجمد" لفترة طويلة، فالصراع بينهما متأصل ومعلّق دون حل، والخطاب التحريضي أمر معتاد ولا يحمل أهمية تذكر. أما اليوم، فالوضع مختلف.
منذ وصولها إلى السلطة، حاولت السلطات الانتقالية جاهدة أن تتجنب الظهور بمظهر التهديد لإسرائيل، كما أنها دخلت معها في مفاوضات حساسة تهدف إلى خفض حدة التوتر. وفي ظل هذه الخلفية، كان سماع وحدة عسكرية رسمية تردد هتافات تعيد إحياء خطاب سفك الدماء كسقوط حجر في مياه راكدة.
وما لبث أن أثار هذا الحجر موجات متلاحقة من التداعيات. انتشرت مقاطع فيديو للهتاف كالنار في الهشيم بين المشككين بنظام دمشق الجديد في إسرائيل وخارجها، واستغلوه كدليل على عدم إمكانية الوثوق بالسلطات الانتقالية.
وسواء كان المقصود من هذا الهتاف أن يكون تحديا للرئيس أحمد الشرع أم لا، فقد كشف عن صدع في سياسة ضبط النفس؛ صدع سوف يتسع أكثر ويخرج عن السيطرة إذا تعثرت المحادثات وتواصلت الضربات الإسرائيلية.
منذ وصولها إلى السلطة، حاولت السلطات الانتقالية جاهدة أن تتجنب الظهور بمظهر التهديد لإسرائيل، كما أنها دخلت معها في مفاوضات حساسة تهدف إلى خفض حدة التوتر
جاء الهتاف تعبيرا عن التضامن مع فلسطين، وبدأ بالإشارة إلى غزة، ليبلغ ذروته بتعهد بتحويل الجثث إلى ذخيرة وجعل دماء العدو تتدفق كالأنهار. الشعار بحد ذاته مألوف (واعمل من دمك أنهار) متجذر في المظاهرات العامة منذ زمن طويل، وكثيرا ما يتردد في العروض العسكرية التي تنظمها الفصائل الفلسطينية، بما فيها الجناح العسكري لحركة "حماس".
إلا أنه اكتسب أهمية إضافية بسبب الخلفية والسياق الذي جاء خلاله. فهو لم يكن مجرد شعار عابر يردده صوت واحد، ولا لحظة ثانوية على هامش الاحتفالات. بل كان جزءا أساسيا من الحدث الرئيس ليوم التحرير الرسمي: عرض عسكري في العاصمة، مصمم بدقة وتأنٍ لإبراز قوة الدولة.
وزاد الحضور من أهمية الهتاف. فقد حضر العرضَ العسكري الرئيس الشرع برفقة شخصيات بارزة من مختلف أطياف القيادة الانتقالية. وفي ذاك السياق، لا يمكن اعتبار أي شيء عرضيا أو عفويا.
شكّل الهتاف تناقضا حادا مع موقف الحكومة تجاه إسرائيل، وهو ما أثار تساؤلات عديدة حول مدى سيطرة الشرع. وبالنسبة لكثير من المراقبين، عزّز الشكوك حول ما إذا كان يفرض سيطرة كاملة على القوات العاملة حاليا تحت راية الدولة. وقد واجهت السلطات الانتقالية صعوبات جمة في فرض انضباط موحد على الهيكل العسكري الذي أنشئ بسرعة من عدة جماعات مسلحة متباينة. فكان الاندماج غير متكافئ، والولاءات متداخلة، وما زالت ثقافة القيادة في حالة تغير مستمر.
وفي الوقت نفسه، يبدو أن هذا الهتاف يدل على ما هو أكثر من تهاون بسيط في الانضباط. ففي بعض أوساط المؤسسة العسكرية، ينظر البعض إلى المفاوضات مع إسرائيل على أنها سابقة لأوانها أو مهينة. ومع تصاعد الاستياء تجاه إسرائيل وسط الاعتداءات المتكررة على الأراضي السورية ووقوع الضحايا بين الحين والآخر، ربما كان الهتاف وسيلة للتعبير عن الإحباط من نهج الشرع المتحفظ نسبيا. والتاريخ حافل بأمثلة تروي لنا كيف ترسل قوى الدولة المنقسمة داخليا إشارات متناقضة.
انزلاق الضوابط
وسواء كان الهتاف عرضيا أم مقصودا، سرعان ما أصبح التمييز بين الأمرين ثانويا. حيث تعامل المسؤولون الإسرائيليون مع الهتاف باعتباره تصعيدا. وبالنسبة للمشككين في عملية الانتقال في سوريا، فقد تحول إلى سلاح سياسي، استشهدوا به كدليل على أن دمشق ما زالت متحالفة مع جماعات مسلحة تُكن العداء لإسرائيل، وأن أي تواصل مع الشرع قائم على الوهم. وذكرت التقارير أن شخصيات بارزة في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية اجتمعت خلال ساعات لتقييم تداعيات مقطع الفيديو ذاك.
وأشار بعض المسؤولين إلى أنه لا بد من توجيه "رسائل شديدة اللهجة" إلى دمشق، للمطالبة بتوضيح وإدانة. وذهب آخرون إلى ما هو أبعد، حيث نشر وزير شؤون الشتات الإسرائيلي الفيديو على الملأ، معلنا أنه "لا مفر من الحرب". وأبرزت سرعة انتشار المقطع، والتصعيد المتسارع للخطاب الذي أعقبه، مدى هشاشة الوضع الراهن.
سواء كان الهتاف عرضيا أم مقصودا، سرعان ما أصبح التمييز بين الأمرين ثانويا. حيث تعامل المسؤولون الإسرائيليون مع الهتاف باعتباره تصعيدا
من جانبها، لم تقدم دمشق أي تفسير للهتاف أو إدانة علنية له، على الرغم من المطالبات الإسرائيلية. ويعكس هذا الصمت معضلة استراتيجية حقيقية. فالتحرك السريع نحو النأي بالقيادة عن الحادثة قد يوحي بقمع ما يعتبره كثير من السوريين غضبا مشروعا إزاء تصرفات إسرائيل في سوريا وخارجها، الأمر الذي قد يصب الوقود على نار الاستياء. إلا أن التقاعس عن اتخاذ أي إجراء ينطوي على مخاطر لا يستهان بها، فهو يسمح للجهات الفاعلة الداخلية بتقويض المفاوضات وتشكيل سياسة البلاد بدلا من الالتزام بها.
في الوقت الراهن، ربما يأمل الرئيس الشرع أن تتلاشى هذه الأزمة من تلقاء نفسها، وأن لا تعدو كونها ضجيجا سيتبدد بمجرد التوصل إلى اتفاق. بيد أن هذا الأمل معلق على تقدم لا يزال ضبابيا. وإذا استمرت المفاوضات في التعثر وتواصلت الضربات الإسرائيلية، فسوف يصبح ضبط النفس أكثر صعوبة. وستتعمق مشاعر الاستياء في الداخل السوري، وتتسع الثغرات في استراتيجية الشرع وتصبح أكثر وضوحا.
وتكشف هذه الحادثة عن التحدي الحقيقي الذي يواجه القيادة الانتقالية في سوريا: الحفاظ على المفاوضات الحساسة في الخارج مع احتواء الضغوط المتزايدة في الداخل. وفي منطقة تتقدم فيها الرمزية على التصعيد في كثير من الأحيان، سوف تمتد تكلفة المحادثات المتعثرة إلى ما هو أبعد من الشلل الدبلوماسي. وبالنسبة لسوريا، ينطوي ذلك على خطر تعزيز نفوذ الجهات المتشددة وتقويض المرحلة الانتقالية الهشة أصلا.
وعلى نطاق أوسع، يهدد هذا الوضع بتقويض ضبط النفس الذي منع حتى الآن اندلاع أي مواجهة أوسع، ليتم استبداله بحلقة مألوفة من الاستفزاز والرد يصعب على معظم الأطراف الفاعلة السيطرة عليها كليا. ولن تتوقف الآثار والتداعيات عند الحدود السورية-الإسرائيلية، بل ستمتد لتشمل المنطقة بأسرها، وتجرها مرة أخرى نحو نمط مألوف من الريبة وانعدام اليقين، في الوقت الذي بدأ فيه الكثيرون يعقدون الآمال حول قيام نظام جديد.