العدالة الانتقائية لن تكفي

العدالة الانتقائية لن تكفي

استمع إلى المقال دقيقة

في الوقت الذي كان فيه السوريون يحتفلون بالإلغاء الكامل لقانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا، أعلنت المملكة المتحدة حزمة جديدة من العقوبات، في تذكير صارخ بأن صفحة الإجراءات العقابية لم تُطوَ بعد. فمن خلال استهدافها شخصيات مرتبطة بالنظام السابق، إضافة إلى قادة وفصائل مسلحة باتت اليوم جزءا من قوات الأمن الانتقالية، مع الإشارة الصريحة إلى دورهم في العنف الساحلي في مارس/آذار، وجّهت لندن رسالة واضحة: الاندماج في مؤسسات الدولة الجديدة لا يمحو المسؤولية عن الانتهاكات.

جاء التوقيت مدروسا. فقد أُعلنت العقوبات بالتزامن مع شروع السلطات الانتقالية في محاكمات علنية لمتهمين بالتورط في العنف الساحلي، في خطوة هدفت إلى الإيحاء بقطيعة مع الماضي. لكن قرار لندن يوضح أن الرمزية وحدها– وليس المقاضاة الانتقائية– لن تكفي. فالعواصم الغربية لا تكتفي باختبار قدرة دمشق على فتح باب المحاسبة، بل تراقب قدرتها على مأسستها: أي تطبيق القانون بمعايير ثابتة ومتسقة، تشمل أيضا القادة المندمجين في البنية الأمنية الجديدة.

ولا تتعامل العقوبات مع العنف الساحلي كتعثر أمني عابر، بل ترفعه إلى مستوى اختبار لجدية الانتقال ومعاييره. وبذلك تعيد توجيه الأنظار إلى الطريقة التي تسعى بها دمشق لترسيخ سلطتها: هل تُبنى على محاسبة ضيقة ومجزأة، أم على إرساء قواعد واضحة وموحدة للمسؤولية داخل مؤسسات الدولة الناشئة؟ في هذا التصور، ليست المحاسبة خيارا ولا ترفا يمكن ترحيله إلى ما بعد استقرار المرحلة الانتقالية؛ بل شرط ملازم لها وجزء بنيوي من نجاحها.

الاندماج في مؤسسات الدولة الجديدة لا يمحو المسؤولية عن الانتهاكات

استهدفت العقوبات البريطانية المعلنة في 19 ديسمبر/كانون الأول عددا من الأفراد المتهمين بانتهاكات وقعت في عهد الأسد، وأخرى خلال المرحلة الانتقالية. من بين هؤلاء محمد الجاسم، قائد فصيل سليمان شاه، وسيف بولاد، قائد فرقة الحمزة. كما شملت العقوبات ثلاث مجموعات مسلحة: فرقة السلطان مراد، وفرقة سليمان شاه، وفرقة الحمزة، المتهمة جميعها بارتكاب فظائع خلال الحرب، وبالتورط في الاشتباكات الساحلية الأخيرة التي يقال إنها أودت بحياة نحو 1400 شخص.

وتكتسب هذه التصنيفات وزنا سياسيا خاصا بالنظر إلى مواقع القادة المعاقبين داخل البنية العسكرية الجديدة. فعلى الرغم من أن هذه الفصائل لم تعد قائمة رسميا بعد دمجها في وزارة الدفاع، فإن هياكلها الداخلية– إلى حد كبير– ما تزال على حالها. فـ"لواء سليمان شاه"، مثلا، أُدمج في الفرقة 25 التي لا يزال يقودها محمد الجاسم، المعروف بأبي عمشة، فيما أُلحقت فرقة الحمزة بالفرقة 76 بقيادة سيف بولاد، المعروف بأبي بكر.

وباختيارها شخصيات متورطة في انتهاكات تعود إلى عهد الأسد وأخرى أحدث عهدا، عززت المملكة المتحدة مبدأ يلقى دعما متزايدا في العواصم الغربية: الاندماج في مؤسسات الدولة لا يعفي من المسؤولية، بل يضاعفها. كما يؤكد هذا التحرك أن رفع العقوبات الاقتصادية الواسعة التي فُرضت بسبب النظام السابق لا يعني أن ملف العدالة قد أُهمل. فالمحاسبة، في هذا التصور، ليست ملحقا بالاستقرار، بل شرطه الأساسي.

تعهدت السلطات الانتقالية في سوريا بمحاسبة المرتكبين بغض النظر عن رتبهم أو انتماءاتهم، واتخذت خطوات محدودة في هذا الاتجاه. فالمحاكمة العلنية الجارية لأربعة عشر رجلا متهما بالتورط في سفك الدماء الساحلي– نصفهم من عناصر القوى الأمنية– تهدف إلى إظهار أن مسار المحاسبة قد انطلق فعليا، حتى داخل مؤسسات الدولة.

غير أن هذه المحاكمة، على الرغم من وزنها الرمزي، تكشف حجم المساومات السياسية التي ترسم مقاربة الحكومة للعدالة. فالمسؤولون يقولون إن القادة الخاضعين للعقوبات لم ترد أسماؤهم صراحة في خلاصات لجنة تقصي الحقائق الحكومية، وهو ما يبرر– في نظرهم– الامتناع عن اتخاذ إجراءات بحقهم. في المقابل، يرى منتقدون أن التحقيق انحصر في تعقّب المنفذين المباشرين، وتغافل عن مسؤولية القيادة وعن البيئة المتساهلة التي وفّرت الغطاء لوقوع انتهاكات واسعة النطاق.

والأهم أن للقائدين المعاقبين سجلين واسعين وموثقين جيدا من الانتهاكات لا صلة لهما بالعنف الساحلي. وترقيتهما إلى مناصب عليا، رغم العقوبات والاتهامات ذات المصداقية، تبدو أقرب إلى خيار سياسي محسوب منها إلى تقدير قانوني.

ويمتد هذا المنطق إلى ما هو أبعد من القادة المرتبطين بالمعارضة، ليشمل شخصيات متورطة في فظائع تعود إلى عهد الأسد. فقد أعطت السلطات الانتقالية الأولوية لملاحقة الجرائم الحديثة، فيما أجّلت المحاسبة عن الانتهاكات الأقدم، في استراتيجية تبدو مصممة لتعزيز المصداقية على المدى القصير، لا لبناء إطار شامل للعدالة. ويعود هذا التأجيل إلى الخشية من أن تؤدي ملاحقات واسعة لمسؤولي النظام السابق أو لشخصيات معارضة سابقة إلى زعزعة انتقال هش أصلا.

هذا الحساب السياسي تحديدا هو ما يمنح توقيت العقوبات البريطانية ثقله ودلالته. فإعلانها مع دخول المرحلة الانتقالية عامها الثاني لم يكن تفصيلا عارضا ولا محض مصادفة

وهذا الحساب السياسي تحديدا هو ما يمنح توقيت العقوبات البريطانية ثقله ودلالته. فإعلانها مع دخول المرحلة الانتقالية عامها الثاني لم يكن تفصيلا عارضا ولا محض مصادفة. الرسالة واضحة: لا يجوز ترحيل المحاسبة بذريعة الحفاظ على الاستقرار. فالعدالة حين تُعامل كملف مؤجل، نادرا ما تفضي إلى سلام مستدام.

إن السماح لأشخاص متهمين بارتكاب جرائم حرب بتولي مناصب عليا، يترتب عليه ثمن ملموس. فهو ينسف ادعاءات الحياد في المحاسبة، ويغذي دوامات الانتقام وأخذ الحق باليد، ويقوض ثقة الناس بالدولة. أما المجتمعات التي دفعت كلفة عنف مقاتليها– من أكراد وعلويين ودروز– فإن عودة الجناة المعروفين تحت رايات مؤسسات جديدة لا تبعث على الطمأنينة، بل تعمق الخوف وتعيد إنتاج الهواجس.

تحقيق العدالة في مجتمع خارج لتوه من صراع ليس مهمة سهلة. لكن تأجيلها ليس خيارا محايدا، إنه رهان محفوف بالمخاطر على استقرار بعيد المنال. الوعود بالمحاسبة ضرورية، غير أن الوفاء بها– مبكرا، وبمصداقية، ومن دون استثناء– هو ما يصنع الفارق الحقيقي.

وبالنسبة لدمشق، لم يعد الخيار نظريا. فالمحاسبة ليست مسألة ملاءمة أو توقيت سياسي، بل مسألة معايير. واختيار العدالة على حساب البرغماتية يتيح للسلطات الانتقالية توجيه رسالة أقوى من أي خطاب أو عقوبة بأن زمن الإفلات من العقاب قد انتهى فعلا، أيا كان الانتماء. عندها فقط، يمكن لمسار الانتقال السوري أن يتبلور بوصفه منعطفا حقيقيا نحو بداية جديدة.

font change