سوريا بعد عام من سقوط الأسد... استحقاقات تنتظر الحسم

تحديات عميقة لم تُحل بعد

أ.ف.ب
أ.ف.ب
احتفال حاشد بالذكرى الأولى السنوية لسقوط نظام الأسد، مدينة حماة، 5 ديسمبر

سوريا بعد عام من سقوط الأسد... استحقاقات تنتظر الحسم

تقف سوريا في الذكرى السنوية الأولى لانهيار نظام الأسد، أمام لحظة مفصلية تستدعي الاحتفاء طبعا، ولكنها تستدعي أيضا التأمل العميق. لقد شكّل سقوط بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي قطيعة تاريخية أنهت خمسة عقود من الحكم السلطوي، والإدارة العسكرية والعزلة الدولية العميقة. كما فتح نافذة كانت موصدة طويلا لإعادة التفكير في النظام السياسي، وإعادة بناء مؤسسات محطمة، والشروع في المسار الشاق نحو التعافي الوطني.

خلال العام المنصرم، حققت السلطات الانتقالية في سوريا ما كان كثيرون يعدونه مستحيلا. فعلى الصعيد الدبلوماسي، خرجت البلاد من عزلة امتدت لعقود، أعادت فتح قنوات أغلقت منذ زمن. واقتربت أكثر من أي وقت مضى من رفع شبه كامل للعقوبات. أما داخليا، فقد حسنت الخدمات، ووسعت الفضاء المدني، وأعادت الاستقرار، وأبقت العنف في حدوده الدنيا رغم بعض التوترات الطائفية المتفرقة.

ومع ذلك، تتجاور هذه الإنجازات، مع تحديات عميقة لم تحل بعد. فبينما أعيد بناء المؤسسات، ما زالت الشرعية بعيدة المنال. وفيما انطلقت المسارات السياسية، فإنها لم تنجح بعد في توحيد البلاد خلف رؤية مشتركة. أما الوضع الاقتصادي، فيواصل التدهور رغم سعي الحكومة إلى خطط طموحة للتعافي. وآليات العدالة بدأت، لكنها بقيت محدودة، تتجنب مواجهة الحقائق الأكثر إيلاما.

لم يعد ممكنا تأجيل معالجة هذه النواقص. فالسنة المقبلة ستكون أكثر حسما، وأكثر خطرا، من سابقتها. التوقعات تتصاعد، ظروف المعيشة تتدهور، والمخاطر تتزايد من أن يتحول الإحباط الشعبي المتنامي إلى شرخ سياسي حاد. من الآن فصاعدا، لم يعد مقبولا أن يُحكم على التحول السوري، بما نجت منه البلاد، بل بمدى قدرة سلطاتها الجديدة على مواجهة التحديات التي ترسم الطريق أمامها.

تقدم بلا توافق سياسي

مع اقتراب اكتمال تشكيل البرلمان الجديد، باتت خريطة الطريق الانتقالية– الحوار الوطني، والإعلان الدستوري، وإنشاء هيئات تمثيلية مؤقتة– قد اتخذت شكلها الرسمي الكامل. فعلى الورق، ترسم هذه الإجراءات البنية الأساسية لنظام سياسي ما بعد السلطوية. أما في الواقع، فقد كشفت عن توترات عالقة تتعلق بالشرعية والتمثيل والمسار الذي ستسلكه الدولة الناشئة.

حرص الرئيس أحمد الشرع على تقديم كل مرحلة من العملية بوصفها تشاركية وشاملة. فقد شكلت لجان للتشاور مع الشخصيات البارزة والمجتمعات والفاعلين المدنيين لجمع الآراء حول الحوار الوطني. وصياغة الإعلان الدستوري. وتصميم المؤسسات الناشئة.

وكان الهدف من هذه الخطوات الإيحاء بالشفافية، والقطع مع ممارسات الإقصاء التي ميّزت النظام السابق. غير أن سرعة التنفيذ، وتسلسل المراحل، والطابع المُدار بإحكام للعملية، أفرزت ردود فعل متباينة وحادة. فالمؤيدون احتفوا بالإنجازات وعدّوها تاريخية، معتبرين أنه في مرحلة انتقالية هشة، يبقى قدر من اتخاذ القرار المركزي ضروريا للحفاظ على التماسك ومنع الانزلاق السياسي.

من الآن فصاعدا، لم يعد مقبولا أن يُحكم على التحول السوري بما نجت منه البلاد، بل بمدى قدرة سلطاتها الجديدة على مواجهة التحديات التي ترسم الطريق أمامها

أما المنتقدون فرأوا رأيا مختلفا تماما: مسارا متعجّلا من أعلى إلى أسفل يركّز قسطا مفرطا من السلطة في يد الرئاسة، ويترك آليات الرقابة والتوازن الحقيقية غائبة على نحوٍ لافت. أما هاجسهم الأعمق فهو أن النظام الناشئ قد يعيد إنتاج منطق الحكم الفردي الذي ميّز عهد الأسد بدلا من تفكيكه.

وقد ازدادت المخاوف مع بروز شخصيات مرتبطة بـ"هيئة تحرير الشام" داخل مؤسسات الحكم والأمن، ما غذى القلق من احتكار سياسي آخذ في التشكل في لحظة تتطلب أوسع مشاركة لإعادة بناء الثقة.

تشكيل البرلمان لم يخفف هذه الانقسامات، بل عمقها. فرغم أنه يفي بالمتطلبات الرسمية لخريطة الطريق، فقد أعاد إشعال الشكوك القديمة حول مدى تمثيله، وما إذا كان سيملك سلطة فعلية لتحقيق التغيير المنشود. باختصار، يمكن القول بثقة إن الانتقال السياسي مضى قدما، لكنه ما زال يفتقر إلى التوافق والثقة والشرعية اللازمة لترسيخه.

أ.ف.ب
امرأتان سوريتان تحتفلان بالذكرة السنوية الأولى لسقوط نظام الأسد

مكاسب معيشية على رمال متحركة

إذا كانت الدبلوماسية أبرز نجاحات المرحلة الانتقالية، فإن الاقتصاد هو المجال الذي تظهر فيه حدود التقدم المبكر بأشد وضوح. فقد جعل الرئيس أحمد الشرع من إحياء الاقتصاد ركنا أساسيا في خريطة طريقه، فخفض الضرائب على الواردات وأعلن زيادة بنسبة 200 في المئة لرواتب الموظفين الحكوميين، وسعى إلى جذب المستثمرين لإيصال رسالة مفادها أن سوريا باتت مفتوحة للأعمال.

ولفترة وجيزة، أثمرت هذه الإجراءات نتائج ملموسة. إذ تراجع التضخم بشكل كبير، من نحو 110 في المئة في فبراير/شباط 2024 إلى ما يقارب –15 في المئة بعد عام واحد، مدفوعا بإصلاحات جمركية، وتخفيف القيود التجارية، وقوة مؤقتة للعملة. لكن هذا الانفراج كان قصيرا. فالتضخم عاد ليرتفع، والأسعار تجاوزت بسرعة مكاسب الأجور. وحتى بعد الزيادة المعلنة، فإن الحد الأدنى للأجور البالغ 750 ألف ليرة سورية لا يغطي سوى ثلث تكلفة سلة غذاء أساسية لشهر واحد.

ويُحسب لحكومة الشرع، أن إمدادات السلع الأساسية تحسنت. فقد ارتفع توفير الكهرباء بشكل ملحوظ، ليصل في بعض المناطق إلى عشرة أضعاف ما كان متاحا في عهد الأسد. كما خفت أزمة الوقود، وأصبح الخبز متوافرا بشكل منتظم.

الحد الأدنى للأجور البالغ 750 ألف ليرة سورية لا يغطي سوى ثلث تكلفة سلة غذاء أساسية لشهر واحد

لكن هذه الإنجازات جاءت بكلفة باهظة. فقد ارتفعت أسعار الكهرباء والوقود والخبز والنقل بشكل حاد بعد إعادة هيكلة الدعم. وأصبح السوريون ينفقون نسبة أكبر من دخلهم على السلع الأساسية أكثر من أي وقت منذ عام 2011، وهو مصدر متزايد للإحباط يتجاوز الانقسامات السياسية.

ورغم أن السلطات الانتقالية لا تتحمل مسؤولية الجذور البنيوية لانهيار الاقتصاد السوري الناجمة عن عقود من الفساد والحروب وسوء الإدارة، فإن طريقة تعاملها مع الأزمة، باتت محل انتقاد متزايد. فاتباع نهج فوقي في صنع القرار، والتحول السريع نحو تحرير السوق، ورفع الدعم في لحظة هشاشة مالية واجتماعية قصوى، وكل ذلك من دون مشاورات عامة ذات معنى، ترك كثيرا من السوريين يكافحون ليس فقط للتأقلم، بل للصبر أيضا. والنتيجة اقتصاد يبدو وكأنه يتعافى على السطح، لكنه يظل هشا في بنيته، ويزداد قابلية للانفجار سياسيا.

العدالة عالقة في دهاليز السياسة

أما أبرز مطالب السوريين منذ زمن طويل، العدالة والمساءلة، فقد حققتا تقدما أوضح هذا العام مقارنة بأي وقت في الذاكرة الحديثة، لكنها ما زالت محكومة بقيود سياسية وبنيوية صارمة.

فالمحاكمة التاريخية المرتبطة بانتهاكات الساحل في مارس/آذار شكلت قطيعة مع الإفلات من العقاب الذي ميز حقبة الأسد. وللمرة الأولى، جرت محاكمة علنية لعناصر من الأجهزة الأمنية: نقلت الجلسات عبر التلفزيون، وحظي المتهمون بتمثيل قانوني، ونوقشت الشهادات علنا. بالنسبة لمجتمعات اعتادت على السرية والإنكار، كان ذلك تحولا رمزيا عميقا، يوحي بأن حتى الأجهزة الأمنية لم تعد بمنأى عن المساءلة.

وقبل ذلك، اعترفت الحكومة علنا بالانتهاكات التي وقعت في الساحل والسويداء، وشكلت لجان تقصي حقائق، وتعهدت بمحاسبة المسؤولين عنها. وفي خطوة غير مسبوقة، سمحت أيضا للمنظمات الدولية بالوصول إلى تحقيقات مستقلة بشأن هذه الانتهاكات.

لكن رغم هذا التقدم، ما زالت أجندة العدالة مقيدة بشدة. فقد أولت السلطات الأولوية للمساءلة عن الانتهاكات التي وقعت بعد الأسد، بينما أجلت أي مواجهة شاملة مع عقود من جرائم النظام السابق. سياسيا، يعكس ذلك حسابين: الأول أن إظهار المساءلة عن الانتهاكات الأخيرة، يعزز صورة الحكومة خارجيا في لحظة تدقيق مكثف. والثاني أن السلطات ترى أن محاكمات واسعة لرموز النظام السابق قد تهدد الهدوء الهش.

أ.ف.ب
صورة تذكارية مع عناصر لقوات الأمن اثناء احتفال بسقوط نظام الأسد

 

اعترفت الحكومة علنا بالانتهاكات التي وقعت في الساحل والسويداء، وشكلت لجان تقصي حقائق، وتعهدت بمحاسبة المسؤولين عنها

لكن هذه الحسابات ليست السبب الوحيد. فسوريا تفتقر إلى البنية القانونية اللازمة لتحقيق عدالة انتقالية شاملة. فالقانون الجنائي لا يعترف بجرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية أو حالات الاختفاء القسري، ومن دون برلمان قوي يسن الإصلاحات الضرورية، تبقى أدوات النظام القضائي محدودة.

ومع أن هذه التحديات جسيمة، فإن غياب أي إجراءات لمحاسبة رموز النظام السابق يفرض أثمانا متزايدة. فالمجتمعات التي عانت طويلا من القمع ترى في العدالة الانتقائية شكلا آخر من الظلم. وغياب مسارات موثوقة للإنصاف يغذي السخط، ويدفع بعض الأفراد نحو العدالة غير الرسمية أو الانتقام.

وقد أظهرت الهجمات الأخيرة على أحياء علوية نفذها رجال عشائر سنية، إثر حادثة جنائية أعيد تأطيرها في سياق طائفي، مدى سرعة اشتعال العنف حين ينظر إلى العدالة المؤسسية على أنها غائبة أو منحازة.

هدوء هش

شهد المشهد الأمني مزيجا من الاستقرار الملحوظ والهشاشة البنيوية العميقة. وبفضل حُسن تدبير السلطات، تجنبت سوريا موجات العنف الواسع، التي توقع كثيرون أن تعقب سقوط الأسد. فقد جرى ضم الفصائل المسلحة إلى وزارة الدفاع، وساهم الانضباط الأولي لدى القوات الأمنية في منع عمليات الثأر في لحظة شديدة التقلب.

لكن ذلك الاستقرار تعرض مرارا لاختبارات عند نقاط التوتر الطائفية. فقد كشفت انتهاكات الساحل في مارس واضطرابات السويداء في يوليو/تموز حدود السيطرة على القوات المدمجة حديثا. إذ ارتكبت وحدات غير منضبطة تجاوزات وعمليات ثأر وإجراءات مفرطة، ما عمق انعدام الثقة بين المكونات المجتمعية.

ومع ذلك، تشير التطورات الأخيرة إلى بعض التعلم المؤسسي. فقد حال التدخل السريع للحكومة في حمص عقب هجمات قبلية على أحياء علوية دون اندلاع مواجهة طائفية أوسع. إذ ساهم الانتشار المنسق، والتشاور مع وجهاء محليين، وتشديد السيطرة العملياتية في منع تفاقم العنف، على الضدّ من الاستجابات السابقة التي اتسمت بردود فعل متأخرة.

وبالمثل، شكل القرار بحماية الاحتجاجات العلوية الأخيرة في الساحل بدلا من قمعها تحولا لافتا. فقد صدرت تعليمات للقوات الأمنية بحماية المتظاهرين، وكبح الوحدات المحلية، والسماح بطرح المظالم علنا، وهو نهج ساعد على نزع فتيل التوتر بدلا من إشعاله.

شكل القرار بحماية الاحتجاجات العلوية الأخيرة في الساحل بدلا من قمعها تحولا لافتا

هذه التحسينات مهمة، لكنها لا تعالج المشكلات الجوهرية: قطاع أمني مجزأ، ضعف في الانضباط، ووحدات ما تزال مرتبطة بقادة محليين أكثر من ارتباطها بالقيادة المركزية.

نافذة تضيق

يمكن القول إن السنة الأولى من الانتقال في سوريا أثمرت إنجازات بارزة، لكنها كشفت أيضا، الحدود التي تكبل نموذج الحكم الذي يقوم على السلطة المركزية، والمشاركة المضبوطة بعناية، وتأجيل أصعب القرارات. لقد وفّر الاستقرار والاختراقات الدبلوماسية للحكومة فسحة من الوقت، لكنها ليست بلا نهاية. فالتوقعات الشعبية تتصاعد بوتيرة أسرع من قدرة الدولة على تلبيتها، والفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع المعيشي تتسع باستمرار. هذه الفجوة المتنامية باتت اليوم خط الصدع الذي يرسم مسار سوريا المقبل.

المهمة المقبلة لم تعد مجرد الحفاظ على النظام، بل مواجهة الأسئلة البنيوية التي جرى تجنبها في السنة الأولى: كيف يوزع النفوذ، كيف تطبق العدالة، كيف تدار القوات الأمنية، وكيف تعالج الأعباء الاقتصادية. هذه النقاشات قد تكون صعبة، لكن تأجيلها أشد خطورة.

وفي النهاية، إذا كانت السنة الماضية قد أظهرت ما يمكن أن يعد به الانتقال، فإن السنة المقبلة ستحدد ما إذا كانت أسسه قادرة على الصمود.

font change

مقالات ذات صلة