ماذا يحصل في منطقة السيدة زينب جنوب دمشق؟

ذريعة حماية مقام السيدة زينب كانت الحامل الرئيس لبداية التدخلات العسكرية الإيرانية و"حزب الله" عبر الميليشيات العابرة للحدود

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مقام السيدة زينب، في الضاحية الجنوبية لدمشق، في 6 يوليو 2025

ماذا يحصل في منطقة السيدة زينب جنوب دمشق؟

شهدت منطقة السيدة زيبب جنوب دمشق توترا قبل أيام. هذا التوتر على الرغم من تصويره ببعد طائفي (سني-شيعي)، إلا أنه أعقد من ذلك تاريخيا وحاضرا، خصوصا إذا ما نُظر إلى مكانة منطقة السيدة زينب في سياق الثورة السورية، وتعقيدات التدخلات والتداخلات العسكرية فيها على المستوى الداخلي والإقليمي.

وقد ظهر هذا التوتر بعد قيام أدهم الخطيب، ممثل مراجع الطائفة الشيعية في سوريا، بافتتاح حسينية الزهراء في منطقة السيدة زينب، حيث خرجت مظاهرات ضد الشيخ الخطيب ونهجه في المنطقة، وعلى الرغم من أن المظاهرات خرجت في نطاق محدود، فقد أثارت مخاوف من انفجار خلاف طائفي أبعد من جغرافيا السيدة زينب، فتدخلت الحكومة السورية فورا لحل الإشكال وطالبت الخطيب بإغلاق الحسينية مؤقتا إلى حين تهدأ الأمور.

ذريعة حماية مقام السيدة زينب كانت الحامل الرئيس لبداية التدخلات العسكرية الإيرانية و"حزب الله" اللبناني عبر الميليشيات العابرة للحدود. عمليات التجنيد ونقل المقاتلين إلى سوريا من لبنان والعراق وإيران لسوريا في عام 2012 كانت تأتي في سياق سردية حماية مقام السيدة زينب من "الإرهاب"، ومع مرور الوقت بدأت تلك الميليشيات العبور إلى مناطق أخرى وفق سرديات أوسع كـ"طريق القدس يمر من دمشق" و"المقاومة" و"محاربة الشيطان الأكبر"، إضافة إلى عمليات تجنيد للسوريين المحليين في صفوف هذه الميليشيات إما باستخدام السرديات السابقة، وإما من خلال استغلال الظروف الاقتصادية الصعبة التي كان يمر بها السوريون.

خطوات إيران خلال الأشهر الماضية تركزت على محاولة إعادة تفعيل خلاياها، ومساعدة "حزب الله" في تهريب سلاحه وسلاحها من سوريا إلى لبنان

المظاهرات التي خرج بها أهالي المنطقة ليست في سياق إغلاق الحسينية أو الوقوف في وجه الشيعة كطائفة، وإنما جاءت كرد فعل أثرت فيه سنوات طويلة من تدخلات إيران و"حزب الله" اللبناني في المنطقة، حيث كان يتم افتتاح الحسينيات ومراكز الكشافة والمراكز الثقافية ليس بهدف ممارسة العشائر الدينية، وإنما في سياق افتتاح مراكز تجنيد لصالح الميليشيات الإيرانية. هذه الاستراتيجية التي اعتمدتها كل من إيران و"حزب الله" اللبناني كان لها دور كبير في خلق شرخ اجتماعي وديني بين السنة والشيعة في الأماكن ذات الثقل العسكري والمالي لإيران و"حزب الله".

إيران لم تستسلم لخسارتها

منذ اليوم الأول لدخوله دمشق أوضح الرئيس السوري أحمد الشرع موقفه من التدخلات الإيرانية في سوريا، فعدّ أن إيران حوّلت سوريا إلى مصنع للكبتاغون، وتوعّد بمحاربة صناعة المخدرات وتهريبها، خطاب الشرع كان رسالة واضحة لإيران بأن العهد الجديد لا مكان لها فيه، وهو يعني ضربة استراتيجية كبيرة للطموحات الإيرانية في وصل إيران بلبنان عبر سوريا والعراق، كما أن الحرب ضد "حزب الله" من قبل إسرائيل، واغتيال أبرز قاداته على رأسهم الأمين العام الأسبق حسن نصرالله، أضعف إيران أكثر في المنطقة، ولإعادة توازنها العسكري فإن إيران تحتاج لإبقاء سوريا معبرا لها من أجل دعم "حزب الله" اللبناني في إعادة بناء قدراته وهيكليته.

رويترز
جدارية تُظهر علم "لواء زينبيون" وهو جماعة مسلحة باكستانية شيعية، في حي السيدة زينب في دمشق، سوريا، 14 ديسمبر 2024

خطوات إيران خلال الأشهر الماضية تركزت على محاولة إعادة تفعيل خلاياها، ومساعدة "حزب الله" في تهريب سلاحه وسلاحها من سوريا إلى لبنان، وإعادة تفعيل شبكات إيران في سوريا عبر مقاتلين سابقين في النظام السوري أو ضمن ميليشياتها السورية. وبحسب معلومات "المجلة" فإن منطقة السيدة زينب ما زالت إحدى المناطق التي تحوز اهتمام إيران وميليشياتها، سيّما أن المنطقة تشهد بشكل مستمر وصول وفود من الحجاج الشيعة من إيران والعراق ولبنان وبلدان أخرى.

خلال شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني حاولت الميليشيات الإيرانية بشكل مكثف إعادة التواصل مع بعض العناصر الذين كانوا يتبعون لها في منطقة السيدة زينب، كما أنها تحاول تفعيل عمليات التشييع في المنطقة، والتي كانت بشكل رئيس تتم عبر الحسينيات والمراكز الثقافية، وعلى الرغم من أن هذه الجهود ليست واضحة وكبيرة فإنها تأتي في سياق التحرك البطيء الحذر، فالميليشيات الإيرانية تعلم أنها لن تتمكن من العمل بحرية وبشكل علني في ظل وجود الحكومة السورية الحالية التي وضعت نصب عينيها إنهاء المشروع الإيراني في سوريا، ومنع طهران من استخدام الأراضي السورية كممر لدعم "حزب الله" اللبناني.

على الرغم من أن الحكومة السورية يمكنها العمل مع الوقت على عرقلة مخططات الميليشيات الإيرانية، فإن مراقبة الزوار ومنع الاجتماعات يبقى من المهام الصعبة التي تواجه الحكومة السورية

وبحسب معلومات "المجلة" تستخدم الميليشيات الإيرانية في محاولة العودة البطيئة إلى الساحة السورية أربعة طرق، الأولى عبر إعادة تفعيل عمليات التشييع، والثانية عبر التجنيد الممنهج والحذر للخلايا السابقة التي كانت تتبع لها، والثالثة عبر محاولة إبقاء خط تواصل مع المهربين التقليديين للحفاظ على قدرتها في نقل المخدرات والسلاح عبر الحدود، أما الرابعة فهي شيطنة الحكومة السورية الجديدة عبر نشر سرديات تحريضية تتهم خلالها الحكومة السورية بأنها هي من تُسلم إسرائيل الجنوب السوري وأن الحكومة السورية حليف لإسرائيل وستقف في وجه المقاومة التي دعمتها إيران و"حزب الله" اللبناني.

أ.ف.ب
مقاتلون سوريون يتفقدون قاعدة تابعة للواء "فاطميون" المدعوم من إيران في بلدة خان شيخون، في محافظة إدلب شمال غرب سوريا في الاول من ديسمبر 2024

ويأتي تركيز الميليشيات الإيرانية على منطقة السيدة زينب لعدّة اعتبارات، أولها موقع المنطقة الديني والجغرافي، فهي إحدى بوابات دمشق نحو الجنوب عبر الطريق (110)، قريبة من مداخل البادية السورية التي ترتبط بالمعابر الحدودية غير الشرعية مع العراق التي تستخدمها شبكات التهريب التابعة للميليشيات الإيرانية، إضافة إلى أن السيدة زينب هي ذات مكانة دينية عالية للشيعة، يأتيها الزوار والحجاج من كل مكان، وهذا يسمح للميليشيات الإيرانية وأتباعها في سوريا بفرصة عقد اجتماعات من خلال التسلل على أنهم حجاج وزوار لمقام السيدة زينب. وعلى الرغم من أن الحكومة السورية يمكنها العمل مع الوقت على عرقلة مخططات الميليشيات الإيرانية، فإن العامل الأخير (مراقبة الزوار ومنع الاجتماعات) يبقى من المهام الصعبة التي تواجه الحكومة السورية كون أن تشديدا عاليا قد يُفهم على أنه محاولة لتقييد الطائفة الشيعية.

السيدة زينب زمن الثورة... صراع القوى والنفوذ  

على الرغم من أن إيران بدأت تقوية نفوذها في منطقة السيدة زينب منذ عام 2000 من خلال المراكز الدينية والقوّة الناعمة، إلا أنه وفي عام 2012 تحولت جهود إيران إلى النفوذ العسكري،  فبدأ "حزب الله" اللبناني وإيران بنقل وتجنيد المقاتلين بحجة حماية مقام السيدة زينب، "حزب الله" أرسل مقاتليه من لبنان، ثم أرسلت إيران قوى وعناصر مع مرور الوقت غير سوريين وجنّدت بينهم سوريين لزيادة القوة العسكرية، هؤلاء جميعا شكلوا فصائل قويّة مثل "فاطميون" و"زينبيون"، و"ميليشيا أبو الفضل العباس"، و"فدائيو السيدة زينب"، و"حركة النجباء"، وغيرهم من الميليشيات المحلية والعابرة للحدود.

التحول الذي طرأ على منطقة السيدة زينب كان له وقع كبير بين السوريين، فقد تحولت من موقع ذي مكانة دينية إلى مركز عسكري وأمني ومعلوماتي لـ"الحرس الثوري" الإيراني والميليشيات التابعة له

بحلول عام 2017 كانت منطقة السيدة زينب قد تحوّلت إلى مركز عمليات وتخطيط لـ"الحرس الثوري" الإيراني في سوريا، سواء على مستوى القواعد العسكرية والعملياتية، أو على مستوى المراكز الدينية وأماكن سكن للضباط الإيرانيين واللبنانيين والأفغان والعراقيين والسوريين. كما أن موقع السيدة زينب الاستراتيجي ساعد إيران، فهي قريبة من مطار دمشق الدولي الذي كان يحتوي أهم مركز عملياتي لـ"الحرس الثوري" الإيراني استهدفته إسرائيل أكثر من مرّة، كما أن السيدة زينب تقع على طريق الجنوب والطريق الواصل بمطار خلخلة العسكري.

أ.ف.ب
عنصر من قوات الأمن يقف حارسًا على سطح مقام السيدة زينب، في الضاحية الجنوبية لدمشق، في 6 يوليو 2025.

التحول الذي طرأ على منطقة السيدة زينب كان له وقع كبير بين السوريين، فقد تحولت من موقع ذي مكانة دينية إلى مركز عسكري وأمني ومعلوماتي لـ"الحرس الثوري" الإيراني والميليشيات التابعة له، فكان من الصعب جدا لأي سوري أن يدخل السيدة زينب دون المرور في حواجز تفتيش لعناصر غير سوريين، حتى إن كثيرا منهم تم منعه من دخول المنطقة حتى أولئك الذين لديهم منازل فيها. وعلى الرغم من أن نظام الأسد هو من سهّل للميليشيات الإيرانية تعزيز نفوذها في السيدة زينب وتحويل المنطقة إلى ما بات يُسميها السوريون "العاصمة الإيرانية في سوريا"، إلا أن الأسد استشعر خطر التحول في المنطقة على نظامه، فإسرائيل باتت تكثف ضرباتها على منطقة السيدة زينب، ومطار دمشق الدولي، والقواعد العسكرية المحيطة بالمنطقة، كونها تحولت إلى مناطق نفوذ إيرانية.

ونتيجة الخطر الذي استشعره الأسد في عام 2021، بدأت القوى التابعة لماهر الأسد في ذلك العام محاولات لإعادة السيطرة على الوضع، حيث شهدت منطقة السيدة زينب توترات عسكرية واشتباكات في بعض الأحيان بين الميليشيات الإيرانية وعناصر من الفرقة الرابعة امتدت لأشهر، إلا أن النفوذ الإيراني كان أقوى من إرادة الأسد في تخفيف الضغط على مطار دمشق دولي. وبعد التوترات التي انتهت بتسليم الأسد للأمر الواقع، عززت إيران نفوذها ووجودها العسكري في المنطقة وبدأت تتمدد إلى القرى والمدن القريبة (ببيلا، الحجيرة)، كما بدأت بتهجير سكان المناطق تلك وإسكان عناصرها وقادتها في المنطقة، وهو ما جعل الغارات الإسرائيلية تزداد كثافة وتركيزا في المنطقة، وفي أواخر عام 2023 اغتالت إسرائيل عبر غارة جوية القيادي الإيراني سيد رضي موسوي، والذي يُعد من أبرز المستشارين الإيرانيين في سوريا.

الحكومة السورية تُدرك تعقيد المشهد، لذلك تعتمد على العمليات العسكرية الدقيقة التي تستهدف خلايا إيران أو مخازن السلاح، أو عمليات التهريب المتحملة للسلاح من المنطقة

ومع بداية معركة ردع العدوان أواخر نوفمبر/تشرين الثاني التي أطاحت بالنظام السوري، بدأت إيران نقل السلاح والعناصر والقادة الموجودين في السيدة زينب إلى كل من لبنان والعراق، لكن في الوقت نفسه أبقت على عدد من عناصرها المحليين، وسلاح لم تستطع إيران وميليشياتها سحبه من سوريا. هذه التركة من الشبكات المعقدة التي بنتها إيران في المنطقة لن يكون من السهل تفكيكها بسرعة من قبل الحكومة السورية، سيّما أن التدخل القوي في المنطقة سيؤدي إلى مشاكل قد تُفهم على أنها تهجم على الطائفة الشيعية في سوريا.

الحكومة السورية تُدرك تعقيد المشهد، لذلك تعتمد على العمليات العسكرية الدقيقة التي تستهدف خلايا إيران أو مخازن السلاح، أو عمليات التهريب المتحملة للسلاح من المنطقة. والحدّ من نفوذ رجال الدين الشيعة الذين كان لهم دور كبير في عمليات التجنيد والتشييع التي شهدتها المنطقة لصالح الميليشيات الإيرانية. يُضاف إلى ذلك تعقيد أمام الحكومة السورية لحل قضايا مطالبات المدنيين باستعادة أملاكهم. 

إيران لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في سوريا، خلقت فجوة كبيرة بين السنة والشيعة، وعززت مخاوف الشيعة من السنة، لأن عمليات التحريض والشيطنة التي اعتمدتها إيران هي الحامل لبقائها كحامٍ ومساعد للشيعة والمقامات الدينية في سوريا. لذلك تبقى أمام الحكومة السورية جهود كبيرة على مستوى بناء الثقة من جديد، تفكيك العلائق الإيرانية في المنطقة، ومنع الميليشيات الإيرانية من إعادة التغلغل في المنطقة، لأن تغلغلها يعني تنفيذ عمليات ضد الحكومة السورية لزعزعة الاستقرار، فحالة عدم الاستقرار هي هدف إيران وميليشياتها وطوق النجاة بالنسبة لهم.

font change