ثغرات في نهج دمشق تجاه المقاتلين الأجانب

ثغرات في نهج دمشق تجاه المقاتلين الأجانب

استمع إلى المقال دقيقة

ربما انتهت المواجهة الأخيرة بين قوات الأمن السورية و"فرقة الغرباء" بوقف إطلاق النار. و"فرقة الغرباء" هي فصيل بقيادة جهادي فرنسي متمركز في مخيم حارم بإدلب، إلا أن الأزمة لا تزال بعيدة عن الحل. فما بدأ كعملية لاعتقال زعيم الجماعة عمر أومسين، تحول إلى اختبار حاسم للحكومة الانتقالية السورية التي يرأسها أحمد الشرع.

وعلى الرغم من توقف إطلاق النار، أعادت الاشتباكات الأسئلة الصعبة إلى الواجهة: ما هو مستقبل المقاتلين الأجانب في سوريا؟ ومن سيُسمح له بالبقاء، وتحت أي شروط؟ ليتربع على عرش هذه التساؤلات السؤال الأكثر إلحاحا، هل يمكن للسلطات الانتقالية التعامل مع هذه القضية دون إثارة صراع أوسع؟

إذا اعتبرنا ما جرى في حارم مؤشرا، فلا يبدو أن لدينا جوابا مؤكدا على أي من هذه الأسئلة. ربما نجحت الحكومة في نزع فتيل الأزمة الحالية واحتوت المواجهة المباشرة، غير أنها لم تعالج الأسباب البنيوية التي لا تزال قائمة. ففي إدلب، نادرا ما يكون وقف إطلاق النار أكثر من مجرد توقف عابر. والسؤال الحقيقي هو ما إذا كانت السلطات الانتقالية مستعدة لمواجهة التبعات السياسية والأمنية للوقوف بوجه العناصر الأجنبية الرافضة لنظام ما بعد الأسد.

نمط مألوف

في وقت متأخر من ليلة 21 أكتوبر/تشرين الأول، حاصرت القوات السورية مخيم حارم شمال غرب إدلب. وكان هدفها اعتقال عمر أومسين (المعروف أيضا باسم عمر ديابي)، وهو جهادي فرنسي من أصل سنغالي مُدرج على قوائم عقوبات الأمم المتحدة والولايات المتحدة لتجنيده مقاتلين ناطقين بالفرنسية للقتال في سوريا.

جاءت العملية في أعقاب انتهاكات مزعومة متعددة ارتكبتها جماعته، كان آخرها والشرارة التي فجرت المواجهات اختطاف طفلة فرنسية مسلمة تبلغ من العمر أحد عشر عاما. اتهم المسؤولون "فرقة الغرباء" بالعمل خارج نطاق القانون وإخضاع المدنيين للنظام الخاص الذي فرضه أومسين داخل المخيم. عندما رفض أومسين الاستسلام، تصاعد الموقف، فنُشرت التعزيزات، وازدادت حدة الاشتباكات. وبدا الهجوم على المخيم وشيكا.

كشفت مواجهة حارم ما يدركه الكثيرون في دمشق: ثمة افتقار حقيقي في سوريا إلى سياسة متماسكة تجاه المقاتلين الأجانب

أثارت هذه الخطوة ردود فعل غاضبة انتشرت كالنار في الهشيم على الإنترنت، وأدت إلى تفاقم التوترات في أوساط الشبكات والجماعات المسلحة. واتهم أومسين الحكومة بالتصرف نيابة عن المخابرات الفرنسية وخدمة لمصالحها التي تستهدف المهاجرين الفرنسيين، مما عزز شكوك الفصائل الجهادية التي كانت متخوفة أصلا من الشرع الذي تخلى عن تبنيه لمواقف إسلامية متشددة ليتحول إلى انتهاج أجندة أكثر تركيزا على الدولة.

انسحاب تكتيكي


لمنع المزيد من التصعيد، تدخلت عدة شخصيات مسلحة أجنبية بارزة، معظمها من الفصائل التركستانية والأوزبكية، ولعبت دور الوسيط بين الفرقاء. وقد أفضى تدخلهم إلى وقف مؤقت لإطلاق النار، أوقف الاشتباكات وأنهى التحريض، وأحال قضية أومسن إلى محكمة شرعية.
بيد أن هذه الهدنة تبدو هشة للغاية. فهي لم تنشأ عن هياكل مؤسسية أو قضائية، بل جاءت نتيجة لمفاوضات غير رسمية بين أطراف مسلحة ضمن الفضاء السياسي المسلح. ولا تتضمن أي آليات تطبيق سلمية، وهي في حقيقة الأمر رهينة لأهواء الفصيل ذاته الذي تسعى الحكومة لكبح جماحه وفرض سيطرتها عليه.
وهذه السابقة لا تبعث على الكثير من الاطمئنان. فقد انهارت اتفاقات وقف إطلاق نار مماثلة في إدلب مرة تلو الأخرى، وربما أشهرها تلك الاتفاقات بين "هيئة تحرير الشام" والفصائل المنافسة لها، لانعدام الثقة المتبادل، وضعف الرقابة، ورفض الأطراف قبول قرارت التحكيم المشترك.

النهج المزدوج


كشفت مواجهة حارم ما يدركه الكثيرون في دمشق: ثمة افتقار حقيقي في سوريا إلى سياسة متماسكة تجاه المقاتلين الأجانب. وتستمر النقاشات الداخلية، ولاسيما بشأن المسلحين غير الراغبين في تسليم سلاحهم أو الاندماج والانخراط في صفوف الجيش السوري، ولكن لم تُعتمد أي استراتيجية موحدة بعد.
ووفقا لمصادر وزارة الدفاع، تتبع الحكومة الآن نهجا مزدوجا. يُعامل المقاتلون المندمجون (مثل الوحدات التركستانية والأوزبكية العاملة ضمن الفرقتين 82 و84) كجنود نظاميين، ويتقاضون رواتب حكومية، ويتبعون توجيهات القيادة، ويخضعون للانضباط العسكري.

ومن جهة ثانية، تبقى جماعات مثل "فرقة الغرباء" خارج هذا الإطار. فهي لا تخضع لسلطة الدولة، وترفض تسريح عناصرها، وتلتزم بأجندات أيديولوجية عابرة للحدود. وتتزايد مخاوف المسؤولين إزاء هذه الفصائل حيث يرون فيها تهديدات أمنية مؤكدة. وفي حين يدعو بعض صناع السياسة إلى إعادة الإدماج التدريجي ونزع السلاح عن طريق التفاوض، إلا أن صبرهم محدود. وفي هذا السياق، ربما كان ادعاء الاختطاف الذي أطلق شرارة الاشتباك برمته قلقا مشروعا وذريعة سياسية مفيدة لإعادة فرض السيطرة على مخيم يتمتع باستقلال ذاتي في ما يشبه دولة ضمن الدولة.

توازن حساس


تحظى دمشق بالتفوق والأفضلية عسكريا. فهي تسيطر على المجال الجوي، وتتمتع بقوة نيران متفوقة، وتمتلك شبكة استخبارات واسعة. أما سياسيا، فهي تقف على أرض أقل ثباتا، كمن يسير في حقل ألغام.
فمن جهة، تهدد حملة قمع عنيفة بتفتيت التحالفات الهشة ودفع المتشددين إلى أحضان فلول تنظيم "داعش" أو غيره من الجهات المتشددة التخريبية. ومن جهة ثانية، أي تحرك خجول أو غير متسق سوف يثير انتقادات من الحكومات الغربية، ويعمق الشكوك العامة حول قدرة الدولة على حكم البلاد وفرض النظام.
ولا يمكن لسوريا أن تتحمل الترنح بين مواجهة هنا وأخرى هناك. قد تكسبها الهدن المؤقتة والترتيبات الارتجالية بعض الوقت، لكنها لن تبني السلام. ففي ظل غياب سياسة متماسكة واضحة وطويلة الأمد؛ سياسة تجمع بين تطبيق الأمن بشكل موثوق ومسارات منظمة للتسريح أو الإدماج أو الإعادة إلى الوطن، ستبقى الحكومة عالقة في دوامة مواجهات مرهقة.
إن الاختبار الحقيقي للقيادة الانتقالية في سوريا لا يكمن في قدرتها على الانتصار في الأزمة المقبلة، بل فيما إذا كانت قادرة أصلا على وأد أي أزمة ومنعها من الاندلاع.

font change